لا يتجلى الموت في صورته المألوفة عند الشاعر والرسام سليمان الدريسي، ربما لأن وظيفة الشاعر والرسام على السواء هي خلق هذه الانزياحات الدلالية، وجعل المتداول والمألوف غريباً وغامضاً أو في الأقل على هيئة جديدة لم يألفها المتلقي. ما من مناحة أو حداد أو فجائعية في خطاب الشاعر حين يتعلق الأمر بالموت، بل ثمة بالمقابل خفة وسحر وجنوح واضح إلى السريالية. فهو يسمي الموت “نشوة التلاشي”، ويسمي الحفارين “بستانيي القبور”. نقرأ في نصه الأول: “أموات ما زالوا على قيد الحياة، يشاهدون فيلماً لشارلي شابلان ويبكون / الأشجار التي ستصنع منها عكاكيزهم لم تنبت بعد / وليس في حوزتهم سوى الفؤوس”.

إنه يقطع مع هذه الجهامة التي ترافق الموت، ففي نص لاحق يصور الشاعر وهو جالس في سيارة لنقل الموتى، لكنه على رغم خصوصية هذا الوضع فهو “منهمك بكتابة قصيدة لحبيبته/ وفي يده اليسرى يحمل ناياً”. وفي نص ثالث تتكلم الجثث بصوت خافت في ثلاجة الموتى و”تتبادل القبل بمتعة نادرة”. ويكفي التوقف عند عناوين بعض النصوص للتدليل على هذه النظرة المغايرة للموت لدى الشاعر: “بين الجلد والعظام حديقة موت”، “قبري يزحف نحوي فأضحك”. ولأن الموت صديق حميم بحسب وصف إدواردو غاليانو، و”طبيعي تماماً مثل الولادة” كما قال فرانسيس بيكون، فإن سليمان الدريسي ينظر إليه ضاحكاً باعتباره عنصراً فاقداً لكل رهبة في نظر الشاعر.

صداقة الشعر والتشكيل

يستثمر سليمان الدريسي خبرته في الرسم، وفي الثقافة التشكيلية عموماً، ليصرفها داخل الشعر، فلغة هذا الفن حاضرة في “المشي في الشمس طويلاً”، ومفرداتها موزعة على مختلف النصوص: لوحة، مرسم، شكل، الفراغ، مصبوغة، القماشة، أزرق ماجوريل، خربشات، رسام، الضوء، صور، دادائية.

ولا تتوقف العلاقة بين الشعر والتشكيل في نصوص الشاعر عند العنصر اللغوي فحسب، بل تمتد إلى الدلالة، إذ يصير التشكيل موضوعاً للنص الشعري، كما هو الشأن في قصيدة بعنوان “قيلولة في حقل عباد الشمس”، إذ يتفاعل الشاعر مع لوحة فان غوخ الشهيرة “عباد الشمس” في سياق ما يعرف بالإكفراسيس، أي تقاطع المكتوب مع المرسوم، وتجسده أشكال مختلفة من التفاعلات التي يولدها الشاعر أو الكاتب مع أعمال فنية. ولا يعد المكتوب الناجم عن هذا التفاعل في الضرورة قراءة أو تأويلاً لما تحمله اللوحة، بل هو تجسيد وترجمة لذلك الأثر أو الوقع الذي يخلفه العمل الفني في نفسية الشاعر أو الكاتب.

لكن الحضور اللافت للتشكيل في نصوص سليمان الدريسي تجسده طريقة بناء النصوص، إذ سيجد القارئ نفسه أمام لوحات فنية تختلف إطاراتها وخلفياتها ونسب الحركة والضوء ومستويات اللون فيها، لكنها تحمل في كل تمظهراتها ما يجذب المتلقي إليها.

في أحد نصوصه يدعو القارئ، ومعه الشاعر، إلى الصمت من أجل تأمل هذه اللوحة: “الشعر/ أن تمشي وحيداً/ في شمس الخريف/ نحو تلك الهضبة/ حيث توجد شجرة أرغان/ وحيدة هي أيضاً”. فضلاً عن هذا الملمح الطبيعي الهادئ، تتشكل عناصر الطبيعة في عين الشاعر وفق رؤية فنية، فتتحول من شكلها الواقعي إلى شكل آخر أثرت فيه بالتدريج ضربات الفرشاة: “للبحار عيون/ كل بحر هو متخصص تجميل/ وكل مجداف هو مرود/ للأرض غمازات كثيرة/ يسميها الجهلة تضاريس”. غالباً ما يستهل الدريسي المشهد بعنصر أول، ثم تتعاقب العناصر الأخرى تباعاً من أجل تأثيث المشهد، وهي عناصر مادية بالأساس، يتدخل الشعر بخفة ليمنحها هذا البعد السحري، وينقلها من الملموس إلى الرمزي. نقرأ في أحد نصوصه اللافتة: “وها أنا الآن/ تحت المطر/ منهمك بخياطة/ مظلتي/ بينما/ حياتي/ ذهبت مع الريح”.

هذا الحضور اللافت للبناء التشكيلي تسنده الاستحضارات المتعاقبة لعالم السينما أيضاً، فالدريسي يبدي براعة واضحة في تصوير المشهد، غير مستند إلى اللغة فحسب، بل مستلهماً تقنيات التصوير السينمائي منذ الجملة الأولى في الكتاب: “في البدء كانت كل الجثث مرمية على الأرض”. كما أن الموسيقى تحضر بمفرداتها ورموزها لا لتدعم جماليات النص فحسب، بل لتدخلنا أيضاً إلى العوالم التي يستلهم منها الشاعر خلطاته السحرية ويستمد منها طاقته في الكتابة الإبداعية.

شاعر بري

إن كتابة سليمان الدريسي تشبه إلى حد كبير حياته، وهذه خصيصة فريدة بدأت في التراجع، خصوصاً بعد هذه الهجمة الشرسة للتكنولوجيا وأشكال الحياة التقنية الجديدة، والتواري الكبير للفنانين الطبيعيين خصوصاً مع نهاية موجة الهيبيين، وتراجع حالات الرفض والاحتجاج على الخطاب الرسمي، والتمرد على الثقافة المشتركة، من لدن شعراء وكتاب ومفكرين وفنانين بصموا العقود الأخيرة من القرن الماضي ببصمات كبيرة من الانفلات والمغايرة والخروج عن السائد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في المقطع العاشر من نص “ضربة شمس” الذي يستهله الشاعر بهذه الجملة: “لا أحب ارتداء الثياب” يقربنا كثيراً من عوالمه، فهو يتمدد نهاراً تحت الشمس في شاطئ أو جبل، ويقضي الليل في بحيرة رفقة التماسيح وأسماك البيرانا، أما في فصل الثلج فينتقل بين الأشجار، وإذ يلوذ بالغابة أو الجبل يبحث عن أصدقائه من الغربان والنسور. يضيف الشاعر: “أسير حافياً على الحصى/ هكذا فقط أحس أني صديق قديم للأرض”.

فالدريسي الذي ما زال يواصل جنوحه الخاص في الهرب من الارتباطات الاجتماعية التقليدية، والهرب من المدينة نحو المغارات والبراري والمرتفعات الوعرة والشواطئ غير المحروسة، والمشي عارياً تحت الشمس في الأماكن التي يصعب الوصول إليها، يضخ في نصوصه بالمقابل كثيراً من البوهيمية والجنون، والدعوة الصريحة أو الضمنية إلى العودة لحالات العراء الإنساني والتخفف من أثقال المدنية ونزع الأردية التي تضعها الجماعة على الفرد بصورة قسرية. والشاعر وهو يكتب هذه النصوص المبطنة بهذا النوع من الرسائل لا يبدو متكلفاً أو متصنعاً أو زعيماً وحامل يافطات وشعارات في شارع عام، إنه بكل بساطة ينقل حياته من الواقع إلى الورق.

نقلاً عن : اندبندنت عربية