الشيخ ياسر السيد مدين يكتب: في الصلاة



لا نزال أمام هذا المشهد العجيب فى مجلس سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حيث يجلس سيدنا جبريل، عليه السلام، أمامه فى هيئة رجل غريب، لا يُرى عليه أثر سفر، أبيض الثياب، أسود الشعر، بهى المنظر، طيب الريح، جلس يلصق ركبتيه بركبتى سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويضع يديه على ركبتيه، صلى الله عليه وسلم، وقد سأله عن الإسلام ما هو، وها هو سيد الخَلق، صلى الله عليه وسلم، يجيبه بجواب جامع: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتقيمَ الصلاة، وتُؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجَّ البيت إن استطعتَ إليه سبيلاً».يبدأ الإسلام بشهادة «أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم». 

وشهادة المرء بأن سيدَنا محمداً، صلى الله عليه وسلم، رسول الله معناها أنه يضع نفسه فى موضع التابع المذعن له، صلى الله عليه وسلم.وقد أراد الشارعُ الحكيم لهذه الشهادة أن تبقى حية فى النفوس، فأمر بترديدها فى كل أذان وفى كل صلاة، وهذا الترديد المعلَن والمسَرُّ لهذه الشهادة معناه تأكيد ما تتضمّنه من حقائق فى النفس وأمام الناس.

ثم بعد ذلك تأتى إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وكلُّها عبادات تلقينا الأمر بها فى القرآن الكريم، وجاءت السّنة المطهرة بتفاصيل أدائها، وأداء المسلم لهذه الفروض عبارة عن محاكاة لهدى سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم. والتزام المسلم بهذه الفروض شهادة عَمَلية بأنه «لا إله إلا الله»، ومحاكاته لطريقة سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم فى أداء هذه العبادات شهادة عمَليّة بأن «سيدنا محمداً رسول الله»، صلى الله عليه وسلم. 

فكما شهد المسلم بلسانه «أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم»، شهد حاله وفعله بهذا أيضاً من خلال الصلاة والزكاة والصيام والحج.وقد يتساءل متسائل: لماذا لم تُذكر المعاملات فى هذا الحديث؟! 

أليست من الإسلام؟!

والحق أن الإسلام شامل لكل الحياة، وأن الذى تضمّنه الحديث هنا شامل لكل شئون الحياة، إنها كلمات تجمع أصول الصلاح فى كل مناحى الحياة، فالصلاة ليست مجرد عبادة تؤدَّى فى المسجد أو البيت دون أن يكون لها أثر لها فى سلوك مؤديها، وإنما الصلاة تربأ بالمصلى عن الفحشاء والمنكر، يقول الله تعالى: «وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ» [العنكبوت: 45].

ونلحظ أن هذه الآية الكريمة والحديث الذى نحن بصدده لم يأتِ فيهما الأمر بالصلاة، وإنما بـ«إقامة الصلاة»، بل قال السادة العلماء: إنه الله تعالى «لم يأمر بالصلاة حيثما أمرَ، ولا مدحَ بها حيثما مدحَ، إِلَّا بلفظِ الإقامة»؛ وذلك تنبيهاً على أنها المقصود، وليس مجرد أداء الهيئة، وقد بيَّن المفسرون أن (إقامة الصلاة) تحتمل أحد معنيين، أولهما الإقامة بمعنى تعديل أركان الصلاة وحفظها من أن يقع زيغ فى فرائضها وسننها وآدابها، والثانى بمعنى الدوام عليها والمحافظة عليها.وكلا المعنيين صحيح مطلوب شرعاً، وإقامة الصلاة تنهى العبد عن الفحشاء، وهى كل ما عظُم قُبحُه من الأقوال والأفعال، وتنهاه أيضاً عن المنكر، وهو كل فعل يحكم الشرع بقبحه.و(المنكر) من الإنكار، والإنكار -كما يقول الراغب الأصفهانى، رحمه الله تعالى-: أصله أن يَرِدَ على القلب ما لا يتصورُه. فكأنَّ العبد ارتقى بإقامة الصلاة إلى حيث صار لا يتصور وجود مثل هذه القبائح فَضْلاً عن أن يرتكبها.فالصلاة تطهر النفوس والمجتمعات من كل ما يَنهى عنه الشرع وتستنكره القلوب الطاهرة والعقول المستقيمة والفِطَر السليمة. وهذا بدون شك تأسيس لاستقامة المعاملات.



نقلاً عن : الوطن