“هنري ماتيس حمل معه من المغرب عدداً محدداً من لوحات ورسوم لم تعرض إلا لأيام قليلة فقط. من الواضح لدى هذا الملون الكبير أن للون قيمة رمزية محددة من قبل حساسية الفنان نفسه. أما الرسم الذي يبدو لنا هنا غريزياً خالصاً، فإن التعبير عنه يتم بدرجة شديدة الرهافة من الحساسية، كما بدرجة قصوى من الأناقة… أما لوحتاه (المقهى التركي) و(باب القصبة) فتعدان من بين اللوحات القليلة التي يمكن تحملها بين تلك المستوحاة من أفريقيا الشمالية المعاصرة”.

بهذه العبارات المحيرة بعض الشيء في مجال حكمها القيمي استقبل أبولينير الشاعر والناقد الفني عام 1913 الأعمال التي كان هنري ماتيس حققها استيحاء من رحلته المغربية الشهيرة، وكانت ثانية رحلاته إلى الشمال الأفريقي، وهي رحلة قام بها ماتيس في شتاء عام 1912، وعاد منها فناناً آخر تماماً، عاد فناناً يمعن في تعامله مع الضوء واللون، إلى درجة أنه أثار اهتمام الشكليين فاعتبروه واحداً منهم.

والحقيقة أن استلهام ماتيس لنور الشمال الأفريقي، ناهيك باستلهامه مواضيعه من هناك، أضفى على الفن المعاصر لتلك المرحلة حيوية كبرى. وهي حيوية يمكن اعتبارها متضافرة مع تلك التي نجمت عن استلهام فان غوغ الفنون اليابانية قبل ذلك بأكثر من عقدين، ثم لاحقاً مع استلهام بابلو بيكاسو، الفنون الأفريقية السوداء وبعض الفنون والتكوينات المشرقية التي أتته من تاريخ إسبانيا الإسلامي نفسه.

شهادة على عبقرية اللون والنور

إذاً، مع ذلك الغوص في “الشرق” من طريق المغرب – والجزائر إلى حد ما – كان لا بد لفن ماتيس أن يتجدد حتى من دون أن يكون الإبداع في التكوين جديداً عليه، إذ منذ بداياته كان ماتيس فنان تلوين في الدرجة الأولى. ولعل هذا ما حدا بأبولينير نفسه إلى أن يكتب عن ماتيس عام 1918 هذه المرة، إن “كل لوحة وكل رسم لهنري ماتيس يمتلك فضيلة ليس من السهل، دائماً، تعريفها، لكنها في الوقت نفسه قوة حقيقية (…). والحال أننا إذا ما رأينا أن لنا أن نقارن فن ماتيس بشيء ما، فإن علينا أن نختار البرتقالة، ذلك أن عمل هنري ماتيس هو، كالبرتقالة، ثمرة النور الفاقع”. ويضيف أبولينير هنا “أن ماتيس لم يتوقف أبداً عن اتباع غريزته، تاركاً لهذه الغريزة مهمة الاختيار بين الشاعر، وحرية سبر أغوار الضوء. لا شيء سوى الضوء”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

“وإذا كان هذا التوصيف ينطبق على الجزء الأكبر من لوحات ماتيس، ولا سيما على لوحات تلك المرحلة، فإنه وبصورة خاصة ينطبق ليس فقط على اللوحات التي رسمها في المغرب وعاد بها، بل كذلك على عديد من اللوحات التي واصل رسمها طوال سنوات تالية من حياته، بحيث بدت، هي الأخرى، وكأنها رسمت في المغرب، وتحت وطأة شمسها دائمة السطوع. ومن هذه اللوحات مثلاً “الطاولة السوداء” التي حققها ماتيس عام 1919، ليس في طنجة، بل في إيسي – لي – مولينو، في الضاحية الباريسية. ومن الواضح أن هذه اللوحة تبدو منتمية حتى إلى عالم آخر غير ذاك الذي تنتمي إليه لوحات أخرى لماتيس معاصرة لها، أي رسمت في السنة نفسها تقريباً، مثل “درس الرسم”.

 

ولعل أفضل ما يفسر لنا الأجواء الفكرية التي كان يعيشها ماتيس في زمن رسم “الطاولة السوداء” هو النص الذي كتبه عن مزاجه الفكري والفني في تلك الحقبة بالذات، إذ يقول “لقد كنت أعمل مثل انطباعي، وأرسم مباشرة انطلاقاً من الطبيعة، ثم فجأة أردت على سبيل تركيز عملي، أن أشتغل على تعبير كثيف ينطلق من الخط واللون في المقام الأول. وخلال عملي ذاك كان من الطبيعي لقيم أخرى أن تضيع على مذبح ذلك التركيز ومنها صلابة المادة وتماسكها، والعمق المكاني وثراء التفاصيل. أما ما أردت أن أفعله، الآن من جديد، فكان إعادة جمع هذه العناصر كلها في بوتقة واحدة”. ويقيناً، إن ماتيس كان يشتغل بجدية على مسعاه هذا، حين رسم “الطاولة السوداء”.

الاستشراق وزينة المرأة

في هذه اللوحة لن يفوتنا أن نلاحظ الحجم الجيد الذي تتخذه في هذه اللوحة، أنطوانيت، الموديل التي كانت تعمل مع ماتيس في ذلك الحين… فهي جالسة هنا محاطة بكثير من التفاصيل الفنية، التي يبرز في مقدمها، جداران مغطيان بألوان متجاورة تضفي على المكان زحاماً مدهشاً، وبخاصة من خلال التناقض بين الحدود اللونية والشكلية لأحد الجدارين، والانفتاح الزاهي للجدار الآخر، فيما نلاحظ كيف أن الأرضية لا تعدو كونها خطوط زاوية. أما على الطاولة السوداء فلدينا باقة زهور ضخمة يكاد حجمها يوازي حجم النصف الأعلى من الموديل، وتشكل ألوانها توازياً مع ألوان ثياب هذه الموديل، بيد أن التناقض الأكبر هنا – وهو التناقض الذي يعطي اللوحة جزءاً أساساً من حيويتها، ويضفي عليها ذلك البعد المغربي المرتبط بمسألة الضوء وقوة تأثيره – هو هذا التناقض القائم بين سواد لون الطاولة، والبياض الطاغي على لون ثياب الموديل… وهو التناقض نفسه الذي قد يكون في إمكاننا القول إنه يشكل صدى للتناقض اللوني بين جداري خلفية اللوحة.

ومن الواضح هنا أن هذه اللوحة يمكن ربطها، مثلاً، بلوحة أخرى لماتيس سيحققها بعد ذلك بخمس سنوات، وستعد من أبرز وأجمل لوحاته “الاستشراقية” وهي “المحظية ذات السروال الأحمر”، وكذلك بلوحة أخرى حققها عام 1925 بعنوان “أشكال تزيينية على خلفية موشاة”. في كل هذه اللوحات، ثمة وجود مركزي لامرأة، هي غالباً الموديل نفسها، لكن من الواضح أن هذا الوجود إنما هو تزييني في المقام الأول، إذ إن المرأة، بثيابها أو بعريها، إنما هي موجودة هنا كجزء من الديكور الإجمالي، كزينة تجميلية لا أكثر.

 

وهنري ماتيس لم ينفِ هذا أبداً، بل إنه ذهب بعيداً في الحديث وتأكيده، إذ كتب لاحقاً “إن مهمة الفن لم تعد في رسم الأحداث التاريخية. فالأحداث التاريخية هذه يمكننا أن نقرأ عنها في الكتب بقدر ما نشاء… أما الفنان فإن علينا أن نتوقع منه ما هو أكثر من هذا بكثير: علينا أن نتوقع منه أن يعبر عن رؤاه الداخلية”، مضيفاً “أن مسعاي الأساس يقوم في الوصول إلى فن توازن ونقاء، فن لا يهتم بأن يربك المشاهدين، ولا بأن يقلقهم، ما أريده هو أن يتمكن الناس القلقون والمحطمون والمرتبكون من أن يعثروا على السلام والطمأنينة فيما هم ينظرون إلى لوحاتي”.

خصوصية مذهلة وتنوع إبداعي

ومن الواضح أن ماتيس كان له ما أراد، إذ إنه على عكس معظم الفنانين المجايلين له، حقق في الواقع عملاً فنياً، مريحاً مدهشاً وبسيطاً، بخاصة أن هذا الفنان عرف دائماً كيف يتحرر ويحرر فنه من “طغيان” الواقعية التي لم يكن يرى فيها سوى “محاكاة للمظاهر”… مشتغلاً كما يحلو له وبحرية مطلقة على ما اختاره من مادة تتكون من العالم كله وتكونه، وقد حرص دائماً على أن يكون رائده الأول الوصول إلى تناسق مطلق، تناسق كان يرى أنه الرمز الحي لسمات الوجود الإنساني.

وهنري ماتيس (1869 – 1954) الذي عاش طويلاً، ورسم خلال ما لا يقل عن ثلاثة أرباع القرن، عاصر، فاعلاً أو شاهداً، معظم تيارات الفن الحديث، من ولادة بعضها إلى موت هذا البعض، لكنه عرف دائماً كيف يحتفظ بخصوصيته المدهشة التي خلقت في أعماله حيوية ووحدة وتجانساً، سواء كانت هذه الأعمال، تشكيلية ذات موضوع – كما في أعماله الأولى – أو شكلية صرفة كما في أعماله الأخيرة. وهو في الأحوال جميعها، كان من كبار الملونين، سائراً في هذا على خطى فان غوغ وسيزان وغوغان، الذين عرف كيف يدرس أعمالهم ويحللها بصورة جيدة، قبل أن تتولى رحلاته الروسية والإسبانية والمغربية، ضخ عمله بآفاق جديدة لم تكن متوقعة.

نقلاً عن : اندبندنت عربية