يمكن تخيل الحياة من دون لحوم أو أجبان أو أسماك، وكذلك بلا فول وفلافل وباذنجان، أو حتى من دون مربى وكريمة الشوكولا أو الفستق، ستكون حياة صعبة بكل تأكيد، لكنها ممكنة.
لكن أن تعيش من دون سندوتش بيض في الصباح مع كوب الشاي، أو شاورما وقت الغداء مع طبق سلاطة، أو جبن في المساء مع ثمرة فاكهة، أن تعيش بلا سندوتش، فهذا أمر لو تعلمون بالغ القسوة شديد الإيلام.
الهوس الصحي
حياة بلا شاطر ومشطور وبينهما طازج لن تكون حياة بالمعنى المعروف، ستظل القلوب تنبض والرئة تتنفس والدم يسري في العروق، لكن بلا متعة لن يوفرها إلا السندوتش.
لو قدر لهذه البرادات في تلك المحال التي تقدم وجبات خفيفة على مدار اليوم أن أفسحت مكاناً في أعوام الوعي الصحي والهوس بالوزن لبدائل السندوتشات، من أطباق سلطة وعبوات “سوشي” ولفافات البيض وكعك الرز أن تتحدث لقالت كثيراً عن نظرات الشهوة وتنهيدات الحرمان ومصمصة الشفاه المحرومة من هذه القضمة التاريخية، قضمة السندوتش الكلاسيكي التي تشهدها على مدار اليوم.
صرعات التنحيف وموضات الأكل الصحي ومناصبة العداء لكل ما يتصل بالطحين من قريب أو بعيد على مدار ما يزيد على نصف قرن نالت من سيادة السندوتش وسيطرته، لكنها لم تجرؤ أو تقدر أو تفلح في إزاحته من على عرشه، إن لم يكن بالتهامه، فبالتمني.
أكل السندوتش لا يتحقق بالتمني بل بشاطر أو سكين، ومشطور أو خبز وبينهما طعام طازج، وسواء كانت تسمية “شاطر ومشطور وبينهما طازج” استخدمت على سبيل الدعابة أو كانت مسمى السندوتش عربياً بالفعل، تبقت أعمدة السندوتش، أي سندوتش، ثلاثة “سكين وخبز وحشو”.
أصل السندوتش
وتبقى الروايتان الأكثر تداولاً في رحلة البحث عن أصل السندوتش مهيمنتين بلا نزاع من مصادر أخرى، أو منافسة من صاج شاورما هنا أو كاساديا دجاج هناك أو رغيف عيش بلدي محشو “فول وفلافل وباذنجان” في كل الأوقات.
الرواية الأولى تقول إن البريطاني الأرستقراطي إيرل جون مونتاغو (1718-1792) هو من ابتكر السندوتش الذي نعرفه اليوم، ووفق الرواية التي تحظى بكثير من الشعبية لا الصدقية أو التوثيق، فقد كان الإيرل الرابع لبلدة “سندوتش” البريطانية يلعب الورق لساعات طويلة جداً، يقال إنها تعدت الـ24 ساعة، ولم يكن يريد أن يبرح طاولة اللعب، فأمر الخادم بوضع قطع من اللحم في خبز ليأكله أثناء اللعب دون الحاجة إلى الانتقال لطاولة الطعام، وموسوعة “بريتانيكا” ترجح أن يكون الجانب الأكبر من القصة غير ذي صدقية.
والرواية الثانية التي يحاول البعض ترويجها، لكن أيضاً بلا دليل أو توثيق تاريخي يعتد به، أن حاخاماً يهودياً كان يعيش في بابل خلال القرن الأول قبل الميلاد، وضع لحم الغنم والأعشاب بين شريحتي خبز غير مخمر في مناسبة دينية وأصبحت طقساً منذ ذلك الحين.
حول العالم في “80 سندوتش”
وبعيداً من أن “إيرل سندوتش” والذي حمل اللقب وأسرته على رغم عدم وجود صلة بينهم وبلدة سندوتش الواقعة في مقاطعة كنت جنوب شرقي بريطانيا، أو ما جرى مع الحاخام خلال القرن الأول قبل الميلاد، يبقى هناك “رو جيا مو” أو “سندوتش اللحم” الذي يباع في شوارع الصين ويعتقد أنه ظهر في عهد “أسرة شو” التي حكمت الصين عام 1046 قبل الميلاد، و”نان” الدجاج في الهند، والشاباتا الإيطالي بالزيتون وزيته، و”ساندو” الياباني بملمسه وقوامه ومظهره الأبيض الناعم، و”بان هي” فيتنام المبتكر من رحم “الباغيت” الفرنسي ولكن بلمحة محلية طاغية عنداً في الاستعمار، وسندوتش الفول بالطحينة والسلاطة في “رغيف بلدي” تهيمن رائحته على سماء البلاد من الإسكندرية (شمالاً) إلى أسوان (جنوباً)، وقائمة سندوتشات العالم تطول.
ولا تخلو بلد على وجه الأرض لا يأكل سكانه السندوتشات، أي سندوتشات، باختلاف تسمياتها من الأسئلة التي تسأل كيف تأكل سندوتشك المفضل؟ وليس هل تأكل سندوتش؟!
السندوتش الوطني
تبدو علاقة الإنسان بالسندوتش للبعض علاقة تحصيل حاصل أو لا تستدعي البحث والتقصي، أو مسألة هامشية لا تستدعي الاهتمام، لكن الحقيقة أنها مسألة حيوية وإن كانت لا تستدعي الاهتمام فلم ألف المؤلفون عنها الكتب وتباحث خبراء التغذية في شأنها، وجال هواة السفر والترحال ربوع الأرض بحثاً عن السندوتش الأغرب والأشهى والأسوأ، ومنهم من يوثق للسندوتش الوطني في كل دولة من دول العالم، وبدلاً من “حول العالم في 80 يوماً” للفرنسي جول فرن أو “في 200 يوم” (للمصري أنيس منصور)، يأتي توثيق الرحالة “حول العالم في 193 سندوتش” (عدد دول المعمورة).
عقود طويلة ومحبو السندوتشات يبحثون عن كل ما هو جديد وحديث في عالم الكامخ أو الطازج أو الحشو، لم يعد حشو السندوتش بالضرورة طازجاً، لحم مقدد، تونة معلبة، أسماك محفوظة، مربى، وغيرها كثير من المكونات غير الطازجة بالضرورة.
الرغبة في التحديث تدفع البعض إلى مزج المايونيز بحلقات الموز، أو دمج زبدة الفول السوداني بالمخلل، أو كريمة الشوكولا بالفلفل الحار وغيرها، يقولون إنه لولا اختلاف الأذواق لبارت البضائع، ولذلك فإن السندوتش تاريخياً ظل يتربع على قائمة الوجبات غير المهددة بالكساد أو المعرضة للانقراض، فطالما هناك شاطر وهناك مشطور، فإن الحشو يظل حرية شخصية للجميع.
فقرات السندوتش
هذه الشعبية الجارفة للسندوتش أجبرت قنوات الطبخ ومؤثري منصات التواصل الاجتماعي المتخصصين في الطعام وكذلك مؤلفي كتب الطهي على تخصيص فقرات وكتب وبرامج للسندوتش وفنونه وجديده، وكذلك إحياء قديمه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا تقتصر مؤلفات السندوتش وبرامجه على الشق العملي وفتح ينابيع التجديد واستحضار القديم، لكن هناك من المؤلفات والمحتوى ما يحاول البحث في سيكولوجية السندوتش، لماذا نحبه؟ وكيف تمكن من أن يحتل مكانة الصدارة ويحافظ على الاستمرارية والاستدامة رغم أنف العولمة والحداثة؟
لماذا تحظى السندوتشات بهذه الشعبية العالمية؟ لأنها مريحة وقابلة لمواءمة كل الأذواق من دون استثناء ولذيذة ومرضية، هي وجبة كاملة و”تصبيرة” لحين موعد الوجبة ويأكلها الجالسون دون عجلة من أمرهم، ويلتهمها المشغولون بينما ينجزون أعمالهم.
فروق طبقية
الغني يأكل السندوتش في مطاعم فاخرة وفنادق فارهة، وحين يجهزها في مطبخه فإن محتوياتها قد تكلفه بعض مئات من الدولارات، ويأكلها الفقير في مطاعم شعبية أو من على عربة في الشارع، وحين يجهزها في بيته يراعي الموازنة المحدودة، لكن يظل المنتج في نهاية الأمر يحمل اسم “سندوتش”.
ويتحول السندوتش في العام الدراسي إلى منصة للتنابز بالحشو حيناً، ومثاراً للسخرية ومدعاة للانزواء حيناً آخر، في المدارس التي يختلط فيها الطلاب من مستويات اجتماعية واقتصادية مختلفة، يكون السندوتش أحياناً سبباً في تعميق الفروق الطبقية بسبب صورة وكلفة وطريقة تغليف ومحتوى السندوتش الذي يحمله الطلاب معهم من البيت.
اللافت أن السندوتش لا يكتف بتعميق الفروق الطبقية وما يرتبط بها من أحقاد اجتماعية، لكنه أصبح طريقة يستخدمها خبراء وهواة التنمية البشرية لمساعدة الأشخاص على فهم أنفسهم من طريقة إعدادهم لسندوتشاتهم.
شخصيتك من سندوتشك
استشاري القيادة والصحة العقلية في أماكن العمل ديفيد كاين كتب عن الناس وسماتهم الشخصية وما تختزنه عقولهم من ذكريات ومخاوف وأحلام، وعلاقة كل ما سبق بالسندوتش المفضل لديهم تحت عنوان “ماذا يقول سندوتشك عنك؟” (2024). ويقول إن المغامرين الذين يختارون سندوتش دجاج مع صوص حار جداً إضافي يبحثون عن مزيد من المغامرة، واختيارهم يعكس رغبة في خوض الأخطار، أما من يختار السندوتش الرومي مع جبن وخبز قمح كامل، فهو شخص أكثر واقعية ووعياً بالصحة، ومن يبذل جهداً في ترتيب حشو السندوتش فيخرج الحشو منمقاً منظماً هو في الغالب شخص منظم وتعنيه التفاصيل الدقيقة، حتى لو كانت غير مرئية، أما من يمزج مكونات الحشو بفوضوية ويختار التوابل الجريئة ولا يلتزم بالأساسات، فهذا جزء من شخصيته في الواقع.
ويمضي كاين موضحاً أن من يبحثون عن النكهات المتنوعة والمتجددة في سندوتشاتهم هم أشخاص أكثر ميلاً للمغامرة والانفتاح، والمتمسكون بالسندوتش التقليدي (مثل الجبن بشرائح البندورة وربما الخيار) فهم أصحاب عقلية أكثر تحفظاً وميلاً للكلاسيكية.
ويرى كاين أن اختيارات الناس للسندوتشات التي يأكلونها أحياناً تتأثر بتجارب وذكريات طفولتهم وخلفياتهم الثقافية، فهناك من يشعر بالحنين لطفولته أو لأهله وبخاصة لو كانوا رحلوا، فيتمسك دون أن يشعر بمكونات السندوتش الذي كان يتناوله وهو طفل.
خمسة سندوتشات وشخصيات
ويقسم كاين الشخصيات إلى خمسة أنواع رئيسة، وذلك بحسب السندوتش الذي يفضلونه، المغامر الباحث عن الجديد والغريب والحار وغير المعتاد في السندوتش، والتقليدي المتمسك بسندوتش الزمن الجميل، والذواقة الذي لا يأكل إلا السندوتش المصنوع بالخبز الراقي والجبن الغالي والأعشاب النادرة والتقديم المتفرد، والشخص الذي يعيش على الحد الأدنى من الحياة لقناعته بذلك أو لاضطرار مادي أو اجتماعي، وهو الذي يأكل السندوتش المتوافر بأقل الكلف والجهد والفن، والنوع الخامس والأخير هو الواعي أو المهووس بالصحة الباحث عن المكونات الصحية دون النظر إلى مدى حبه أو كرهه لطعمها، فما يهمه ويعنيه هو القيمة الصحية في السندوتش.
هذا النوع الأخير آخذ في التمدد والتوسع، ولأن السندوتش -أي سندوتش- يعتمد على “المشطور” بصورة رئيسة، وحيث إن المشطور في العادة هو الخبز المصنوع من الطحين أو الدقيق، وبما أن السعرات الحرارية ونسبة الكربوهيدرات والدهون وغيرها تطل برأسها المعادي للنحافة والمضاد للرشاقة من كل قضمة، فقد شهد الطحين رحلة طويلة حاول خلالها التخفي تارة بالظهور في لون مختلف يسمونه “خبزاً أسمر”، وأخرى بعد إضافات يطلقون عليها “خبزاً كامل الحبوب”، وثالثة بإضافة مكونات أخرى تشبه الطحين ولكن يقولون إنها صحية أكثر مثل الشوفان والشعير والحمص.
أمير الرمرمة
الجانب الأكبر من هذه الجهود أتت للحفاظ على السندوتش ولقبه باعتباره “سيد الوجبات الخفيفة” و”أمير الرمرمة” (الأكل بين الوجبات) و”زعيم التحايل” حفلات عرس عديدة باتت تعتمد السندوتشات بديلاً للولائم، واستراحة الغذاء في المؤتمرات والفعاليات المهنية يطغى عليها طابع “سندوتش على الواقف” بديلاً عن غذاء الجالسين الذي قد يمتد ساعات وهو ما يعرض الجلسة التالية لخطر عدم الحضور، إضافة إلى أن السندوتش سواء كان ساخناً مقرمشاً يحوي لحوماً أو دجاجاً أو أسماكاً خرجت لتوها من الفرن، أو كان بارداً في قسم اللحوم والأجبان الباردة وغيرهما ما زال يدغدغ أحلام الجوعى ويداعب الأمنيات الملحة لأطعمة بعينها في أوقات صعبة.
هذه المكانة المتفردة والسامية دفعت المبتكرين والمبتكرات للخروج من حلقة سعرات الخبز المرتفعة ومكوناته من الكربوهيدرات القادرة على الإطاحة بأي نظام تنحيفي أو جهد لإنقاذ الوزن للخروج ببدائل الخبز بأنواعه.
البحث عن بديل “سخيف”
رحلة البحث عن بديل الخبز في السندوتش مروعة، لماذا؟ لأن خبراء السندوتشات في العالم يؤكدون أن السر الأكبر في تعلق مليارات البشر بالسندوتش والمتعة التي يجدونها في التهامه يكمن في الخبز، فإذا راح الخبز راحت المتعة، أو في الأقل جزء كبير منها.
وتتوالى البدائل على رؤوس الباحثين عنها، ورقة خس أو سبانخ كبيرة توضع عليها الحشوة ويتم لفها، ويستحسن أن يغمض الشخص عينيه أثناء أكلها حتى يتمكن من تخيل أن الورقة خبز.
ويمكن استبدال الورقة الخضراء بشريحة من الخضراوات المسلوقة أو المشوية مثل الباذنجان أو الكوسة أو أي من الخضراوات التي يمكن تقطيعها شرائح عريضة، وينصح البعض باستخدام فطر “بورتبلو” المعروف بكبر حجمه بديلاً كذلك.
وقائمة بدائل الخبز لتجهيز سندوتش من دون “المشطور” كثيرة، ومنها عجين الموز المقلي والقرنبيط أو البروكلي المسلوق والمخفوق والسبانخ المطحونة وجاكيت البطاطا المشوي، وغيرها من الأفكار التي يختلف في تقييمها عشاق السندوتش ويراها البعض سخيفة وقبيحة المذاق.
وعلى رغم أن هناك من يعد ما سبق حلاً وسطاً لا يحرم المحب من السندوتش وفي الوقت نفسه يقيه شرور السعرات والكربوهيدرات، يرى آخرون كل هذه الجهود والتقييمات والاختلافات عديمة القيمة، وحججهم في ذلك عديدة، فمنهم من يقول إن السندوتش يعني بالضرورة خبزاً وإن أي تحايل على ذلك يعصف بالمنظومة، ومنهم ما يعد الحشو الملقى على ورقة خس أو سبانخ إهانة للسندوتش.
أما الحجة التي تمتزج فيها الفلسفة بالواقع والمنطق، فتتعلق بقصر العمر ومحدودية الاستمتاع وجدوى الحرمان.
نقلاً عن : اندبندنت عربية