كتاب إيلينا فيرانتي الجديد يقع في ثلاثة فصول تمتد على 478 صفحة وتنقل تبادل مراسلات من عام 1991 وحتى عام 2016، مع العلم أن فيرانتي حافظت فيها على سرية هويتها وعلى التوقيع بالاسم المستعار الذي اختارته لنفسها “إيلينا فيرانتي”.
ثلاث مجموعات من الرسائل يلتهمها القارئ ليفهم السر خلف هذه الكاتبة المقنعة المجهولة التي تكتب نابولي من دون أن تمنح نفسها وجهاً ولا اسماً ولا هوية، ليكون هذا الكتاب محاولة لإرضاء فضول القراء والصحافيين حول شخصية الكاتبة من دون أن يفضح هويتها، ومحاولة لإيضاح أسباب تخفيها لأعوام طويلة وحتى يومنا هذا.
التشظي والتزعزع
إن العنوان الذي تختاره فيرانتي ليس اعتباطياً ولا عفوياً، فكلمة “فرانتوماليا” بالإيطالية المعاصرة تنتمي إلى اللهجة النابوليتانية، وهي مشتقة من فعل الطحن والتشظي والتفتيت، ليصبح بذلك معنى العنوان الإحساس بالتشظي والتجزؤ، ويرد تفسير العنوان في مواضع عدة من النص عدا عن ترجمة المترجم نفسه التي يوردها في الحاشية، فتكتب فيرانتي عن هذه الكلمة:
“الـ ‘فرانتوماليا’ هي منظر متزعزع، كتلة هوائية أو مائية من حطام لا حصر له، يفرض نفسه على “الأنا” باعتباره روحه الحقيقية والوحيدة. الـ ‘فرانتوماليا’ هي أثر معنى الضياع حين نتيقن من أن كل ما نظن أنه ثابت ومستدام وراسخ في حياتنا سيتحد في منظر الحتات ذاك، الـ ‘فرانتوماليا’ هي إدراكنا ببالغ الأسف حشد المتنافرات الذي رفعنا صوتنا منه خلال الحياة” (ص:121)، لتكون الـ “فرانتوماليا” تخلخل النظام وتزعزعه والابتعاد من الاستقرار فيه.
ويلاحظ قارئ الـ “فرانتوماليا” أن مقاطع عدة من الكتاب تعكس تشظيات الكاتبة الداخلية وأيضاً تدخل حيز دراسات سوسيولوجيا الأدب، وتجيب على تساؤلات كثيرة طرحها هذا العلم، فإيلينا فيرانتي تعالج في رسائلها وبطريقة بسيطة وسهلة وحميمة علاقة الكاتب بالكتابة وعلاقته بالقارئ، وعلاقته بعجلة النشر والترويج، وهي قضايا عالجها متخصصون في سوسيولوجيا الأدب مثل العملاقين الفرنسيين رولان بارت (1915-1980) وبيير وبورديو (1930-2002).
تعالج فيرانتي هذه القضايا انطلاقاً من تجربتها الخاصة ورؤيتها للأمور في محاولة منها لتبرير سبب تخفيها، إنما أيضاً في محاولة منها لصد المحاولات الدؤوبة لكشف هويتها، وهي محاولات حثيثة تكاد تقع في حيز تخطي الخطوط الحمر في أحيان كثيرة.
العلاقة بالكتابة
تكتب فيرانتي في مواضع كثيرة من رسائلها خوفها من الكتابة وقلقها من جودة نصوصها وقدرتها على الإبداع والخلق والتخييل الأدبي، وهو همّ كل كاتب مهما بلغ شأنه ومهما انتشرت كتبه، فلا تتوانى فيرانتي في التعبير عما يخالجها عندما تجلس إلى الورقة البيضاء فتقول مثلاً: “أباشر الكتابة في كل صباح قلقة من عدم قدرتي على التقدم بعد.” (ص: 47)، ويصل الأمر بهذه الكاتبة الإيطالية الذائعة الصيت التي يراها كثر خليفة الرائعة إلسا مورانتي (1912-1985) أن تعتبر نفسها بـ “مجرد امرأة تكتب عندما تحضر لديها الرغبة في الكتابة، وتنشر عندما لا تخجل كثيراً من نتيجة ما كتبته” (ص: 106).
وتورد فيرانتي في كتابها هذا أمثلة عن مقاطع وضعتها لكنها عادت وحذفتها وامتنعت من نشرها في كتبها، شارحة الأسباب والتفاصيل لتكون بذلك قد أدخلت قارئها إلى عمق عملية الخلق والكتابة والحذف، وإعادة الكتابة حتى لحظة النشر. مقطع طويل وجميل فنياً تورده فيرانتي من نص كتبته ثم حذفته ولم تضعه ضمن الرواية، تصفه مثلاً بأنه “يحوي على بوفارية مملة وسطحية” (ص: 170). وتكتب فيرانتي نصوصها ثم تحاكم الكاتبة في نفسها ليكتشف قارئ فيرانتي علاقة قلق وعشق تربط الكاتبة بصنعة الكتابة، وكأنها المتهم والجلاد معاً، فهي تكتب ثم تنقد وتنقض ما تكتبه، ليتحول فعل الكتابة إلى فعل جسدي يستهلك الكاتبة بكليتها، فتكتب فيرانتي في إحدى رسائلها “تمس الكتابة بمتاعبها ومتعها كل نقطة من الجسد” (ص: 68)، لتحول الكتابة إلى عمل جسدي فكري وجداني متكامل، جوهره هو قول الحقيقة في عالم يملؤوه الكذب.
أما عن مصدر إلهامها وسردها فلا تتردد فيرانتي في التحدث عن قراءاتها وفي تسمية كاتبات رائعات قرأت لهن وأثرن فيها مثل سيمون دو بوفوار (1908- 1986) وإلسا مورانتي وأليس مونرو (1931- 2024)، ولكنها في صراحة فائقة وصادمة تضيف “تعلمتُ الكتابة من التهام كتابات رجال على وجه الخصوص، وقلدتهم باستمرار. استغرقتُ وقتاً لأحب النساء اللواتي يكتبن” (ص: 280) وتتطرق فيرانتي إلى التسرع في الكتابة وفي خوض المعركة مع الورقة البيضاء، فتعتبر أن السرد في حاجة إلى وقت قد يطول، لكن الحكاية وحدها هي التي تحدده، ولكي تتخذ القصة شكلها وأسلوبها وسماتها النهائية تشترط اجتياز كثير من عمليات الاصطفاء، وتقول فيرانتي عن الكتاب وعن نفسها ضمناً لدى وضع قصة: “وغالباً ما نتسرع بكتابتها في وقت أبكر مما ينبغي، فينجم عن ذلك صفحات باردة” (ص:291).
العلاقة بالقارئ
أول ما يخطر في بال قارئ إيلينا فيرانتي هو سبب إصرارها على إخفاء هويتها، فمن المستغرب ألا ترغب هذه الكاتبة المترجمة عالمياً في جني ثمار نجاحها، لكن هذا الكتاب يجيب مراراً وتكراراً على هذا السؤال، فتعتبر فيرانتي أن “الكتابة مع عدم ضرورة الظهور تولد حيزاً من الحرية الإبداعية المطلقة” (ص:71)، كما أنها تضيف في توقف مطول منها على علاقة الكاتب بالحملات الترويجية بأن الكتب الجيدة لا تحتاج إلى كتّابها ليروجوا لها، فتكتب “أنا أعتقد أن الكتب ما إن تُكتب لا تحتاج إلى مؤلفيها أبداً، وإن كان لديها ما ترويه فستجد قراءها عاجلاً أم آجلاً وإلا فلا” (ص:12).
ومن الجميل والغريب أن تؤمن كاتبة بهذا المبدأ في عالم معاصر قائم على الحملات الترويجية والإعلانات ووسائل التواصل الاجتماعي التي تحول كل صغيرة إلى كبيرة، فتعتبر فيرانتي في رسائلها أن صيت المؤلف واسمه لا يجب أن يدخلا في معادلات الأدب وتقييم النصوص أو قراءتها، وهو إيمان مثالي “يوتوبي” ندر من يقول به، حتى إن فيرانتي تذهب إلى حد اعتبار المجهود الترويجي لأي كتاب مجهوداً عكسي النتائج سيسلب النص وهجه، وسيحول الانتباه عن النص إلى الكاتب وصورته وآرائه، وكم من كتاب ظُلم بسبب كاتبه، عدا عن أن القرّاء الجيدين لا يُعنون بحياة الكاتب ولا شخصيته ولا آرائه، بقدر ما يعنون بأن يستمر في إنتاج الكُتب التي تجلب لهم المتعة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تبدو علاقة فيرانتي بالقارئ وبنصوصها بعد النشر علاقة تفلّت وتملص وعلاقة غائبة، ففيرانتي لا تريد لأعمالها أن ترتبط بها، كما لا تريد لاسمها أن يؤثر في تلقي القراء لكلماتها، فبرأيها أن “الكتب الحقيقية تشق دربها ولا تنتمي إلى كاتبها بعد النشر” (ص:119). وتضيف لمن يتهمها بأنها خلقت هذه الدوامة من الغموض حول نفسها لتجتذب مزيداً من القراء بأن “عدم الظهور لا يساعدني في الحصول على قراء، كما تقول، إنما على الكتابة بحريّة” (ص:265)
العلاقة بالمدينة
تبدو علاقة فيرانتي بنابولي علاقة مد وجزر، فهذه الكاتبة التي وضعت رباعية نابولي وحملت المدينة بشوارعها وعاداتها وأصواتها ووجوهها إلى العالم، تمتلك علاقة غريبة مع هذه المدينة، فهي من ناحية تعشقها وتبجلها وترسمها وتنقلها للقراء بشغف ودقة وحميمية، لكنها من ناحية أخرى تظهر بذاءتها وسوقيتها ووحشيتها وظلمها.
مئات الحالات ومئات القصص ومئات العلاقات تنقلها فيرانتي، علاقات صداقة وحب وخيانة، علاقات انتقام وغضب واستبداد، علاقات سيطرة وتحكم وغيرة، ميازين كثيرة تتغير ومواقف بشرية كثيرة تحوّل رباعية نابولي إلى رباعية بشرية، فتقول فيرانتي “بالانتقال من جملة إلى أخرى لم نعد نتحدث عن نابولي، إنما عن العالم بأسره” (ص:302)، فعالم نابولي مصغر عن المجتمع البشري العام بنظامه الكامل المتشابك المتراكب المعقد.
“فرانتوماليا” كتاب رائع لإيلينا فيرانتي، ينطلق من آراء الكاتبة في الكتابة والقراءة والنقد وصنعة الأدب بصورة حميمية، ليصب في خانة سوسيولوجيا الأدب والعلاقات القائمة بين الفاعلين في الحقل الأدبي، وديناميكية تعاملهم مع بعضهم بعضاً، وتورد فيرانتي آراء جميلة ومتواضعة وحقيقية ومتماسكة تعكس فيها دواخلها ومخاوفها وتحديات الكتابة والتخييل والسرد، كما تظهر أسباب إصرارها على إخفاء هويتها، وهي من الصدق لدرجة أنها تعترف أنها بمجرد أن تفضح هويتها سيتغير الكثير في أسلوبها وإبداعها، وهو أمر لن تقبله يوماً.
نقلاً عن : اندبندنت عربية