عندما أوكلت الحكومة البريطانية السابقة إلى “مكتب الاتصالات البريطاني” (أوفكوم) Office of Communications (Ofcom) [وهو هيئة مستقلة تتولى تنظيم قطاع الاتصالات والبث الإذاعي والتلفزيوني في المملكة المتحدة] مهمة الإشراف على وسائل التواصل الاجتماعي، بدا القرار مثيراً للاستغراب. فكيف يمكن لجهة تنظيمية معروفة ببطء استجابتها وإجراءاتها في مجال الاتصالات والبث الإذاعي – وتكرر تعثرها في مواكبة التطورات المتسارعة في القطاع – أن تحمل مثل هذا التحدي؟ وإذا كانت قناة “جي بي نيوز” GB News تمكنت من التفوق عليها، فكيف ستقوى على الصمود أمام عمالقة التكنولوجيا مثل مارك زوكربيرغ وإيلون ماسك؟.
المنطق الذي استند إليه هذا القرار تمثل في أن إسناد المهمة إلى هيئة قائمة أساساً قد يسهم في تسريع وتيرة التنفيذ، خصوصاً أن إنشاء هيئة تنظيمية جديدة متخصصة من الألف إلى الياء سيستغرق وقتاً طويلاً، ما من شأنه أن يؤخر التحسينات الملحة التي يتطلع إليها مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي في المملكة المتحدة. أما مع “أوفكوم”، فكان بالإمكان الشروع بالعمل على الفور.
وعلى رغم أن تكليف هيئة “أوفكوم” جاء استجابة للحاجة الملحة إلى اتخاذ إجراءات سريعة، فإن وتيرة التقدم في هذا الاتجاه كانت بطيئةً للغاية. فانغمست الهيئة في نمطها المعتاد والتقليدي من المشاورات الطويلة التي امتدت لعام بكامله، مما تسبب بتأجيل دخول القانون الصادر عام 2023 حيز التنفيذ، حتى ربيع عام 2025 على أقرب تقدير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبالنسبة إلى منصات التواصل الاجتماعي الكبرى المصنفة ضمن “الفئة الأولى” مثل “إكس” (“تويتر” سابقاً) و”فيسبوك” و”تيك توك”، سيكون الانتظار أطول. فقد أرجئ تطبيق القواعد التنظيمية الإضافية الخاصة بهذه المنصات، مع تحديد موعد المشاورات المتعلقة بها في “مطلع عام 2026″، مما يعني أن التطبيق الفعلي لهذه القواعد قد يتأخر، وقد لا يبدأ قبل عام 2027.
يشار إلى أن التأخر في الإجراءات التنظيمية ترتبت عليه عواقب ملموسة. ففي الصيف الماضي، ومع تزايد نشر معلومات مضللة وتحريضية على وسائل التواصل الاجتماعي، حول أعمال الشغب اليمينية المتطرفة في مختلف أنحاء المملكة المتحدة، اكتفت هيئة “أوفكوم” بردّ فعل رمزي تمثل في توجيه رسالة مفتوحة إلى منصات التواصل الاجتماعي. وناشدتها فيها اتخاذ تدابير وقائية، على رغم استمرار التعثر في “قانون السلامة على الإنترنت”Online Safety Act (الذي لا يزال عالقاً في مشاورات الهيئة التنظيمية)، مشددة على “عدم الحاجة لانتظار دخول القانون حيز التنفيذ، كي تجعل مواقعها وتطبيقاتها أكثر أماناً”.
من المستبعد أن تكون هذه الرسالة بعثت الطمأنينة في المجتمعات التي أرعبتها أعمال الشغب في بريطانيا، أو في نفوس الأقليات التي استُهدفت بالمنشورات التحريضية، أو عناصر الشرطة الذين تعرضوا لإصابات أثناء محاولتهم توفير الحماية للمُعتدى عليهم.
في المقابل، قد يكون بطء هيئة “أوفكوم” مبرراً لو أن إجراءاتها أثبتت أنها تستحق الانتظار، لكن المؤشرات حتى الآن لا تبعث على التفاؤل. فعلى رغم بدء مشاورات استمرت لأكثر من عام، لم تصدر الهيئة التنظيمية “مدونات قواعد الممارسات الخاصة بالمحتوى غير القانوني” Illegal Content Codes of Practice إلا في نهاية العام الماضي، مما يشير إلى مدى بطء هذه العملية.
وفي خطوة عكست النمط البيروقراطي التقليدي، أصدرت هيئة “أوفكوم” إرشاداتها التي طال انتظارها، على شكل مجموعة ضخمة من ملفات “بي دي أف” PDF، يتألف عدد منها من مئات الصفحات. واستغرق الأمر وقتاً ليتمكن الخبراء من التدقيق في هذه الوثائق وتقييم مدى وفائها بالوعود التي وردت في البيان الصحافي المرفق الذي وعد بـ”حياة أكثر أماناً على الإنترنت للأفراد في المملكة المتحدة، لا سيما منهم الأطفال”.
وعلى رغم مرور عام على مرحلة التشاور، أعرب كثيرون عن خيبة أملهم لعدم وجود تحسن يذكر مقارنة بمسودة عام 2023. وفي الواقع، يبدو أن بعض الجوانب الأساسية في النسخة المعدلة تراجعت عن المستوى السابق. فعلى سبيل المثال، كان من المفترض أن تلتزم منصات التواصل الاجتماعي إزالة المحتوى غير القانوني، بما في ذلك صور الإساءة للأطفال، إلا أن شرطاً جديداً أضيف ينص على أن هذا الإجراء قابل للتنفيذ “إذا كان ذلك ممكناً من الناحية الفنية”، مما يثير تساؤلات جدية حول فاعلية هذه القواعد وإمكان تطبيقها.
إيان راسل الذي كان من أشد المدافعين عن التغيير منذ المأساة التي حلت بعائلته، عندما أقدمت ابنته مولي على الانتحار نتيجة تعرضها لسيل من المحتوى الضار على وسائل التواصل الاجتماعي، أعرب عن قلقه من أن التقدم المنشود يسير في اتجاه معاكس. وانتقد هيئة “أوفكوم” بشدة، قائلاً إنها “أخفقت في إدراك مدى إلحاح مهمتها ونطاقها”.
في السياق نفسه، أشارت “مؤسسة مراقبة الإنترنت” Internet Watch Foundation – وهي جمعية خيرية تعمل على إزالة صور إساءة معاملة الأطفال من الإنترنت – إلى أن القواعد الجديدة لهيئة “أوفكوم” تقدم للمنصات الاجتماعية “منفذاً واضحاً للتهرب من المسؤولية”.
إلى ذلك، أكدت منظمة الحملة المستقلة في المملكة المتحدة “نظفوا الإنترنت” Clean Up The Internet (التي للمناسبة أنا عضو في مجلسها الاستشاري) أن هذه القواعد “لا تتضمن تدابير لمعالجة الأخطار الناجمة عن الحسابات الوهمية والمجهولة”. واعتبرت أن هذا الإغفال مثير للحيرة، خصوصاً أن تحليل “أوفكوم” ذاته كان أشار إلى أن هذه الأنواع من الحسابات تُعدّ من أبرز عوامل الخطر المرتبطة بالجرائم الجسيمة، مثل الإرهاب وخطاب الكراهية واستغلال الأطفال والاحتيال.
مما لا شك فيه أن هيئة “أوفكوم” ستشعر بأنها تتحمل بصورة غير عادلة المسؤولية عن التأخير. فقد استغرق وضع “قانون السلامة على الإنترنت” وقتاً طويلاً قبل تمريره، وتأخر أكثر بسبب الاضطرابات السياسية وتغيير الوزراء المتعاقبين الذين لم يتفقوا دائماً على أهدافه. ونتيجة لذلك، أصبح التشريع في النهاية غير عملي وغير متماسك إلى حد ما. يضاف إلى ذلك، أنه كان على الهيئة المنظمة أن تتعامل مع استحقاقي الانتخابات البريطانية وتغيير الحكومة، وهما مسألتان من شأنهما أن تبطئا حتماً عمل موظفي القطاع العام.
ربما يتذرع القائمون على هيئة “أوفكوم” في أحاديثهم الخاصة، بأن الحكومة الجديدة بعثت برسائل متضاربة، لا سيما لجهة إصرارها على إعطاء الأولوية للنمو الاقتصادي. لكن سيكون من الخطأ الفادح أن تعتقد “أوفكوم” بأن التباطؤ في تنفيذ تدابير السلامة على الإنترنت هو السبيل الأمثل لدعم النمو الاقتصادي. حتى إذا كان التركيز منصباً فقط على الناتج المحلي الإجمالي، وجرى إغفال قضايا مثل الصحة النفسية للأطفال، فإن الوضع الراهن لوسائل التواصل الاجتماعي يُعدّ ضاراً بالاقتصاد.
لقد تسببت أعمال الشغب في بريطانيا الصيف الماضي بخسائر مالية كبيرة، مما أدى إلى تقويض الثقة لدى الشركات، وأضر بالجهود الرامية إلى جذب الاستثمار الأجنبي إلى المملكة المتحدة. كما أن الاحتيال، وهو الجريمة الأكثر انتشاراً في البلاد وتحدث إلى حد كبير عبر الإنترنت يسهم في تآكل ثقة المستهلك واستنزاف الأموال من الشركات المشروعة. ويتسبب ممارسو الاحتيال والروبوتات والمتطرفون ومنظرو المؤامرة والمتصيدون على الإنترنت جميعهم في إعاقة الاقتصاد، بدلاً من دفع عجلة الابتكار والنمو.
صحيح أن هذه الهيئة التنظيمية واجهت موقفاً صعباً لكنها لم تتعامل معه بفاعلية. ومن الإنصاف القول إن التأخير ليس خطأ يقع بكامله على عاتق “أوفكوم”، لكن لا يوجد سبب يمنعها من الاستجابة بصورة أسرع في الانتقال من مرحلة التشاور إلى مرحلة التنفيذ.
وفي الواقع، تواجه جميع الهيئات التنظيمية في المملكة المتحدة ضغوطاً لدعم أجندة النمو الحكومية، لكن على “أوفكوم” أن تظهر كيف يمكن للسلامة على الإنترنت أن تواكب النمو المستدام والابتكار. فمعالجة المشكلات التي تطرحها وسائل التواصل الاجتماعي تشكل أحد التحديات الملحة في عصرنا، ولن تكون الأساليب البيروقراطية البطيئة كافية لحل هذه المشكلة.
نقلاً عن : اندبندنت عربية