من تخيل يتكئ على سيرة ذاتية ووقائع وأحداث حقيقية، تنطلق الكاتبة المصرية مريم حسين في نسج روايتها “السيرة قبل الأخيرة للبيوت” (دار المرايا)، وبينما تنتهج سرداً ذاتياً تمنح بطلتها “ميمي” صوت السرد وتعمد إلى منحها أيضاً كثيراً من تاريخها الشخصي، فهي مثلها ابنة كاتب كان يعمل في المحاماة ودفعه انحيازه للفقراء إلى العيش والعمل في أفقر الأحياء الشعبية المصرية، وبهذا حصد نصيبه من بؤس تحول في ما بعد إلى لعنة طاردت البطلة وحاصرتها بالفقد وابتلعت أباها وبيتها وحبيبها.
يحيل عنوان الرواية إلى بروز دور المكان في الرحلة السردية التي استغرقت ما يربو على 330 صفحة، تنقلت البطلة خلالها بين أربعة بيوت ينتمي أحدها إلى محافظة الفيوم والبقية إلى أحياء شعبية في محافظة الجيزة جنوب القاهرة، وتتشارك الأماكن والبيوت علاقات مركبة مع البطلة ومتناقضة فتحتويها وتلفظها في الوقت نفسه، وتمنحها الألفة والسعادة وتغمرها بالاغتراب والشقاء، وتحثها على المغادرة وتعاقبها حين تتخذ قرارها بالرحيل، فالبطلة تحمل التناقض نفسه إزاء تلك البيوت فتتعلق بها وتنفر منها وتتمسك بها وتتخلى عنها.
التجول الحر
في نسق من التجول الحر مضت الكاتبة تراوح بين أفقية التدفق وبين التذكر والاسترجاع في سرد حافظت على انسيابيته، وعلى رغم عدم تتابع الأحداث تصل رسالة إلى البطلة من أحد البيوت التي رحلت عنها لتنبئها بحوادث عنف وقتل ودماء، وتصبح وسيلة العبور الأولى إلى الماضي ودافعاً لاستعادة تاريخها في بيوت سكنتها عبر كل مراحل عمرها.
وعلى رغم صدمة القارئ بحادثة القتل في بداية السرد فإن البطلة لم تتلق الحادثة إلا بعدم اكتراث يشي باعتيادها مثل تلك الحوادث، ويخبر أيضاً عن اقتران العنف والجريمة بالفقر والجهل في واقع بائس تعيشه واحدة من شرائح المجتمع المصري في أحيائه الشعبية.
كان عيش الشخصية المحورية واندماجها في تلك الأحياء على رغم انتمائها الثقافي والاجتماعي للطبقة المتوسطة أول صور التناقض التي ألقت بظلالها على طبيعتها السيكولوجية، فهي وإن كانت تنبذ العنف ولا تمارسه فلا تتلقاه إلا باعتيادية وسخرية، وكان هذا التناقض بمثابة مقدمة وتمهيد لتناقضات أخرى أشد ارباكاً، بعضها يتصل بالحي الشعبي الذي يحمل تلاصق البيوت فيه وتقاربها الشديد مع كل الأمان وكل الخطر، في حين يتصل بعضها الآخر بهذه الشريحة المجتمعية التي تقطنه ولا يزال يُطلق عليها شعبية، على رغم كل ما طرأ عليها من تحولات، فالمنتمون إليها يمارسون العنف باعتياد ويتكافلون بالاعتياد نفسه يتشاجرون ويتصارعون، وفي اللحظة ذاتها يهبون لنجدة خصومهم ويكيدون لبعضهم بعضاً ويسارعون بالمؤازرة وإبداء التعاطف الصادق، “سحبت نفس هواء حاد استعداداً لشهقة مبحوحة تعقبها وصلة ردح، لكني لم أتمكن من زفر نفسي جف حلقي بشدة، احمرّ وجهي وسالت من عيني دموع فزعت سعاد وخبطت على صدرها: يا لهوي يا لهوي. جرت عليّ هدى تسندني” (ص:185).
سيل من التحولات
وتحيل الطبيعة التي رصدتها الكاتبة للطبقة الشعبية ضمناً إلى تحول كبير لحق بهذه الشريحة، بدا بخروج كثيرين على القانون عبر ممارسة البلطجة وتجارة المخدرات، وتبعه تغير ملامح الصورة القديمة للفتوة الذي كان يساند المظلومين، كما تناوله نجيب محفوظ في كثير من أعماله، وتحوله إلى بلطجي يرهب الآمنين ويروعهم.
وبدا التحول أيضاً في شكل العلاقات الاجتماعية داخل هذه الأحياء التي وإن حافظت على سمة التقارب الشديد والألفة فقد شابها في الوقت نفسه الحقد والعنف والكراهية على نحوٍ مربك، وبدا في علاقة أم البطلة “سوسن” بأبيها إذ اتسعت الفجوة بينهما مع طول فترة بقائهما في منزل في حي الشوربجي في الجيزة، ولم تكتف حسين برصد التحولات التي طرأت على المكان والعلاقات الاجتماعية وإنما عمدت إلى بلوغ الطبقات العميقة من النفس الإنسانية، وجسدت تحولاتها الشعورية فرصدت تحول غضب البطلة من الواقع إلى خوف من المستقبل، وتحول حب الأم لزوجها إلى ندم وجفاء، “كثيراً ما رددت أن أباها كان لا بد من أن يخشى عليها ويحبسها ويمنع ذلك الزواج بأية طريقة، وإنها كانت بلهاء عندما قالت له إن مكتبة حبيبها هي مهرها” (ص:75)
وعبر هذا السيل من التحولات تنقل الكاتبة صورة قريبة لواقع المجتمع في مصر على مدى بضعة عقود، ولا سيما وأنها رصدت تحولات الذوق العام الذي بدا في طبيعة الأغنيات الرائجة وتحولات الثقافة والزي الذي تغير خلال عقد التسعينيات بشيوع وانتشار الحجاب وظهور النقاب، وكذلك تحولات المكان بعد ثورة الـ 25 من يناير (كانون الثاني) 2011 والتي كان لمدينة الفيوم نصيب كبير منها، فهي فقدت المساحات الطبيعية التي كانت تُمارس فيها هواية الصيد وحلت محلها “عمائر وبيوت ومحال وتكاتك وميكروباصات”، وفي مواضع أخرى من السرد بدا التحول قضية رئيسة فكان سكن عائلة الأستاذ في الحي الشعبي سبيلاً لإضاءة معاناة الطبقة المتوسطة في المجتمع المصري، والظروف الاقتصادية الضاغطة التي دفعت بهذه الطبقة للسقوط نحو الأسفل والتحول إلى مستوى معيشة أدنى.
أمراض الواقع
ومع اتساع الفضاء الزمني للأحداث الذي امتد منذ العقود الأخيرة في القرن الماضي وحتى اللحظة الراهنة، تعددت قضايا السرد وتنوعت وكان أبرزها الفقر وأثره في توحش معاناة الهامش والتفاوت الطبقي وتآكل الأرض الزراعية والمساحات الخضراء، وتزايد العنف والجريمة السلطة الأبوية وقتل النساء الواقع المزري للقطاع الصحي، واستفحال الفساد والإهمال تزوير الانتخابات والإرادة الشعبية وشيوع القيم الاستهلاكية، إضافة إلى هذا الاشتباك المباشر مع كثير من القضايا الاجتماعية الشائكة، لجأت الكاتبة إلى الرمز في طرح قضايا أخرى، فكان البيت معادلاً للوطن، ولم تكن علاقة البطلة المرتبكة بجدرانه سوى انعكاس لهوية متشظية بفعل مشاعر متضاربة يختلط فيها الحب بالغضب والانتماء بالاغتراب.
أما الدهشة وطريقة استقبال الشخوص لقدرة “جمال” على إعادة تدوير الأشياء التالفة، فكانت لها أيضاً دلالات رمزية تحيل إلى أمنيات وآمال المهمشين في إعادة تدوير واقعهم البائس وخلق واقعٍ آخر لا دموع فيه ولا جروح ولا فقدان، وكذلك عمدت حسين إلى استخدام المفارقات اللفظية والسياقية لتمرير رؤاها حول قسوة الواقع المعيش، فبينما تعيش كلاب الأثرياء في فيلات وقصور، وبينما تتكاثر العمائر الخالية في الأحياء الراقية لا تجد بطلتها “خُرْم إبرة” يحتويها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عبر حضوره الكثيف، أتاح الوصف للكاتبة نقل ملامح وتفاصيل المكان مما سمح بإبطاء السرد وإكسابه سمة المشهدية، كما كان أداتها لتجسيد معاناة الشخوص وما تعيشه من بؤس وعوز، كما جسدت عبره أيضاً المشاعر والانفعالات وكل ما يحدث بعيداً في أغوار النفس ولا يخضع لقوانين الإدراك ولا يقع في حيز الرؤية، فجسدت عبره الألم والعجز والهشاشة وهيبة الموت ووقع الوداع: “سوف نسير به من هنا إلى المدافن مدافن! لم السير بسرعة هكذا؟ رفقاً فقد ارتطم أكثر من مرة بالخشب، لم لا آخذ بعض عيدان البوص وأضرب بها الجميع ليتفرقوا وأحملك وحدي” (ص:102).
وأتاح وصف ما يعتمل في العوالم الداخلية للشخصية المحورية إبراز الفقد كثيمة كبرى وعنوان لكل مراحل حياتها، وبينما أتاح الوصف تجسيد ما لا تدركه العين، كان الحلم والمونولوغ الداخلي وسيلتين لاستجلائه فأحال حلم “ميمي” طفلة بيد الذئب تشاركها طعامها وتقتحم البيت متجاوزة أقفاله إلى شعور باللا انتماء إلى بيت الجدة، لذا لم تستطع حمايتها من الذئب، وكان هذا الحلم تمهيداً لمعارضة زوجة العم الأصغر المبطنة ومخاوفها من احتمال لجوء البطلة وأمها إلى منزل الجدة ومشاركتهما لها فيه، أما حلم البطلة بصديقة طفولتها “إيمان” مصدومة وغارقة في دمائها، فكان تنفيساً لكبتها الشعوري المتخم بلوم الذات والإحساس بالذنب تجاه أبيها، وكذا تمهيداً لمصيره بعد تسعة أيام في العناية المركزة.
وجوه الصراع
فرضت طبيعة الفضاء المكاني للأحداث وشكل العلاقات الاجتماعية التي احتواها بروز الصراع بكل أشكاله ومستوياته على مدار السرد، فبينما احتدم بين قاطني الحي الشعبي كطقس اعتيادي من طقوسهم اشتعل بين الأم “سوسن” وزوجها أملاً في دفعه لتحسين وضعهم المادي بهدف التمكن من الفرار من الحي، وكذلك بين البطلة والأشباح التي ظلت تلاحقها من بيت إلى آخر، كما اندلع صراع صامت بينها وبين أبيها كان باعثه تعلقها الشديد به وإنكارها لفكرة فقدانه، وكذلك اندلع في العوالم الداخلية للشخوص كنتيجة لتناقضاتها التي راوحت بين تعلق ونفور ولوم وتعاطف ولا مبالاة واكتراث.
وكما أسهم الصراع في دفع وتحريك الأحداث فقد كان أداة أخرى لإضاءة القضايا الرئيسة في النص، “انتظر أيام الإجازات بفارغ الصبر لأقضي يومي مع صالح، ظل أسير إحساس بالذنب لامتلاكه نقوداً وكان يشعر أنه مقسوم نصفين، نصف يحزن للفقراء ونصف نهم لمتع توفرها النقود” (ص:179).
اللغة أيضاً كانت أداة ناجعة وظفتها الكاتبة لتجسيد الواقع الشعبي، فعمدت عبر مساحات الحوار إلى استدعاء لهجة عامية تلائم مقتضى الحال، ولجأت أحياناً إلى فحش لفظي صريح ومبطن، متجاوزة منطق جمالية اللغة ومؤثرة فيه واقعيتها، وهو ما قد يتعارض مع ماهية الأدب، وعلى رغم تناثر بعض الأخطاء اللغوية حرصت على سلاسة لغة السرد، وعززت جماليتها عبر التناص مع الموروث الديني من القرآن والإنجيل.
نقلاً عن : اندبندنت عربية