وراء مكتب متواضع يجلس جمال الوسيط العقاري في انتظار مالك ضاقت به الدنيا، ويريد بيع عقاره، وزبون يبحث عن “شقة لقطة”، وبين هذا وذاك تبرز الشكوى من “فوضى” تعيشها السوق العقارية في لبنان بسبب “منافسة غير شريفة”، و”حال التردد في قرار الشراء”.
يقول جمال “منذ 20 عاماً أعمل في مجال الوساطة والسمسرة العقارية، وليس من قبيل المبالغة الإشارة إلى أن السوق في أسوأ أحوالها بسبب الحرب المدمرة”، مضيفاً “من الملاحظ حال التردد التي يعيشها الزبون، وبات يتكرر الموقف معنا، إذ نرافق الشاري ونخوض مفاوضات طويلة، وعندما نقترب من إنجاز الصفقة يقرر التراجع”.
ويعتقد جمال أن السبب يعود إلى حال اللايقين والشك حول مستقبل البلد، والخوف من خسارة المدخرات كلها في حال اشترى شقة عرضة للتدمير، دون تجاهل أن شريحة واسعة من الناس تخطط للرحيل والهجرة.
من جهة أخرى يشير إلى أن “مرحلة الركود بدأت منذ جائحة كورونا، وازدادت الأمور تراجعاً إلى حين اندلاع الحرب الحالية، بينما شهدت ازدهاراً ملحوظاً بين 2009-2014”.
ويلفت إلى “تراجع المداخيل لأن الوسيط يقبض 2.5 في المئة من البائع ومثلها من الشاري، وفي غياب عمليات البيع يصبح عرضة للخسارة”، كما يتطرق إلى مسألة تأجير النازحين من مناطق القتال، إذ لجأ الكثير إلى العلاقات الشخصية من أجل تأمين مساكن.
دخل إضافي
خلال الفترة القليلة الماضية، نشطت سوق السمسرة العقارية خارج نطاق الرخص القانونية، وهو ما يشكو منه مواطنون غير قادرين على التمييز بين سمسار نظامي وآخر غير مشروع. وبات العمل في مجال الوساطة العقارية بمثابة “مصدر للدخل الإضافي”.
تواصلت “اندبندنت عربية” مع مجموعة من السماسرة، اتضح أن البعض منهم لا يمتلك ترخيصاً أو مكتباً، لكنه يستغل علاقاته ومنصاته الواسعة الانتشار على مواقع التواصل الاجتماعي للترويج لبعض العقارات مقابل “الحصول على إكرامية” من قبل البائع.
ويشير بعض هؤلاء إلى “عدم الإقبال على الشراء على رغم المفاوضات المتواصلة، والسعي إلى إقناع المالك من أجل تقليل الأسعار”.
من جهة أخرى، تتمسك مها، وسيط عقاري، بضرورة الارتباط بشركة أو مكتب قانوني لتجنب الملاحقة القانونية، ناهيك باتباع الصدق مع العملاء لمراكمة السمعة الطيبة، واستدراج زبائن جدد.
منافسة غير شريفة
يعاني مالكو شركات الوساطة القانونية في لبنان منافسة غير شريفة، ويتحدث أحمد حوا صاحب شركة وساطة عن وجود آلاف السماسرة غير القانونيين، وهم أصحاب نفوذ وتأثير قويين في السوق، ومن دون رقابة أو حسيب”، مشدداً على أن “في بعض الدول الأخرى، هناك قمع مطلق للوساطة دون رخصة، ففي عام 2018، بدأت تركيا مثلاً عملية لقمع الفوضى العارمة وعمليات النصب والتهرب الضريبي، وتنظيم الوساطة العقارية، وخلال أشهر فقط اختفت آلاف من اللافتات والإعلانات بالشوارع، ومواقع التواصل الاجتماعي، وأصبحت السوق شبه منضبطة”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويشدد على أن “ثمة فارقاً شاسعاً بين التعامل مع سمسار غير مرخص وغير ملتزم، والتعامل مع شركة عقارية معتمدة قانوناً”، ذلك أن الشركة تخضع لرقابة صارمة وتتحمل المسؤوليات المالية والقانونية، مما يجعل كل صفقة آمنة وشفافة.
يستغرب أحمد حوا سلوك بعض السماسرة غير القانونيين، حيث “يقوم البعض بمتابعة إعلانات المكاتب، ومن ثم يموه بأنه زبون، يطلب صور الشقة والعقار، ومن ثم يؤمن زبوناً، ويذهب إلى المبنى المقصود، ويعطي الناطور بعض النقود للحصول على رقم المالك الأصلي، ويبدأ مرحلة التفاوض، وفي هكذا أحوال، يتصل المالك بالمكتب، ويسحب عرضه، بحجة بيعها لأحد أقاربه”.
يعتبر أحمد حوا أن “الزيادة في أسعار العقارات تقع على عاتق المالك وليس المكتب، إذ يستغل البعض الزيادة في الطلب من أجل رفع الأسعار”، فيما أن “رسوم الشركة العقارية ثابتة ومعلنة سابقاً”.
كما يلفت حوا إلى أن “السمسرة غير القانونية هي مجال لتبييض الأموال”، لذلك لا بد من تحرك الدولة من أجل ضبط السوق.
من جهة أخرى، يتطرق حوا إلى السوق الحالية، حيث يسيطر الإيجار المفروش، مع ظهور الطلبات على شراء الأراضي، والمستودعات والشقق السكنية.
جمود سائد
تعيش سوق الوساطة العقارية حالاً من الفوضى، وهي استمرار لحال الجمود التي تعيشها السوق العقارية بصورة عامة في لبنان. يؤكد المتخصص في المجال العقاري شوقي عطية أن “السبب في كثرة السماسرة والوسطاء العقاريين يعود إلى الفوضى وانعدام الرقابة وعدم تطبيق القوانين”، وعلى حد تعبيره فإن “ماسح الأحذية أصبح وسيطاً عقارياً”، لأن “الهدف هو كسب المال السريع وتقديم المصلحة الخاصة”، مذكراً أن “على الوسيط العقاري تأمين مكتب والحصول على بطاقة رسمية، يدفع بموجبها ما يجب عليه من ضريبة للدولة وفق متخصص مالي”، معتبراً ما يحصل امتداداً للفساد وانهياراً لمؤسسات الدولة.
يتخوف عطية من الذهاب إلى كارثة في السوق العقارية في ظل قضاء متعب ومكبل وبسبب الفساد، متحدثاً عن “تفلت في السوق العقارية، وهنا المرحلة الأخطر، وبقاء أمناء السجل العقاري المتهمين بالفساد في بيوتهم دون محاكمات، ناهيك بغياب الدولة عن البيوع الوهمية، والبيع أكثر من مرة للعقار نفسه، وانتشار عقود البيع لدى كتاب العدل فقط من دون متابعة في مؤسسات الدولة المالية والعقارية وغيرها”، متسائلاً عن موقف الدولة من “بيوعات النافذين وبأسعار لا تشكل الحد الأدنى من الثمن الطبيعي، والمساس بالمشاعات وعقارات المغتربين”.
ينطلق عطية من هذا التشخيص السوداوي، ليحذر من حال الجمود في السوق العقارية بفعل سرقة أموال المودعين في البنوك، وتراجع التحويلات المالية من الخارج، والإدارة السيئة وإقفال الدوائر العقارية والمالية، بحيث لم يعد بإمكان المستثمر إكمال التعاملات العقارية، من دون تجاهل أثر الهجرة والانهيار والفساد في لبنان.
السمسرة القانونية حاضرة
تعد السمسرة من المهن المنظمة قانوناً، ويعتبر الباحث القانوني المحامي رفيق هاشم أن السمسرة من المهن الحيوية التي تلعب دوراً بارزاً في تسهيل التعاملات التجارية والعقارية والخدماتية والعقدية.
ويوضح هاشم أنها “مهنة تقوم على الوساطة بين طرفين لتحقيق صفقة أو عقد مقابل عمولة تدفع مبدئياً إلى السمسار عند إتمام المعاملة بنجاح”.
والسمسرة، على حد رأي المحامي رفيق هاشم، تتشابه مع عقد الوكالة والوساطة التجارية، إلا أنها تختلف عنهما في أن السمسار لا يتخذ أية خطوة قانونية أو تصرفية تندرج ضمن إطار تمثيل أحد الأطراف المعنية، بل هو يوفر فقط الوسائل والفرص سعياً إلى التوصل لاتفاق بين الأطراف المعنية.
السمسرة أشكال عدة
تتعدد مجالات السمسرة وتشمل العقارات، والأوراق المالية وعقود التأمين وسواها من التعاملات التجارية أو العقارية أو العقدية، على سبيل المثال، يقوم السمسار العقاري بربط المشتري بالبائع ويقدم معلومات في شأن الإجراءات الإدارية، لا سيما لناحية المستندات المطلوبة لتنفيذ المعاملة، ويسعى إلى حل أية مشكلات قد تنشأ بين الأطراف المعنية في إطار التفاوض.
يتطرق المحامي هاشم إلى ضرورة التزام السمسار بأعلى درجات الأمانة والشفافية في تعامله مع الأطراف المعنية، تبعاً لدقة مهمته ولقاء مهماته يستحق السمسار عمولة تعتبر ركناً أساساً من عقد السمسرة، وتحدد عادة كنسبة من قيمة المعاملة أو كمبلغ محدد يتفق عليه بين الأطراف المعنية والسمسار.
عقد السمسرة ضروري
يشدد المحامي رفيق هاشم على أهمية تنظيم عقد السمسرة خطياً بين السمسار والعملاء، بحيث يعد هذا العقد الخطي وثيقة قانونية مهمة تضمن وضوح العلاقة بين السمسار والعملاء المعنيين، وتتيح للأطراف المعنية فهم موجباتها فهماً دقيقاً وتسهم في تجنب النزاعات القانونية المحتملة.
كما يتطرق المحامي هاشم إلى شكل هذا العقد الخطي الذي يتناول عادة حقوق وواجبات السمسار، وحقوق وواجبات الأطراف المعنية، مثل الخدمات التي يقدمها السمسار، والعمولة المستحقة له وشروط استحقاقها ومدة العقد، إضافة إلى شروط إنهاء العقد في حال عدم الرغبة في استمراره.
تنظيم ورقابة
يرى المحامي هاشم أنه على رغم أهمية مهن السمسرة وتعقيب المعاملات في تسهيل الأعمال التجارية والتعاقدية والعقارية والإدارية والخدماتية، فإن قصور التشريعات التقليدية عن مواكبة تطورها وغياب الرقابة القانونية الفاعلة عنها، من شأنه أن يؤدي إلى تجاوزات وإساءات قد لا تحمد عقباها.
يعتقد المحامي هاشم أن السمسرة وتعقيب المعاملات من المهن التي تتطلب إشرافاً دقيقاً ورقابة وثيقة من السلطات المعنية، لضمان عدم استغلالها من قبل بعض الأفراد غير المتخصصين أو الدخلاء، الذين قد يسعون إلى الاستفادة من الأشخاص الذين يفتقرون إلى المعرفة القانونية أو الإدارية.
ويرى هاشم ضرورة في وضع نظام شامل لتدريب وتأهيل السماسرة ومعقبي المعاملات، بإشراف المتخصصين وذوي الخبرات في هذه المجالات، لضمان أن يكون لدى السماسرة والمعقبين معرفة كافية بالقوانين المحلية الناظمة لمهماتهما من ناحية، وبالمعايير الدولية الراعية لهاتين المهنتين، مما يسهم في تعزيز الشفافية وفي الحد من الانتهاكات.
نقلاً عن : اندبندنت عربية