“لقد بات من الواضح أن الأسباب التي تدفع المرء إلى حسد قريبه قد زالت، بمعنى أن ما كان بالنسبة إلى القدامى مصدراً لا ينضب للمآسي، قد تحول في العالم الذي نعيش فيه إلى وظيفة تناسقية ونافعة بشكل لطيف للتنظيم الاجتماعي. والكلام نفسه ينطبق على النوم والعمل الجسدي والغذاء… إلخ. فهل تدركون كم أن قوة العقل الكبيرة تطهر الآن كل ما تلمسه. آه أيها القراء المجهولون، لو كان في إمكانكم أن تتعرفوا إلى هذه القوة الإلهية، ولو كان في مقدوركم أن تتعلموا كيف تتبعنا حتى النهاية!!”، ترد هذه الفقرة في رواية “نحن” للكاتب الروسي يفغيني زامياتين. أما القراء الذين يتوجه إليهم الكلام فليسوا من زماننا، بل هم من حقبة تقع نحو القرن الـ30 الميلادي، مما يعني أننا هنا أمام أدب مستقبلي علماً أن نص الرواية هذه قد كتب في عام 1922، أي بعد أعوام قليلة من نجاح الثورة البلشفية التي كان زامياتين من الذين آمنوا بها، بل ترك أوروبا، حيث كان يعيش، ليعود إلى بلاده ما إن اندلعت، كي يشارك في “بناء الوطن الاشتراكي”، بحسب تعبيره نفسه.
“الحيلة” التي لم تنجح
غير أن من يقرأ الرواية سيدرك سريعاً أن الرجل إنما كان يعبر فيها وبكل وضوح، عما لا يقل عن خيبة أمل كبيرة بتلك الثورة وأيديولوجيتها، بالتالي لم يكن خافياً على أحد – وبخاصة على سلطات موسكو – أن الكاتب ليس في وارد امتداح النظام الاشتراكي، بل هو يقدم صورة شديدة السوداوية عنه، بالتالي فإن “حيلة” استخدام الحديث عن عوالم مستقبلية للتعبير عن الرعب إزاء الحاضر لم تنطل على أحد. ومن هنا منعت الرواية من النشر، أما النسخ القليلة التي تسربت إلى الخارج، حيث سرعان ما طبعت الرواية وترجمت، فكانت تتسرب وتتنقل سراً بين القراء. والحال أن رواية “نحن” باتت خلال تلك المرحلة وبعدها، تعد الرحم الشرعي الذي ولدت منه بعض أهم روايات “الخيال العلمي السياسي” التي عرفها القرن الـ20 كنوع من الرد الأدبي والفكري على الأنظمة والأحزاب الشمولية التي راحت تحكم هنا وهناك، ولا سيما في البلدان “الاشتراكية” وفي الدول الفاشية – النازية. وثمة في الأقل ثلاث روايات مهمة في هذا السياق لكتاب اعترفوا بفضل رواية زامياتين عليهم (“1984″ لجورج أورويل و”فهرنهايت 451″ لراي برادبوري و”أفضل العوالم” لآلدوس هاكسلي)، تماماً كما أقر زامياتين نفسه بأبوة إتش دجي ويلز الأدبية له.
دولة متفردة ومحسن كبير
تتحدث رواية “نحن” عن عالم تسوده دولة واحدة يقودها “المحسن الكبير” بصورة متواصلة. وفي هذه الدولة يعيش كل فرد خاضعاً لرقابة الأفراد الآخرين جميعاً، فجدران البيوت هنا شفافة من زجاج نقي، بل إن الناس جميعاً، إذ قلص عددهم وتحولوا إلى مجرد مستهلكين لأطعمة مركبة كيماوياً، يعيشون تحت قبة زجاجية ضخمة تعزلهم عن الطبيعة الخارجية بكل تفاصيلها. أما أسماء الناس هنا فقد استبدلت بأرقام، إذ إن لكل فرد رقماً خاصاً به. أما بطل الرواية فهو رجل يحمل الرقم د-503، وهو مهندس كلف المساهمة في بناء مركبة فضائية ضخمة سميت “المتكامل”، وحددت لها مهمة واضحة: ستخترق فضاءات هذا العالم كي تنشر في العوالم الخارجية الدعاية الداعية إلى اتباع نمط العيش المتبع هنا. في البداية لن يفوتنا نحن القراء أن ندرك مقدار انكباب البطل على عمله فخوراً بالمهمة التي كلف إياها. غير أن صاحبنا سرعان ما سيتخلى تدريجاً عن أفكاره تحت وقع هيامه بامرأة حسناء سرعان ما سيتبين لنا وله، أنها منشقة سرية تنتمي إلى جمعية تحاول أن تقاوم وأن تنظم سلطة مضادة أقل آلية، بالتالي أكثر إنسانية، تماماً كما هي الحال في رواية “فهرنهايت 451”. وتدريجاً ستقود المرأة هذا البطل إلى عالمها وتضمه إلى جمعيتها السرية بعدما جعله هيامه بها مدركاً لوضعه الحقيقي ولحقيقة تلك الدولة التي يخدمها.
وهكذا، بعدما كان البطل يخبرنا، على لسانه، إذ إنه هو نفسه راوي الأحداث، بأنه شديد الحماسة لدولته، وبات أكثر حماسة منذ “قيض لي أن أقرأ كثيراً من النصوص التي لا تصدق حول أزمنة كان الناس يعيشون فيها حياة حرة، أي في دولة متوحشة وغير منظمة”، متسائلاً بدهشة غير مصدق، “كيف تمكنت حكومات ذلك الزمن، ومهما كان من شأن بدائيتها، أن تسمح للناس بأن يعيشوا من دون نظم وقوانين تشبه هذه التي تسير حياتنا، بما فيها من نزهات إلزامية، وأوقات راحة محددة في ساعات معينة…”، ها هو الآن يكتشف عن أن ما كان يدينه و”يؤاخذ” الحكومات البائدة على ممارسته إنما هو الحياة الحقيقية الإنسانية!
الرقيب ساهر دائماً
طبعاً، وكما أشرنا، لم يسه عن بال الرقيب أن الأحداث التي تقول لنا الرواية إنها ستجري في القرن الـ30 هي في حقيقتها متعلقة بما كان قد بدأ يجري في “وطن الاشتراكية الأول”، وأن الرواية بقدر ما هي رواية خيال علمي مستقبلي، هي أيضاً منشور سياسي مناهض للأيديولوجيا الرسمية، بل واحد من أول النصوص في هذا المجال، إذا كان يفغيني زامياتين واحداً من أوائل المبدعين في نوع أدبي جديد كانت انطلاقته الكبرى في القرن الـ20، وهو أدب مناهضة “اليوتوبيا” الذي منه يتفرع نوع “الدستوبيا” بين أنواع أخرى. ولقد كان تأثيره في “الأنتلجنسيا” الأوروبية عند بدايات الاتحاد السوفياتي كبيراً من ناحية نزعته الكوزموبوليتية والإنسانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من هجاء الريف إلى الحياة العسكرية
ولد زامياتين في عام 1884 في بلدة ليبديان بإقليم تامبوف، ودرس في سانت بطرسبورغ كمهندس بحار، إذ جمع بسرعة بين توجهه العلمي وهوايته الأدبية، ليكتب باكراً منذ عام 1913 روايته الأولى “حكاية مقاطعة” التي شن فيها هجوماً ساخراً على الحياة الريفية، وفي العام التالي كتب “عند نهاية العالم” التي حاول فيها أن يفضح مساوئ الحياة العسكرية، فتصدت له الرقابة القيصرية، مما جعله يتراجع ويبقى سنوات دون أن يحاول الكتابة من جديد، منصرفاً إلى عمله الهندسي. وخلال الحرب العالمية الأولى نجده في إنجلترا، حيث يسهم في بناء سفينة روسية عملاقة محطمة للثلوج. وهناك عاودته رغباته الكتابية من جديد، فأنجز “أهل الجزر” التي سخر فيها من الحياة الإنجليزية، ثم ما إن اندلعت الثورة البلشفية التي كان من المؤمنين بها كما أشرنا، حتى عاد إلى بلاده في عام 1917. غير أن عودته لم تكن بالنسبة إليه مناسبة للالتحاق بالثورة والحزب البلشفي الذي بدأ يحكم بعد انتصارها، بل على العكس كانت مناسبة لمبارحته الحزب، وهو الذي كان يغلب عليه نوع من مثالية تمنعه من الخضوع لأية سلطة، وهكذا ابتعد، لكنه اقترب في الوقت نفسه من مجموعة شابة من كتاب ومفكرين عرفوا باسم “إخوة سيرابيون” تقوم معتقداتهم على أنه لا معتقدات لهم على الإطلاق. والحال أن زامياتين كتب روايته الأشهر “نحن” تحت تأثير علاقته بهذه المجموعة، وكان ذلك بدءاً من عام 1922، غير أن الرواية لم تنشر في ذلك الحين في روسيا، بل كان عليها أن تنتظر “البرسترويكا” ليصار إلى نشرها عام 1988، بعدما كانت ترجمت ونشرت في عديد من اللغات، ومع هذا تمكن البعض في الداخل من الحصول على نسخ قليلة منها ليكتشفوا عملاً يتحدث عن “مستقبل بعيد جداً”، تسود فيه تلك الدولة الواحدة التي يعيش عمالها خاضعين لرقابة دائمة، يأكلون الأطعمة ذاتها، ويرتدون ثياباً موحدة، وحتى يمارسون جنساً معقلناً من قبل الدولة التي يترأسها ذلك “المحسن” الكبير الذي ينتخب دورة بعد أخرى إلى ما لا نهاية.
في عام 1923 توجه زامياتين ليكتب للمسرح فتمكن من أن يحقق هنا نجاحات لا بأس بها، لكن كتابته “نحن” وتوزيع نسخ سرية منها جعل الصحافة الرسمية ونقادها يشنون ضده حملات أجبرته على الانزواء جانباً بعدما منعت مسرحياته. وفي عام 1931 اضطر ماكسيم غوركي إلى التدخل كي يسمح له ستالين بمغادرة البلاد. وتوجه زامياتين إثر هذا إلى فرنسا، حيث عاش السنوات السبع الأخيرة من حياته وقد ألم به المرض ولم يعد قادراً على الإنتاج بزخمه القديم نفسه. وهناك مات في عام 1937، مخلفاً “واحدة من أفضل الروايات من هذا النوع الأدبي الاحتجاجي”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية