لا يُعدّ تبَر كتاب “عبّاسيّون وبيزنطيّون / رجال ونساء”، للأكاديمية والمؤرّخة ناديا ماريا الشيخ، الصادر حديثاً عن “الدار العربية للعلوم ناشرون”، في بيروت، بتعريب نجيب جورج عوض، الأول في موضوعه، في نتاج صاحبة العلاقة التاريخي؛ فقد سبق لها أن أرّخت للعباسيين، من زاوية موقع النساء في المجتمع العباسي، في كتابها “النساء والإسلام والهوية العباسية”.

وأرّخت للبيزنطيين، من زاوية نظرة العرب إليهم، في كتاب “بيزنطة كما رآها العرب”، على أنّ ما يميّز الكتاب الحالي عن سابقيه هو أنّها تجمع فيه بين العرب العباسيين والبيزنطيين، وتعقد مقارنات بين الشعبين، تفضي في نهاية المطاف، إلى أنّ العلاقة بينهما لم تكن تقتصر على العداء المتبادل بل تتعداه إلى نوع من التفاعل الحضاري، سواء في مظاهر الحكم أو موقع النساء في المجتمعين أو نظرة أحدهما إلى الآخر.

 مادة الكتاب هي، في الأصل، دراسات بالإنجليزية، نشرتها الباحثة في عدد من الدوريات العلمية المحكمة في الغرب، خلال الأعوام الأخيرة، ولعل هذا ما يفسّر تعدّد حقول اهتمامها، وتراوحها بين التأريخ للمؤسسة والناس والدولة، وتتناول العصر العباسي المبكر والتاريخ البيزنطي المعاصر له، وتركز على السياقات السياسية والاجتماعية والثقافية للشعبين، في تلك الحقبة التاريخية وتستند على أمهات النصوص الإسلامية والبيزنطية القديمة، من جهة، وعلى نصوص أكاديمية معاصرة من جهة ثانية، وتتوزع على ثلاثة أقسام؛ يتعلق الأول منها بتاريخ البلاط، والثاني بتاريخ النساء، والثالث بالتاريخ البيزنطي. وهكذا، تجمع الشيخ في كتاب واحد بين شعبين مختلفين، من جهة، وثلاثة أنواع من التاريخ، من جهة أخرى، على أن عدد الفصول يختلف من قسم إلى آخر.

 تاريخ البلاط

 تتناول المؤرخة في القسم الأول حياة الأمراء في البلاط العباسي ومراسم الاحتفال فيه، وتقارن بينه وبين البلاط البيزنطي؛ فترصد حياة البلاط من خلال رصدها حياة الأمير أبي العباس ابن الخليفة المقتدر، بدءاً بولادته للمحظية ظُلُم عام 296 ه / 908 م، وانتهاء بوفاته صريع المرض عام 329 ه / 940 م، مروراً بالأساتذة الذين درس عليهم، والامتيازات التي حظي بها، والأدوار التي أُسنِدت إليه، والصفات التي تميّز بها، ويتبين من الرصد أن مجلس الأمير كان مجلساً للشعر والأدب والشراب والأنس واللهو، وأن المؤرخة تقدّم من خلاله تصوّراً عاماً عن دور الأمراء العباسيين، في القرن الرابع الهجري، وهو دور يختلط فيه السياسي والإداري والعسكري والاجتماعي والثقافي، ويشكّل جزءاً لا يتجزّأ من حياة البلاط القائمة على المراسم الرسمية التي تبرز عظمة الخلافة وقوّتها؛ ذلك أن ضخامة المجمّع الذي يشغله البلاط، وإيصاد أبوابه دون العامّة، واقتصاره على الحاشية والخاصّة، وعدم اختلاط الخليفة بالناس، والفضاء الشعائري العام، من لوازم تعزيز هيبة الخلافة والسلطة، وإن كانت توسّع الهوّة بين الخليفة والرعية.

 على أن هذه المراسم اكتسبها العباسيون تدريجياً من البيزنطيين وغيرهم، وقد تزامن اكتسابها التدريجي مع تأسيس بغداد وسامرّاء وحاجة العاصمتين إلى مظاهر السلطة والأبّهة الملازمة للملك. وتمظهرت في القصور الفخمة والأزياء والخُدُر والشعائر وغيرها، وكثيراً ما كان الإفراط في استخدام المراسم يهدف إلى التعويض عن فقدان السلطة في حالة الحاكم الضعيف، واستعراض مظاهر القوّة في حالة الحاكم القوي.

وهكذا، تكون مأسسة البلاط العباسي قد جرت في القرن الرابع الهجري، وإذا كانت هذه المأسسة قد تمّت بفعل التأثر بالتجربة البيزنطية، فإن المؤرخة تقارن بين التجربتين، وتتوقّف عند المشتركات والفروقات بينهما، وتخلص بنتيجة المقارنة إلى تقدّم التجربة البيزنطية على العباسية في التحديد والتنظيم، ولعل السبب في هذا التقدم يعود إلى عراقة الأولى وقِدَمها في أدبيات الحكم وأدواته، وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى خطأ يقع فيه المترجم حين يترجم كلمة (Ceremonies) بكلمة “مراسيم” بدلاً من كلمة “مراسم”، وهي الكلمة الصحيحة في هذا السياق، لا سيّما وأن المراسيم هي نصوص قانونية تصدرها السلطات الحاكمة، وليست شعائر احتفالية، ممّا يتم التعبير عنه بكلمة “مراسم”.

 تاريخ النساء

 في القسم الثاني من الكتاب، تتناول الشيخ تاريخ النساء في العصر العباسي، من خلال نصوص المحسّن بن علي التنوخي (384 ه / 994 م)، الواردة في كتابيه: “نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة” و”الفرج بعد الشدّة”. وهي نصوص واقعية تشتمل على معطيات تاريخية، يُستفاد منها: قوّة العلاقة بين الأمهات والأبناء، استنكار زواج الأم، استشراء النزاعات الزوجية، أهمّية الزواج ومحوريته، تعليم الجواري لأسباب تجارية، تعليم الحرائر لأسباب جندرية، وانخراط النساء في الأنشطة الاقتصادية، على أنواعها.

وتتناول موضوع الزواج ومواصفات الشريك المثالي، من خلال نصوص “عيون الأخبار” لابن قتيبة (276 ه / 889 م)، و”العِقد الفريد” لابن عبد ربّه (328 ه / 940 م)، وهي نصوص أدبية تتعامل مع الأفكار أكثر مما تنبثق من الواقع. وترسم صورة المرأة المثالية في ضوء معايير ذكورية غالباً، وصورة الرجل المثالي في ضوء معايير أخرى، بعضها نسائي. وفي الصورتين، تنسجم مع معايير الجمال العربي القديم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 على أن الصورة المثالية التي ترسمها النصوص المدروسة للمرأة هي صورة فكرية وليست واقعية. ذلك أنها لم تكن تعيش في مجتمع مثالي يحفظ حقوقها ويصون كرامتها، وكثيراً ما تكون عرضة للعنف، على أنواعه، في مجتمع واقعي خاضع للرواسب التاريخية والأفكار الجاهزة والمؤثرات الدينية. وعليه، تبحث المؤرّخة، استناداً إلى النصوص الدينية والأدبية، في إشارات العنف الجسدي الواقع على المرأة، في المجالين الخاص والعام، وتشير إلى نوادر النزاعات والأذى الناجم عنها، وديناميات العنف المنزلي والعام، وتنوّع الأسباب الدافعة إلى ارتكابه.

 تاريخ بيزنطة

 إذا كان القسمان الأول والثاني من الكتاب يتمحوران حول التاريخ العباسي، فإن القسم الثالث والأخير منه يتمحور حول التاريخ البيزنطي، فتتناول دخول قسطنطين الكبير في المسيحية، وتاريخ بعض القادة البيزنطيين، وتاريخ الإمبراطورية البيزنطية، من منظور ابن خلدون. وهي تفعل ذلك، بالاستناد إلى مصادر عربية إسلامية، من قبيل: صاعد الأندلسي (426 ه / 1070 م)، واليعقوبي (382 ه / 897 م)، والمسعودي (345 ه / 959 م)، والقاضي عبدالجبار الهمذاني (415 ه / 1025 م)، والقزويني (682 ه / 1285 م)، وابن خلدون (808 ه / 1406 م)، وغيرهم. وبالاستناد إلى مصادر عربية مسيحية تستند بدورها إلى مصادر تاريخية، من قبيل: محبوب بن قسطنطين المنبجي، وسعيد بن البطريق، وأثناسيوس المصري. ويُستفاد من هذا القسم أن حدث دخول قسطنطين المسيحية، أياً كانت أسبابه، شكّل نقطة تحوّل في تاريخ الأفكار وأحد صنّاع التاريخ، كما تنقل عن ابن خلدون. وأن النظرة العربية إلى القادة البيزنطيين كانت سلبية، جدالية، سجالية، إلى حدٍّ بعيد. فهم، بغرورهم وظلمهم وجشعهم، يشكّلون النقيض للنخبة العربية التي تتوخّى العدل والتواضع والمساواة. وأن ابن خلدون شكّل رأيه الخاص بالإمبراطورية البيزنطية، في ضوء معطيات عصره، متأثّراً بآراء المؤرخين المسيحيين ورؤاهم، ملاحظاً تزامن التفوّق الاقتصادي والعسكري والفكري الأوروبي مع الانحدار الذي تعرّضت له الإمبراطورية البيزنطية.

 كثيرة هي النصوص التي تنطلق منها الشيخ في دراساتها، سواء الجزئية أو الكلية، فهي تحيلنا، في سياق الدراسة، إلى عدد كبير من النصوص القديمة، وعدد أقل من النصوص الأكاديمية المعاصرة، مما يعكس حجم الجهد البحثي المبذول من قبلها. غير أن ما ينتقص من قيمة النصوص المدروسة هو كونها نصوصاً أدبية، ما يطرح موثوقيتها كمصادر للتاريخ، على بساط البحث. وهو ما لا تغفل عنه المؤرّخة، وتشير إليه في معظم الدراسات، في إطار التحوّط المنهجي، فهي لا تتّخذ منها “نوافذ تطلّ على الماضي الفعلي”، بل تستثمرها بالعودة إلى “الاستراتيجيات المتعلّقة بتأليف النصوص وتمثّلاتها النصية” (ص 208). ومع هذا، نحن إزاء أثر تاريخي منهجي، يحفل بكثير من المعلومات، ويستخلص الكثير من الدروس، ويصيب بحجر واحد عصفوري المتعة والفائدة.

نقلاً عن : اندبندنت عربية