مثلما يقطع الشاعر جواد الهشومي في مجموعته “ريستريتو بأخف ما يمكن” مع الموضوعات الكبرى التي تشغل معظم المنتسبين إلى الكتابة، يقطع في الآن ذاته مع كل الإطارات الكبيرة التي تتخلق فيها صور شعرية مألوفة، وتوليفات لغوية صارت على ما يبدو متاحة للجميع. كأنما يريد شباب اليوم من الشعراء أن يبلغوا رسالة لأسلافهم في الشعر مفادها أن لدينا عالمنا وأشياءنا الخاصة التي نكتب عنها وفق نظرة تخصنا هي الأخرى.
هذا الميل إلى كل ما هو صغير وجزئي في الكتابة يبدو واضحاً من العنوان، إذ يختصر الشاعر هذا المؤشر الأساس في فنجان قهوة وفي نوع محدد وبتفصيل دقيق: “ريستريتو بأخف ما يمكن”. وهذا الخيار تترجمه أيضاً عناوين معظم النصوص التي يضمها الكتاب: نظرة من ثقب صغير في النافذة، قراءة صحيحة لصورة شخصية، نوتة خارج سلم البيانو، مثل لقطة صعبة من فيلم، أمام لوحة دو ستاري نايت، أشياء تحدث في مكان آخر.
ويكتب جواد الهشومي عن الزاوية الصغيرة التي يجلس فيها بالمقهى وعن عاداته وذوقه في التشكيل والسينما والموسيقى، وعن ذنوبه الصغيرة التي تكبر مع العمر وعن صورة قديمة ودولاب منسي وعن شمعة تستغرب من مفتاح الكهرباء، وعن صوت الشوكة على الزجاج وصوت الأظافر على السبورة. ويكتب عن أحلامه التي تشبه قطعة قماش مبتلة في يوم بلا شمس وعن سفينة الحب التي “تبحر في البحر وفي اليابسة” وعن “الجندي الهارب من معركة إلى بيت حبيبته”.
حين يريد الشاعر أن يجسد العالم مثلاً، فهو لا يرسمه بمقاساته الكبيرة، وإنما يصوره بتفاصيل صغيرة وغريبة. وفي نص “في المقهى أرسم بورتريهاً للحياة” نقف عند هذه الصورة: “هذا العالم/ كان في البدء/ يقطينة”.
وعلى هيئة رجل مهموم يكتب على ورقة صغيرة عبارة “أنا أختنق” ثم يتكئ على صخرة. نقرأ في قصيدة “نظرة من ثقب صغير في النافذة” هذا الاستهلال: “انظري إلى هذا العالم الذي يأوينا/ انظري إلى وجهه العابس/ وانحناءة رأسه إلى ركبتيه/ الشلالات التي يتغزل بها سكان نياجرا/ إنها دموعه/ والغابات التي احترقت في الأمازون/ كانت رئته”.
حب من دون معجزة
في “ستريتو بأخف ما يمكن” يحضر الحب بما يتناغم مع عمر الشاعر ومع عصره. ويبدو أن الحب لدى الشعراء الشباب عموماً فقد حضوره الأسطوري الذي ألفناه لدى شعراء الأجيال السابقة. إنه تقريباً حب بلا معجزة، فلا وجود لامرأة لا يستطيع الشاعر من دونها.
ليست المرأة عند جواد الهشومي كائناً بارداً في الضرورة أو مفرغاً من المشاعر، لكنها امرأة خارجة من الواقع بجمالها وببشاعتها أيضاً، بإشراقاتها وبأخطائها بما يدفع إلى حبها وبما يحرض على النفور منها.
المرأة عند الشاعر تحضر وتغيب، وحضورها يهدئ ضجيج العالم وفق تعبيره. لذلك يدعوها إلى مائدة عشاء وإلى “وجبة دافئة من الشعر”، يطوقها من خصرها ويرقصان معاً. إنها امرأة واقعية تجلس في مدرج السينما وتصعد إلى سيارة فاخرة، كما أن ارتباطها بالرجل ليس متيناً في الضرورة. ويدرك الشاعر أن “الأشياء التي نحب معرضة للفقدان دوماً” كما قال كافكا، لذلك كان مهيأ لهذا الفقدان، من ثم يطلب من النادل أن يحافظ على الطقوس نفسها داخل المقهى على رغم غياب المرأة التي كانت ترافقه إلى المكان. وهذا أيضاً ما يعبر عنه عنوان أحد نصوص المجموعة: “الأشياء نفسها، لكن بعد رحيلك”. وصحيح أن الشاعر يرفع أنثاه من حين إلى آخر لمقامات شفافة، لكنه يخاطبها بكل هدوء: “دعينا ننتهي/ تماماً/ مثلما بدأنا”. غير أن هذا الهدوء في تجربة الشاعر يراوح مكانه من حين إلى آخر، لتظهر بعض الالتماعات التي تجعلنا نتذكر أنه عاشق كبير، لكنه على ما يبدو يخفي مشاعره، أو في الأقل يقتصد في تصريفها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وحين يخاطب الشاعر حبيبته يلجأ إلى بلاغات أخاذة: “الجدار الذي يبنيه الحزن/ يهدمه صوتك”. يتفادى تشبيه عينيها بشيء آخر “عيناك لا تشبهان شيئاً”، لكنه يستبدل هذه المقارنة اللغوية بسؤال: “هل السماء زرقاء في عينيك؟”، ثم يردف: “أغبط الأشياء التي ترينها”.
بلاغات خفيفة
في “ريستريتو بأخف ما يمكن” يتفادى جواد الهشومي البلاغات المقعرة والجمل الطويلة المركبة، والبناءات اللغوية والدلالية التي ترهق القارئ وتدعوه إلى بذل مجهود مضاعف لتفكيك هذه الأبنية. ويبدو استناداً إلى هذا المعطى أنه ينشد إمتاع المتلقي، وتحقيق ما يشده إليه. وربما تكون فلسفته هي أن يكون الشعر قريباً من الجميع ومتاحاً لهم.
لغة الشاعر مفهومة ومفرداته متداولة في الغالب، غير أنه بارع في توظيف المفردة الملائمة وتمكنه من اللغة والنحو لا تخطئه عين القارئ والناقد على السواء. وهذا يحسب له لأن معظم شعراء اليوم يسقطون في هذا النوع من الأخطاء.
ويراهن الشاعر على بناء الدلالات وتشكيل الصور بمعجم ينأى عن الغموض، كما لو أنه يريد أن يكون الشعر واضحاً، من ثم ألا يتخفى الشاعر وراء اللغة بل إن يتمكن عبر توليف عناصر بسيطة من بناء نص عميق وثري بالشعرية، كما لو أنه ذلك الخزاف الذي يستطيع أن يبدع من الطين والماء مزاهر مدهشة. ويؤمن الشاعر بتلك المقولة القديمة لابن المقفع التي لم ينتبه إليها شعراء كثر استغرقتهم البلاغة على حساب ما يحمله النص وراء اللغة. فقد قال صاحب “الأدب الصغير والأدب الكبير”: “البلاغة هي إجاعة اللفظ وإشباع المعنى”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية