الرسام اللبناني رضوان الشهال يعود إلى الذاكرة من بوابة باريس

من أجل ألا يندثر نتاج الرسام رضوان الشهال الفني ويبقى أسير النسيان، وتكريماً لدوره الريادي، تنظم جمعية تراث طرابلس معرضاً يقام في مكتبة متحف معهد العالم العربي في باريس (22-24 نوفمبر “تشرين الثاني” 2024)، في سياق الأنشطة المرافقة لمهرجان “طرابلس عاصمة للثقافة العربية”، بالتعاون مع رئيس متحف معهد العالم العربي جاك لانغ ومديرة مكتبة المعهد جليلة بوحلفايا.

يرافق المعرض صدور كتاب بعنوان “الفنان رضوان الشهال: الرسم بخطوط من نور”، كتبه بالعربية الناقد والفنان فيصل سلطان، وترجمته للفرنسية رئيسة جمعية تراث طرابلس جمانة الشهال تدمري. يلقي الكتاب الضوء على مسيرته ككاتب ومفكر ورسام، رافق العصر الذهبي للإنتاج الأدبي والفني في لبنان وبعض الدول العربية. “كان من طراز المبدعين الكبار الذين عاشوا في الظل حياة شاملة منغلقة على نفسها، أشبه بتكوين الجوهرة الثاوية بعيداً بين شقي الصدفة، والمنتظرة أن تُكتشف، ولا سبيل لمعرفتها إلا من خلال جمع شتاتها من كتابات ورسوم ولوحات، من أجل تحقيق الإحاطة شبه الكاملة بسيرته الفنية التي تتجاوز الزمن، فيصبح ماضيها حاضرها”، كما كتب الناقد سلطان قوله: “حين نتأمل كتب الأدب والشعر في النصف الثاني من القرن الـ20 تطالعنا رسوماته كرؤى رومانسية ساحرة تحمل في طياتها ولادة فصل جديد من فصول تاريخ التبادل ما بين الفن والأدب”.

أول معرض بعد رحيله

يعتبر المعرض الأول من نوعه بعد رحيل الفنان رضوان الشهال عام 1988 وهو يعمل على استكشاف رسوماته في مجالات الأدب وفن الكاريكاتير الاجتماعي، من خلال الاستعانة بمقتنيات مؤسسة الأديب الكبير مارون عبود التي يديرها ابنه الأستاذ وليد عبود، ومجموعة أخرى من مقتنيات عائلة الفنان. اللافت أن رضوان الشهال، الذي ذاعت شهرته كرسام طباعي محترف في تصوير أغلفة الطبعات الأدبية والشعرية الفاخرة، فضلاً عن شهرته كرسام وجوه ومناظر، لم يعرض ما كان ينجزه من رسوم ولوحات، ما خلا معرضاً وحيداً أقامه في مطلع العقد الأخير من حياته، في قصر نوفل في طرابلس عام 1981، ربما لأنه غالباً ما كان يقدم لوحاته ورسومه كهدايا للأصدقاء والأدباء والشعراء والصحافيين المقربين. لذا بقيت رسوماته في محفورات “الغراتاج” Grattage ولوحات المائيات والحبر الصيني، مشتتة وموزعة في عديد من المجموعات الخاصة (في لبنان وسوريا ومصر وفرنسا). وهي في غالبيتها رسوم كاريكاتورية ورسوم لمؤلفات أدبية وشعرية أنجزها ما بين عامي 1945 و1980. لعل أشهرها رسومه لكتابي “لقاء” و”المجدلية” للشاعر سعيد عقل، التي تعتبر بمثابة تحليل شغوف لأفكاره ومواقفه ورؤيته للطبيعة والإنسان، فضلاً عن رسومه التي رافقت كتابات ميخائيل نعيمة ومارون عبود.

عُرف رضوان الشهال في مطلع الخمسينيات كرسام واقعي، تميز أسلوبه التشخيصي بالوضوح والتناغم والصفاء وقوة التعبير في الشكل والمعنى. كان واحداً من الجيل الجديد من الرسامين في الصحافة اللبنانية مطلع الاستقلال في أربعينيات القرن الـ20، الذين عملوا على التعمق بخصائص الرسم الإعلاني الذي يدخل مباشرة في غمار جمالية الطبعة الفنية. خاض في الرسوم الإيضاحية المرافقة للمنشورات الشعرية والأدبية والقصص التاريخية المصورة، مما أكسبه شهرة واسعة بعد أن ذاع صيته في الأوساط الأدبية والإعلامية كرسام محترف (في المطبعة والصحيفة والمجلة ودور النشر). قدم نظرة جديدة في رسم الوجوه القروية اللبنانية بعنفوانها وشهامتها فضلاً عن المواضيع الإنسانية التي تميزت بالرمزية والعذوبة الشعرية. كان مواظباً في رسومه على إبراز المهارة والإتقان في قطف المضامين التي تعانق الواقع الروائي المكتوب، في محاولة لقراءة باطنه المرئي، الممهور بالخيال، بهدف الارتقاء بالذوق العام ونشر حب الجمال والطبيعة.

ركز رضوان الشهال اهتمامه على مناخ الحركة الشعرية الخفية الكامنة في مظاهر التنقيط واللمسات الظلية “الهاشورية”، حتى أضحت بمثابة المنحى الخاص الدال على أسلوبه المرهف في توزيع الظل والنور، سواء الرسم بقلم الرصاص أو الرسم بريشة الحفر على الصفائح الكرتونية السوداء. “طقوس الظل والنور التي تضيء في رسومه بعض ما غمض عنها من عصب الوجود، وهي تروي في إيقاعات الحبر الأسود رؤى وحكايات لحياة متنامية في أغوار النفس الإنسانية، توحي أحياناً بجراح عميقة في الذات، حيث يتقدم الحزن على الفرح والمأساة على الملهاة” كما جاء في نص الكتاب.

بين مصر ولبنان

كان رضوان الشهال في رسوماته المتنوعة يترصد كتابات جيل كامل من الأدباء والشعراء اللبنانيين والعرب. أنجزها بمهارة وتنظيم متكامل، من منطلقات تحلية الكتاب وتزيينه، استجابة لمتطلبات المهنة كرسام في المطبعة أو دور النشر وشركة الإعلان. كان صاحب مدرسة جديدة في طباعة المنشورات الأدبية الفاخرة، لما ينطوي عليه أسلوبه من الوضوح والطلاوة مع توافر الصور الشعرية والتشبيهات الرمزية الموفقة، مما جعلها مضيئة أي كاشفة لروح النص بمهارة ويسر. كانت رسوماته في حلتها الأدبية ضرورية لكي يتنفس النص الهواء الذي جلبه لها. فقد أمسك بأسرار الطباعة الفاخرة مع التحولات التي رافقت استخدامها بوسائل “الزنكوغراف” التي بدأت بالحفر على النحاس والمعادن وتطورت حتى وصلت إلى الطباعة بالليزر. كانت أغلب رسوماته (المنشورة) في كتب الأدباء والشعراء بالأسود والأبيض. كان متنبهاً كي لا تكون سطحية في مرافقتها المعاني الرمزية الكامنة في النصوص، بل غالباً ما كان يجسد تلك الرسومات في تأليف متناغم يستند إلى فكر خلاق، ينظم ويصوغ مدارات الاشتغال على الرؤى الواقعية المفتوحة على خيالية توحي بأشياء لا تُرى إلا بعين القلب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تمكن رضوان الشهال من ابتكار شخصيات كاريكاتيرية وقدمها ببساطة وسلاسة محافظاً على الحد الأدنى من المبالغة. تأثر في بداياته الفنية التي قضاها في مصر (عام 1937) برسوم مجلة “الفكاهة” وأسلوب رسامي مجلة “روز اليوسف”، ولم يخف إعجابه وتأثره بشخصية “المصري أفندي” التي أطلقها الرسام ألكسندر صاروخان (1898- 1977)، مما مهد لصداقة نشأت بينهما في مصر في مطلع الخمسينيات. فقد أسهم رضوان الشهال في إقناع صاروخان بالانضمام إلى الأسرة الفنية لـ”دار الصياد” في بيروت، وساعده على إقامة معرض لرسوماته عام 1955، حاز على أثره الفنان صاروخان وساماً من الحكومة اللبنانية. والمعروف أن شخصية “المصري أفندي” كانت قد ظهرت على صفحات مجلة “روز اليوسف” عام 1932 وهي شخصية تتصف بالوعي الشعبي العميق وتمثل فلسفة الناس في الشارع.

شغلت مسألة تكريس الرسم الكاريكاتيري الاجتماعي في الصحافة اللبنانية اهتمام رضوان الشهال خلال تعاونه مع “دار الصياد”، خصوصاً أن دراسته للحقوق في مصر جعلته قريباً من هموم الناس. كان سباقاً في ابتكار شخصية “أبو خليل” الشهيرة بزي القروي اللبناني، في سلسلة من الرسوم الانتقادية التي تتعرض للسلوك الشعبي بهدف الكشف عن هواجس الناس وأزماتهم الحياتية، على اعتبار أن الكاريكاتير الاجتماعي يلامس الكاريكاتير السياسي. كان شغله الشاغل يتمثل في تطوير الرسم الكاريكاتيري نفسه، في شكل بسيط وسلس فيه من البلاغة ما يقربه من اللوحة، لذا اعتمد الرمز في لوحاته عن شخصية “أبو خليل” التي تحمل مضامين حرية التعبير عن قضايا عامة متجذرة في ذاكرة المجتمع اللبناني.

نقلاً عن : اندبندنت عربية