الأرجح أنه حتى قراءة عنوان تلك المقالة التي ظهرت أخيراً في صحيفة “وول ستريت جورنال” عن إمكان التعايش مع الشيزوفرينيا، قد تحرك في عشاق السينما ذكريات عن فيلم “عقل جميل” Beautiful Mind (2001، بطولة راسل كراو) الذي تناول حياة عالم الرياضيات الفذ جون ناش، مبتكر “نظرية اللعب” التي قدمت الأساس العلمي لأشياء تمتد من الاستراتيجيات العسكرية إلى ألعاب الفيديو والبرمجيات الرقمية المتنوعة، خصوصاً التي تتتضمن تفاعلات متبادلة بين أكثر من طرف. وإذا سمعت سياسياً يتحدث عن صراع بنتيجة صفرية [ما يكسبه طرف يجب أن يخسره آخر] أو محللاً استراتيجياً يشير إلى الردع النووي المتبادل كأساس لاستقرار السلام المعاصر [امتناع الطرفين عن الكسب، لأن الفوز النهائي متعذر] عن الاستقرار السلمي عبر الردع النووي المتبادل أو عالم كومبيوتر يتحدث عن تألق الذكاء الاصطناعي في الشطرنج ولعبة “غو” الصينية [وضع معادلات رياضية عن نوايا الخصم]، أو محللاً اقتصادياً يتناول الاستثمار في أسواق مالية مضطربة [يتطلب رصد تحركات المنافسين وكيفية استعمالهم لأموالهم وتفاعلهم مع مخرجات “لعبتها” مع الأسواق]، سيفيدك أن تتذكر أن الراحل جون ناش وضع الأسس النظرية لتلك الأشياء كلها.
واستكمالاً، الأرجح أن قراءة المقالة المشار إليها آنفاً، ستستدعي على نحو خاص المشهد الختامي لفيلم “عقل جميل” الذي يظهر فيه التصالح بين جون ناش الذي عانى أحد أنواع الشيزوفرينيا Schizophrenia، وبين الصور المتوهمة لأشخاص لا وجود لهم إلا في عقله “الجميل”، لكنه استمر سنوات طوال بالاعتقاد بأنهم شخصيات حقيقية، بل أن أصواتهم وما نقلوه من أفكار إليه، سيطرت على حياته كلها.
وقبل العودة لمقالة “وول ستريت جورنال” عن تعليم المصابين بالشيزوفرينيا كيفية التصالح والتعايش مع أعراضها، تفرض الأمانة العلمية الإشارة إلى أن الفيلم وقع في مجموعة أخطاء علمية عن جون ناش، خصوصاً أن ما عاناه العالم الراحل من اضطراب عقلي ونفسي، لم يكن من النوع الذي عرض في الفيلم. وعانى ناش أفكاراً متوهمة تسلطت عليه من دون أن تمتلك أي سند واقعي، على غرار وجود مؤامرات معقدة تستهدف الولايات المتحدة وترمي إلى السيطرة عليها بواسطة توجيهات سرية لعملاء متخفين تابعين لدول أجنبية يتلقونها عبر أخبار عادية ملغزة تنشر في الصحف، وما إلى ذلك. وحينما منح بصورة متأخرة تماماً جائزة نوبل للاقتصاد، ذكر بوضوح أنه ما زال “يصدق” كثيراً من تلك الأفكار، لكنه تعلم أن يميزها عن تلك التي تأتي في مسارات تفكيره الطبيعي.
تعريف عن الفصام وأنواعه
يستهل تلك المقالة في الصحيفة الأميركية الشهيرة، بعرض حالة الأميركي نواه هودنوت (38 سنة)، الذي خضع لعلاجات متناسلة الفصول في المركز الطبي التابع لجامعة كاليفورنيا، لوس أنجلس.
وتسيطر على هودنوت أفكار هاذية لكن لا مجال لدحضها بأي براهين كانت، على غرار فكرة أن جسمه قفز فجأة إلى حجم عملاق فتمكن من تحطيم برجي مركز التجارة العالمية في 11/9 2001، فهو يحسب أنه مسؤول عن تحطيم البرجين وليس طائرات “القاعدة”، وبعد تدمير البرجين عاد لحجمه الطبيعي، ولا يثنيه عن تلك الفكرة حتى حقيقة أنه كان في السادسة من العمر حينما وقعت تلك الضربة الإرهابية. وكذلك تهيمن عليه فكرة أنه مسؤول بصورة مباشرة عن التسبب بانطلاق جائحة كوفيد، على رغم عدم وجود أية علاقة له بالفيروسات والمختبرات والصين وشركات الأدوية وغيرها! وإن هودنوت ليس سوى موظف إداري يعمل في مجال الضرائب ضمن شركة مقرها كاليفورنيا.
وتعطي حالتا جون ناش ونواه هودنوت، فكرة عن مدى شدة الاختلال في توازن البنى العقلية النفسية الذي يصاب بالأمراض التي يدرجها الطب النفسي تحت فئة الفصام Psychosis، وتترجم بالذهان أيضاً.
ويشمل الفصام أمراض الشيزوفرينيا بأصنافها المتنوعة والبارانويا والكآبة الثنائية القطبية Bipolar Depression والبارانويا وغيرها. وتتسم تلك الاضطرابات بأنها تترافق مع اختلالات شديدة في عمليات التفكير، وصولاً إلى الأحاسيس والمشاعر والخيال وغيرها. ويقود ذلك إلى خلخلة في مكونات الشخصية عند الإنسان، خصوصاً تفكيره وتعامله مع الآخرين والمجتمع، بل مجمل ما يحيط به ويتعامل معه. وتحت تأثير ذلك، يحدث نوع من التفكك في شخصية المصاب، فيصبح مختلفاً في صورة كبيرة عن الإنسان العادي، بل يتبدل عما كانه قبل المرض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يعاني مريض الشيزوفرينيا رؤية أشياء لا وجود لها، تسمى هلوسات بصرية Visual Hallucinations، ويسمع أصواتاً غير موجودة فعلياً، أي هلوسات سمعية Auditory Hallucinations. وكذلك تتملك عقله أفكار غرائبية لا أساس لها، على غرار ما يدور في ذهن هودنوت، ولا برهان عليها ولا تستند إلى شيء، والأنكى أنه مهما قدمت براهين واضحة عن خطأ تلك الأفكار، لا يتزحزح المريض عن قناعته بها. وتبدو تلك الأفكار مختلة تماماً بالنسبة إلى معظم الناس في محيط المريض، لكنها تتملك عقله كلياً، بل تملي عليه تصرفاته، فتصبح مغايرة لكل ما عليه الحال في المجتمع. وفي اللغة العربية، تسمى تلك الأفكار “الهذيانية” Delusions، وفي القاموس تظهر ترجمات أخرى من نوع “ضلالات” وأوهام” و”هذيان” وغيرها. والأرجح أن تلك “الأفكار” التي لا يمكن فهمها ولا قبولها وغير المستندة إلى شيء ولا تسلسل منطقي من أي نوع كان، هي الأكثر بروزاً في ذلك المرض.
مدرسة التأقلم مع الشيزوفرينيا
وفق مقالة “وول ستريت جورنال”، يطبق المركز الصحي التابع لجامعة كاليفورنيا، لوس أنجلس، برنامجاً مبتكراً يستند إلى تعليم المصابين بالفصام، من أمثال هودنوت، كيفية التمييز بين أفكارهم وخيالاتهم المرتبطة بأمراضهم، وبين تلك التي تنبع من مسار تفكيرهم الاعتيادي. ويسمى ذلك البرنامج الذي سجل فيه هودنوت، “كاليفورنيا أون تراك” California OnTrack، وتشرف عليه مؤسسة “باند هيلث” Pand Health. ويستند البرنامج إلى مهارات وخبرات تراكمت لدى مقاربة منهجية واسعة في الطب النفسي، يسمى “كوأوردنيتد سبيشيلتي كير” coordinated specialty care، في إشارة إلى ضرورة تآزر أكثر من تخصص ومؤسسة في جهد منسق لتعليم الفصاميين كيفية التعايش مع اضطراباتهم. ويقدر أن هناك 381 برنامجاً متفرعاً من تلك المقاربة المنهاجية، وتنتشر عبر ولايات أميركا الـ50 كلها.
وبحسب المقالة، تستند تلك المقاربة الطبية إلى مفهوم علمي يذهب إلى العمل مع مرضى الفصام، يوماً بيوم وعلى طريقة التدريس في المدارس المتوسطة والثانوية، كيفية التصالح والتعايش مع الأصوات المتوهمة والهلوسات البصرية والذكريات الزائفة. وخلال السنتين الماضيتين، أثبتت تلك المقاربة قدرتها، بالتآزر مع العمل الطبي التقليدي عبر الجلسات والأدوية النفسية، على تخفيف تلك الأعراض أو تمكين الفصاميين من تجاهلها.
هل نجد في العالم العربي من سيبادر إلى التواصل مع تلك المقاربة المبتكرة، ويسبر غورها ويتقصى مدى ملاءمتها لأحوال المجتمعات العربية وأناسها، بمن في ذلك المرضى والأطباء والممرضون وطواقم الرعاية الطبية؟ الأرجح أنه أمر لا يناط بفرد، بل يحتاج إلى عمل مؤسسة متكاملة كي تنهض به. ولننتظر ولنر.
نقلاً عن : اندبندنت عربية