جمعت الشركات السعودية الناشئة نحو 750 مليون دولار من خلال 178 صفقة تمويل خلال العام الماضي 2024، بحسب تقارير “ماغنت”، وهو نمو قياسي غير مسبوق في رحلة تقارب عقداً من الزمن.
رحلة تطلبت إنشاء بنية تحتية ومنظومة اقتصادية متكاملة بدءاً من الشركات وصناديق رأس المال الجريء وحاضنات ومسرعات الأعمال، إضافة إلى الدعم الحكومي والأطر القانونية والسياسات التنظيمية، وكذلك مساهمة مؤسسات البحث والتطوير، انتهاء بتوفير فرص إقامة الفعاليات والمؤتمرات والمجموعات التي تربط الشركات الناشئة بالمستثمرين، كل ذلك لتوفر للشركات الناشئة ورواد الأعمال فرصة للنجاح والنمو والمساهمة في الاقتصادات المحلية والإقليمية وقريباً العالمية.
ويستحوذ الثلاثة الكبار السعودية والإمارات ومصر على ما يزيد على 90 في المئة من إجمالي قيمة الاستثمار الجريء، استطاعت وبنجاح استكمال المنظومة الاقتصادية للشركات الناشئة وبدأت بجني ثمارها حتى أصبحت هذه الدول وجهة لمن يحمل حلم تأسيس شركة ناشئة ناجحة.
ولا يزال هناك كثير من الخطوات التي ستدفع منظومة الشركات الناشئة إلى مستويات أعلى مثل زيادة مساهمة الشركات الصغيرة والمتوسطة في الناتج المحلي الإجمالي من 20 في المئة عام 2016 إلى 35 في المئة بحلول عام 2030 ضمن أهداف “رؤية 2030″، وفي حين تتفوق السعودية والإمارات بالجاهزية الرقمية، تمتلك مصر القدرة بشرياً لتعويض ذلك، وتكامل الدول إقليمياً سيدفع منظومة الشركات الناشئة في العالم العربي لتصل إلى مرحلة أكثر تطوراً.
2025 عام التحديات
للخبراء آراء متسقة في شأن التحديات التي ستواجه الشركات الناشئة عام 2025، وهذا مؤشر نضوج ضمن المنظومة الاقتصادية للشركات الناشئة.
ويرى الشريك المؤسس لصندوق “سُكنى فنتشرز” لرأس المال الجريء في الرياض وليد البلاع أنه “لا يزال الاقتصاد العالمي تحت تهديد الركود، وزادت هذه التهديدات مع توجهات الإدارة الأميركية الأخيرة حيال تسليح التعريفة الجمركية في تعاملها مع الخصوم والأصدقاء على حد سواء، مما قد يضيق على قدرة مديري الصناديق الجريئة على الحصول على رأس المال اللازم للاستثمار في الأصول الابتكاري، خصوصاً أن أخطارها عالية”.
في المقابل فإن شهية هذه الصناديق الجريئة تغيرت كثيراً أخيراً مع التركيز على الذكاء الاصطناعي والتقنيات العميقة، مما يضع شركات ريادية عدة موجودة في ساحات تقليدية مثل البرمجة كخدمة (SaaS) والمنصات السوقية أقل جاذبية وعرضة للزعزعة التقنية، وفق ما ذكر وليد البلاع.
ويضيف أن “الوتيرة المتسارعة في تقدم التقنية زادت من المنافسة على المواهب والكفاءات ذات المهارات العالية، مما رفع الكلفة على الشركات الريادية بصورة ملحوظة، ومع تغلغل الرقمنة في مناحي الحياة والاقتصاد تصبح حساسية البيانات والأمن السيبراني أعلى بكثير من ذي قبل، وتصبح كلفة التزام القوانين ذات العلاقة أعلى مع محاولة التشريعات مواكبة ذلك التغلغل وفرض غرامات باهظة على الفشل في التقيد بها”.
أما خلدون طبازة الذي بدأت علاقته مع التكنولوجيا عام 1994 كرئيس تحرير لمجلة “بايت” النسخة العربية وهو اليوم المؤسس والرئيس التنفيذي لمجموعة “آي مينا” في دبي أن “التحديات خلال عام 2025 هي بصورة رئيسة امتداد للتحديات في السنوات الماضية، وأهمها نقص الكفاءات وهجرة أفضل الكفاءات للشركات الناضجة وصعوبة جذبها للشركات الناشئة”.
وتابع أن “التمويل لا يزال تحدياً مهماً، خصوصاً مع تأخر التخارج من كثير من الاستثمارات خلال الأعوام الماضية، مما أدى إلى حذر لدى المستثمرين وانخفاض قيمة الاستثمارات العام الماضي، وأخيراً هناك تحديات جديدة ظهرت مع نمو قطار الرقمنة، بالتالي تقاطعه مع الجهات الرقابية الحكومية التي لا تزال في طور التأقلم للتعامل مع الشركات الناشئة مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى عقبات للشركات الناشئة”.
الخبير آشر صديقي الذي يمتلك مسيرة مهنية عالمية تمتد لأكثر من ربع قرن قام خلالها بإنجاز أكثر من 100 استثمار وأتم صفقات اندماج واستحواذ بقيمة 15 مليار دولار، يرى أن هناك تحديات عدة قد تواجه الشركات الناشئة عام 2025 من بينها “تحدي جمع رأس المال وسط التقلبات الاقتصادية، إذ يصبح المستثمرون أكثر انتقائية، وجذب المواهب والحفاظ عليها، بخاصة في المجالات المطلوبة بشدة مثل الذكاء الاصطناعي وعلم البيانات والتقنيات العميقة، وكذلك التعامل مع التنظيمات والتشريعات المتفاوتة بين أسواق منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مما قد يبطئ جهود التوسع في الإقليم”.
فرص واعدة عام 2025 بقيادة الذكاء الاصطناعي
وعلى رغم التحديات فإن هناك كثيراً من الفرص والقطاعات الواعدة عام 2025 قد تكون تاريخية، خصوصاً في ظل النمو المتسارع للذكاء الاصطناعي وتطبيقاته.
وتتوقع “أس تي في” في تقريرها “وكلاء الذكاء الاصطناعي” بأن تُؤسس نحو 10 شركات في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي قيمتها ما بين مليار و3 مليارات دولار لكل منها خلال الأعوام الخمسة المقبلة داخل دول مجلس التعاون الخليجي.
وحول ما يهتم به المستثمرون تذكر “أس تي في” ضمن تقريرها “كمستثمرين نؤمن بأن القيمة الأكبر في الذكاء الاصطناعي تكمن في طبقة التطبيقات، حيث تُستخدم النماذج لحل تحديات تجارية محددة”.
وحدد التقرير الفرص في مجالات أتمتة مراكز الاتصال وأتمتة الاستدلال وسير العمل والتوليد الإبداعي في قطاعات عدة كفرص ستكون مجدية في منطقة الخليج العربي.
ويقول خلدون طبازة “مما لا شك فيه أن الذكاء الاصطناعي وبصورة خاصة، الشركات الناشئة في مجال رقمنة القطاعات المختلفة في الاقتصاد بالاستعانة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، ومن ضمنها الأسواق الإلكترونية تشكل أحد أهم القطاعات والفرص، إضافة إلى ذلك لا تزال التقنية المالية بما في ذلك الشركات الناشئة في مجال التقنية في قطاع التأمين والاستثمار والتمويل من القطاعات المهمة والجاذبة للمؤسسين والمستثمرين على حد سواء، كما أن قطاعات الصحة والتعليم المبنية على التقنية تعد من القطاعات الجاذبة”.
وهناك تحديات تواجه فرص الذكاء الاصطناعي، خصوصاً توطين نماذج اللغة ومراكز البيانات وبناء الخبرات والمواهب الوطنية الكافية، ودخلت دول المنطقة في كثير من الاستثمارات والمشاريع لدعم هذا الاتجاه مثل استثمار “ميكروسوفت” و “جي 42” في أبو ظبي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والموقع الاستراتيجي لدول مجلس التعاون الخليجي يمكنها من الاستفادة من التطورات في الذكاء الاصطناعي من كل من الولايات المتحدة والصين، بفضل قوتها الاقتصادية وحيادها الجيوسياسي من دون الاعتماد الكامل على أي منهما، ومن خلال الاستثمار الاستراتيجي في الذكاء الاصطناعي وجذب المواهب وتعزيز الابتكار المحلي يمكن لدول الخليج أن تصبح مركزاً عالمياً للذكاء الاصطناعي خلال العقد المقبل.
وللاستفادة من الفرص ينصح وليد البلاع الشركات الناشئة عام 2025 “بالتمتع باللياقة الريادية والقدرة على التفريق بين الضوضاء والإشارة في ما يتعلق بقدرة الرياديين على اختيار نوعية الحاجات السوقية التي يستهدفونها والنماذج التشغيلية الأنسب لها مع الاهتمام بالأسس المالية وشكل التدفقات النقدية التي تتطلبها للنجاح، إضافة إلى بناء ثقافة عمل قادرة على تمكين الكفاءات وصناعة القرار، وكذلك تقوية الجانب التقني لمواكبة متطلبات عصر الذكاء الاصطناعي والتقنيات العميقة”.
ويوجه آشر صديقي الشركات الناشئة إلى “دمج الذكاء الاصطناعي والأتمتة ليس فقط لتحسين العمليات وتوسيع نطاق المنتجات، ولكن أيضاً لخلق تجربة مميزة ومتفردة للمستخدمين والعملاء، وإعطاء الأولوية لبناء نموذج مالي مستدام، يحقق اقتصاديات وحدة قوية ويضمن القدرة على التشغيل بصورة مستقلة عن جولات التمويل المستقبلية، وأخيراً العمل على التوطين بعقلية عالمية عبر تصميم حلول تلبي الحاجات الفريدة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مع إمكان التوسع عالمياً”.
فرص فريدة في الاقتصاد الرقمي الإسلامي
ولا يمكن تجاهل الاقتصاد الرقمي الإسلامي كأحد المحركات الرئيسة للنمو الاقتصادي العالمي، فمع تعداد سكاني يقارب ملياري مسلم، أي ما يعادل 25 في المئة من سكان العالم، من المتوقع أن يشهد هذا العدد زيادة بنسبة 70 في المئة حتى عام 2060، مقارنة بنمو إجمالي للسكان العالميين بنسبة 32 في المئة خلال الفترة نفسها.
وهذا النمو الديموغرافي يترجم إلى طلب متزايد على كثير من الخدمات والمنتجات مثل الخدمات المالية المتوافقة مع الشريعة الإسلامية والتجارة الإلكترونية الحلال والتكنولوجيا المالية الإسلامية، كما يشمل ذلك حلولاً مثل المدفوعات الرقمية الإسلامية والاستثمارات المتوافقة مع أحكام الشريعة وتقنيات “البلوك تشين” للتمويل الإسلامي، مما يفتح آفاقاً واسعة للشركات الناشئة والمستثمرين في هذا المجال.
علاوة على ذلك، يساهم التحول الرقمي في تعزيز قطاعات أخرى في الاقتصاد الحلال مثل السياحة الإسلامية ورقمنة التراث العربي ومنصات التعليم الرقمي الإسلامي وتكنولوجيا الأغذية الحلال، مما يتيح فرصاً جديدة على المستويين الإقليمي والعالمي.
وتدعم حكومات دول الخليج هذا التوجه سعياً إلى تعزيز مكانة المنطقة كمركز عالمي للاقتصاد الرقمي الإسلامي بعدد من المبادرات والفعاليات، على رأسها مؤتمر ومعرض الحج الذي أقيم أخيراً بنسخته الرابعة في جدة وتبنّى عدداً من الحلول المستدامة والذكية واستعرض التقنيات الصديقة للبيئة لدعم رحلة الحج واستخدامات الذكاء الاصطناعي لتحسين إدارة الحشود والخدمات، إضافة إلى التقنيات الرقمية وتسهيل العمليات عبر حلول رقمية مبتكرة، وكل ذلك يصب في توفير فرص نوعية للشركات الناشئة والمبتكرين في قطاع الحج من المبادرين.
الاستدامة تصنع الفارق
الاستدامة ليست مجرد خيار للشركات الناشئة العربية، بل هي ضرورة لتحقيق النجاح طويل الأمد في بيئة أعمال تنافسية ومطلب للمستثمرين للحد من أخطار الاستثمار الجريء، إذ يؤكد وليد البلاع أهمية الاستدامة للشركة الناشئة من خلال “تفعيل الدور المجتمعي وتكبير الكعكة للجميع، فنجاح الريادي فرع من حيوية وقوة المنظومة التي ينطلق منها ولذلك من الضروري مساهمته في تطويرها على المستوى الشخصي ومع أطرافها كافة من مؤسسين ومستثمرين ومشرعين وغيرهم، وكذلك الاهتمام ببناء شركة ذات أثر، فالاستدامة تتطلب التركيز على قدرة الشركة على خدمة الحاجات الجوهرية التي تهم السوق بدلاً من التركيز على آخر موضة ريادية أو ما يتطلع إليه مستثمرو الجولة التالية”.
ويذكر خلدون طبازة أنه “بالنظر إلى الخبرة المتزايدة التي امتلكها المستثمرون في المنطقة خلال الأعوام الأخيرة والدروس التي تمت الاستفادة منها، فإن الاستدامة والقدرة على النمو والوصول إلى الربحية باتت من أولويات المستثمرين بخلاف الأعوام الماضية عندما كان يتأخر بت تلك المواضيع حتى المراحل اللاحقة من نمو الشركات، وعدا عن ذلك فإن جودة فريق العمل وحجم السوق وتميز المنتج وقدرته على المنافسة ما زالت أهم المعايير التي يهتم بها المستثمرون في الشركات الناشئة”.
طريق الشركات الناشئة العربية للعالمية
المنافسة عالمياً ليست حلماً بعيداً من الشركات العربية الناشئة بل هدفاً قابلاً للتحقيق وأقرب من أي وقت مضى، ولتحقيق ذلك يرى وليد البلاع أنه على الشركات الناشئة “تبني عقلية العالمية منذ اليوم الأول والطموح للوصول إلى العالمية، ولا يمكن لشركة ريادية الوصول إليها ما لم يجرِ البناء لها عند وضع أساسات الشركة منذ البداية بما في ذلك ثقافة الشركة وآلية صنع القرار وخريطة طريق تسمح لنمو البنية التحتية الرقمية للشركة مع كل مرحلة نمو تصل إليها ولكن من دون الوقوع في فخ التقليد الأعمى أو إهمال المزايا المحلية المتوافرة للريادي”.
كما يشير آشر صديقي إلى أن من المهم “الاستفادة من الموقع الاستراتيجي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كمركز يربط أفريقيا وآسيا وأوروبا لتعزيز التوسع الدولي والتعاون مع المستثمرين الدوليين والشركات الكبرى والمسرعات لضمان الوصول إلى الأسواق واكتساب الخبرات العالمية، ومن ثم استغلال المزايا الإقليمية وسد الفجوات السوقية في القطاعات الرئيسة عالمياً مثل الخدمات المالية والبناء واللوجستيات وتجارة التجزئة والسفر والسياحة والطاقة”.
ويضيف أنه يجب “التركيز على الابتكار في القطاعات التقليدية عبر التكنولوجيا المتقدمة، مثل الذكاء الاصطناعي في اللوجستيات و”البلوك تشين” في العقارات، والتكنولوجيا المالية في قطاع الخدمات المصرفية، إذ سوف تفتح آفاقاً جديدة للنمو والتوسع، وكذلك تحقيق ميزة تنافسية عبر الحلول المخصصة بتطوير منتجات وخدمات تستهدف الحاجات الفريدة للأسواق المحلية مع مراعاة قابليتها للتكيف مع الأسواق العالمية لتعزيز الاستدامة والنمو السريع”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية