كيف يمكن أن تتشكل حساسية فرنسية في روح تنشأ بين أروقة الاتحاد السوفياتي؟ إنه مسار غير مألوف، عسير على التكوين، لكنه يشكل نسيجاً واقعياً ومتخيلاً ومروياً في حياة أندريه ماكين وكتابته، ضمن تمازج الذاكرة بالحلم، واللغة بالمصير.

أندريه ماكين الروائي الروسي الفرنكوفوني، من مواليد عام 1957، روسي الأصل وفرنسي الجنسية، فاز بجائزة غونكور عام 1995 عن روايته “الوصية الفرنسية”، وأصبح عضواً في الأكاديمية الفرنسية عام 2016، لم يكن شيوعياً في يوم ما، بل إنه فر من الاتحاد السوفياتي، واستقر سراً في باريس عام 1987. اختار ماكين الانتماء بكليته إلى اللغة الفرنسية، مخلفاً وراءه صراعات الاتحاد السوفياتي الساحقة، مراقباً ما يحدث للآخرين الذين جذبهم هذا الحلم، ثم اكتشفوا عن كثب كم هم واهمون. لقد استحوذت الأيديولوجية الماركسية، قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، على عقول عدد من الناشطين الشيوعيين، الذين رأوا فيها فردوساً، بينما لم يتردد قلة من المعارضين عن وصفها بالجحيم.

لم يكن الفرنسيون استثناء من هذه الظاهرة، فقد شهدت بلادهم عدداً من هؤلاء الرحالة الحالمين، من أندريه جيد، الذي عاد محبطاً من الاتحاد السوفياتي، إلى موريس توريس، الذي هرب إلى شرق جبال الأورال خلال الغزو الألماني، مروراً ببول إيلوار، الذي كتب أنشودة لستالين، ولويس أراغون، الذي أمضى عاماً هناك ليعود بأضعف قصائده.

الحلم القرمزي

أحدث روايات أندريه ماكين، بعنوان “أسرى الحلم القرمزي”، تدور أحداثها حول لوسيان بيرت، الشاب الشيوعي العامل البسيط، الذي قرر في عام 1939 أن يغادر فرنسا، كي يكتشف النموذج الستاليني، يعتقل البطل بتهمة التجسس، ويعذب، ويدان، ثم يجند في الجيش الأحمر، ويسجن مرة أخرى، ويقضي 30 عاماً في معسكرات الكولاغ، ويتمكن لاحقاً من الهرب عبر انتحال هوية رجل ميت. ومنذ ذلك الحين، أصبح يدعى ماتفاي بيلوف. يخوض البطل رحلته عبر العقبات والتجارب والأحداث والاختبارات. إنه سجين حلمه، لكنه أيضاً سجين هوية زائفة، ونظام سياسي، وإجراءات شرطية وقضائية قمعية. يتعلم الحب من خلال ثلاث نساء: لويز، داريا، وجوليا. يختبر الحاجة، الجوع، الوحدة، تجاوز الذات والمشاركة، ثم يعود لفرنسا قبيل مايو 1968، ليجد نفسه غريباً وسط الحركات التحررية.

يمثل البطل لوسيان شخصاً تلقى ضربات الماضي والحاضر، إذ كان في الماضي ضحية سذاجته الخاصة. وفي الحاضر بدا مثل الحالم العائد من الجحيم، يجد نفسه في مواجهة شباب مايو 1968، الذين انشغلوا بثوراتهم الثقافية والجنسية، غير مدركين أن هذا الرجل، بآلامه وعذابه، قد نجا من جحيم حقيقي، لا يعرفون شيئاً عنه.

لعل ما يطرحه ماكين من خلال شخصية لوسيان هو اختفاء المثالية، وتحولها إلى شيء بلا معنى، في عصر نسبي يبتلع كل شيء. فقد أصبح العالم سائلاً، والأفكار قابلة للتلاشي، والأيديولوجيات القديمة حل محلها نزعات استهلاكية فارغة. وحين يحاول لوسيان مواجهة هؤلاء المثقفين بثقل الحقيقة التي يحملها، ينفجر فيهم صارخاً: “أنتم تتحدثون عن أعداء التقدم، تلعبون أدوار الثوار في ثوراتكم الجنسية والثقافية، تكتبون في صحفكم التي تمارس رقابة انتقائية. لكن، بفضلي أنا تعيشون، تأكلون، تدخنون سجائركم التي تخدر عقولكم عن الحقيقة، ثم تذهبون إلى فراشكم، في الحقيقة، قبحكم لا يحتمل! تعيشون، تكذبون، تمارسون الحب بلا حب، إذاً، أنتم لا تعيشون حقاً!”.

لوسيان، لم يعد يفهم كيف تغير وطنه الأم، فرنسا، أثناء غيابه الطويل، يجد نفسه ضائعاً مثل “غواص وسط راكبي الأمواج”، عاجزاً عن التأقلم مع الحداثة، حتى أن ذكرياته عن معسكرات الاعتقال لم تعد تثير اهتمام أحد. لكن، ما الذي أدى إلى اختفاء الحلم؟ ليس صلابة الأيديولوجيات فقط، بل نعومة الاستهلاك، إذ تحول العالم إلى مكان أكثر وحشية، لأنه يغرق الإنسان في راحة قاتلة.

ومع إدراكه لهذه الحقيقة، يشعر لوسيان بالاختناق، فما الذي يمكنه أن يتمسك به في عالم كهذا؟ يجد العزاء في الحب، في التأمل، في صداقة غير متوقعة مع أحد المحافظين، كلاهما يشعر بالاغتراب نفسه. وفي النهاية، يدركان أنهما ينتميان إلى زمن ولى، حين كان للحياة معنى أعمق من مجرد سلسلة من الملذات السريعة والتجارب العارضة.

لا يقدم ماكين حلولاً، لا يوجد “روس أشرار” أو “غربيون طيبون”، هناك خيبة أمل من الغرب، ومن المثقفين اليساريين في سان جيرمان، فبدلاً من إصدار الأحكام القاسية، يمنح بطله لمسة إنسانية، حتى في لحظات غبائه الأيديولوجي. والأهم من ذلك، أنه يروي قصته بأسلوب روائي مشوق، يجعل القارئ مشدوداً إلى هذا الجزء المضطرب من التاريخ الروسي، إذ يجد القارئ إشارة نقدية طفيفة إلى الكاتب سولجنتسين، والكتاب الروس في السبعينيات والثمانينيات. الغرب ثرثار، صاخب، استعراضي، وهم آخر، سواء كانت الرأسمالية أو الليبرالية أو الشيوعية، لا شيء يبدو أنه يعمل كما ينبغي، وكأن كل مجتمع ينتهي به الأمر ليصبح مجتمعاً من التجاوزات والانتهاكات.

تحمل الرواية مرارة عميقة، تشبه رحلة نفي عبر السهوب. فالجليد ذاب، وكشف عن القبح الذي كان يخفيه، ولكن، وسط هذه الفوضى، هناك الغابات والحقول الممتدة والغيوم الشاردة، والليالي المضاءة بالنجوم، وكأن هناك شيئاً لا يزال يستحق التأمل في هذا العالم، حتى وإن كان مجرد حلم يتلاشى في الأفق.

“الوصية الفرنسية”

لكن في رواية “الوصية الفرنسية”، هناك تناص واقعي، بين حياة ماكين وبطله، في سرد دقيق متأن، تتشابك فيه رهافة الأسلوب مع لحظات مكاشفة حادة، يتخللها أحياناً صدق صادم لا يخلو من قسوة.

بطل الرواية طفل، لم يتلق الفرنسية كلغة مكتسبة، بل وهبته إياها جدته لأمه شارلوت، غرست اللغة في وجدانه كما تطعم شجرة فتية بغصن غريب، فتمتصه حتى يصبح جزءاً لا يمكن فصله عنها. هذا الامتداد اللغوي، الذي اكتسبه البطل، لم يكن مجرد وسيلة تواصل مع الجدة، بل كان مفتاحاً لكون آخر، نقش حياته إلى الأبد. لقد دفعت الأقدار القاسية بهذه الجدة، ذات الحضور المتوهج، إلى أقاصي سهوب سيبيريا، حيث استوطنت، من دون أن يعرف على وجه اليقين لماذا اختارت البقاء هناك.

وعلى خلفية الثورة البلشفية، وما حملته من ارتداد الرعب الستاليني، وصولاً إلى سنوات السوفيات الرمادية، تتشكل ملامح القصة العائلية في قلب التحولات العنيفة للتاريخ. يقول الراوي عن جدته: “فكرت في حياتها، حياة تربط بين عهود مختلفة جداً: بداية القرن، ذلك الزمن العادي تقريباً، والأسطوري تقريباً، تماماً مثل حكم نابليون، ونهاية فرنسا، ونهاية الألفية، وكل تلك الثورات، والحروب، والمثالية الفاشلة، والرعب الروسي، لقد بثت جوهرها في آلام وأفراح أيامها”.

تفتح أمام الراوي أبواب اللغة الفرنسية عبر ذاكرة جدته، المولودة في فرنسا، التي تحمل بين طيات ذكرياتها بريق باريس، ومشاهد فيضان عام 1910، وصخب زيارة القيصر، والأيام العاصفة للحرب العظمى. يحلم البطل بذلك العالم البعيد، الذي يبدو له أقرب إلى أسطورة ضائعة، شبيهة بأتلانتس، فتتشكل صورته في مخيلته عبر القصائد، والصور المصفرة، والقصاصات الصحافية المهترئة. مع نضجه، يدرك الراوي أن الفرنسية التي تتحدثها جدته ليست مجرد تفرد ذاتي، ولا هي أثر منسي لحياة انتهت، بل هي خيط يقوده إلى عالم مواز، باب ينفتح على حضارة مختلفة. ينجرف نحوها بشغف العاشق، يغوص في رفوف المكتبات، ينهل من صفحات الأدب والتاريخ، حتى تترسخ الفرنسية في روحه لا كلغة فحسب، بل كهوية، كعالم مكتمل يستحيل التخلي عنه.

الروح بين لغتين

لكن، ومن غير أن يدرك ذلك تماماً، بدأت هذه اللغة تعزله عن محيطه، فانطوى على ذاته. ومع مرور الوقت، وفي ذروة مراهقته، وجد نفسه منبوذاً من رفاقه، مجبراً على مواجهة القسوة العارية لواقع روسيا السوفياتية. كان لا بد له أن يصحو من وهمه الفرنسي، إذ لم يعد يريد أن يظل عالقاً بين عالمين، متهماً جدته بأنها سجنته في ماض متخيل، وحولته إلى مسخ غريب، عاجز عن العيش في الواقع الحقيقي.

في لحظة تمرد، يرفض هذا الإرث الثقافي، يطالب بهويته الروسية بكل عنفوان، ويشعر أن عليه لفظ هذا الدخيل على روحه، واجتثاث قلبه الثاني من صدره، كي ينخرط أخيراً في الحياة، ويتذوق أولى تجاربه الحقيقية. لكن المصالحة مع ذاته لن تأتي بسهولة، بل ستحتاج إلى زمن طويل، إلى نضج داخلي، قبل أن يجد طريقه إلى السكينة. لنقرأ: “وهكذا بدأ صيفنا. كان آخر صيف أمضيه في بيت شارلوت. وفي صبيحة اليوم التالي استيقظت بإحساس أني عدت لنفسي في النهاية. كان هناك هدوء كبير، كان هدوءاً مراً وصافياً في الآن نفسه. ولم يعد ينبغي علي أن أدخل في صراع بين هويتي الروسية والفرنسية”.

لكن ذات يوم، وبقلب مثقل بالأسئلة، يقرر العودة لجدته، لمواجهة ذكرياته التي حولت الماضي إلى شيء يسعى للتسامي عن الواقع. عند لقائهما، يدرك أنها بالكاد تجد فرصة للتحدث بلغتها القديمة، وأن وحدتها ليست سوى انعكاس لوحدته هو. وكما في كل مرة، تبهره هذه الجدة من جديد، فتعود تلك الشعلة التي ظن أنه أطفأها، لكنه هذه المرة لا يحاول إخمادها، بل يتقبلها، يتقبل نفسه كما هو: روسي وفرنسي في آن معاً.

تمر السنوات، ويختار الرحيل، يفر من الاتحاد السوفياتي ليعيش في فرنسا، أرض أحلامه الأولى. لكن المفارقة أن هذه المرحلة من القصة، تفقد شيئاً من سحرها، إذ لا يمكن لنظرة الإنسان الناضج إلى فرنسا الحديثة أن تقارن بصورة باريس الأسطورية التي شيدها في خياله، تلك المدينة الطافية في ضباب الذاكرة، حيث الأزمنة تتداخل، وحيث اللغة الفرنسية لم تكن مجرد وسيلة تعبير، بل فردوساً مفقوداً تمنى أن يجده.

يذكر أن رواية “الوصية الفرنسية”، صدرت ترجمتها عن دار الجمل، بترجمة عبدالسلام المودني.

نقلاً عن : اندبندنت عربية