كأن لبعض المعادن قدرات وسحراً يجعلانها صالحة في كل زمان ومكان ولاستخدامات شتى كما هي حال معدن الفضة. ولم يجعل توافر الفضة ورخص سعره أهمية أقل من الذهب ذلك المعدن الذي لا يزال محبباً على قلوب البشر كما كان منذ قديم الزمان بسبب ندرته وميزاته الكثيرة وقدراته السحرية. إلا أن الفضة أيضاً عبر المراحل التاريخية حتى اليوم ظل محافظاً على ضرورته وقدراته الإيمانية أيضاً، وكذلك استخدامه في العصر التقني الحديث في صناعات إلكترونية ذات أهمية كبيرة في تحقيق العالم التقني الذي نعيش فيه.

لا يزال معدن الفضة يأسر ألباب مصممي المجوهرات والأزياء كما جميع المهندسين والتقنيين والمعماريين ومهندسي الديكورات، والأطباء وعلماء صناعة الأدوات الطبية والمساحيق التجميلية ومصانع الآليات حول العالم والحرفيين على أنواعهم، وكذلك محبو إبراز معدن الفضة في أزيائهم. على سبيل المثال، لا يضع الرجال المسلمون مجوهرات من الذهب كالخواتم والأساور والسلاسل الذهبية وفقاً لاجتهاد ديني عام متفق عليه، ويمكن تلخيص هذا الاجتهاد بأن الذهب للنساء والفضة للرجال. وهذا ما جعل من الفضة معدناً رئيساً في تصميم وصناعة المجوهرات الرجالية حول العالم وأعاد له لمعاناً وبريقاً كان قد فُقد في القرون السابقة.

الفضة في صناعات العالم الحديث

جاء في أحد البحوث الجديدة أن الفضة مفضلة اليوم بسبب توصيلها الاستثنائي للكهرباء ونقل البيانات والمعلومات بسرعة عالية، وقدرتها على تحمل الحرارة العالية مما يتيح نقلاً سهلاً للإشارات والطاقة في الأجهزة الإلكترونية، وهي مقاومة للأكسدة والتآكل مما جعلها موضع ثقة مصانع الإلكترونيات على أنواعها.

وبات لا غنى عن الفضة في المركبات الكهربائية وألواح الطاقة الشمسية، ويستخدم معياراً يتم من خلاله قياس الموصلات الكهربية الأخرى، وعلى مقياس من 0 إلى 100، تحتل الفضة المرتبة 100 من حيث الموصلية الكهربائية، في حين أن النحاس يحتل المرتبة 97 والذهب المرتبة 76.

 

 

يستخدم ما يقارب 50 في المئة من المعروض السنوي من الفضة في الأعمال الصناعية، مما جعل الاستغناء عن هذا المعدن شبه مستحيل في مجتمع الصناعات الحديثة، إذ يتم تصنيع شاشات التلفزيون والهواتف وأفران الميكروويف وألعاب الأطفال وحتى المفاتيح الموجودة أسفل أطراف أصابع الكمبيوتر. ومنذ عام 2023، يوجد أكثر من 15 مليار جهاز متصل بالإنترنت في جميع أنحاء العالم ومن المتوقع أن يتضاعف هذا الرقم بحلول عام 2030 مما رفع الطلب على الفضة في هذه القطاعات، وأعاد إليه بريقه.

الفضة والطب والشفاء

دخل الفضة عنصراً رئيساً في صناعة الآلات الطبية والأعضاء الداخلية البشرية الصناعية، وجعلت خصائصه المضادة للميكروبات والأكسدة منه ذا أهمية كبيرة في مجالات العناية بالجروح والعلاجات المضادة للميكروبات وضمادات الجروح الداخلية، وأظهرت التجارب أن أيونات الفضة المنبعثة تبث نشاطاً قوياً مضاداً للميكروبات. وقد يكون هذا الاكتشاف العلمي غير القديم متوائماً مع اعتقادات مجتمعات إنسانية مختلفة عرفت ما للفضة من قدرات صنفتها بسبب علومها البدائية على أنها سحر أو قدرات خارقة. واليوم بات الفضة كالفولاذ المنضب يدخل في صناعة الآلات الطبية التي تستخدم في إجراء العمليات الجراحية مثل عمليات القسطرة والغرسات.

وأظهرت جزيئات النانو الفضية نتائج مهمة في مكافحة البكتيريا المقاومة للأدوية ومنع انتشار العدوى، يجري تطويرها لاستخدامها العام حالياً، وبدأ دمج هذه الجزيئات النانوية في عدد من المنتجات الطبية، مثل الكريمات الموضعية والطلاءات والمطهرات، لتعزيز فعاليتها المضادة للميكروبات.

ويستخدم معدن الفضة في تصنيع الأقطاب الكهربائية لتخطيط كهربية القلب (ECG) وتخطيط كهربية الدماغ (EEG) وغيرها من آلات التشخيص. وكما في قديم الزمان عاد طب الأسنان إلى استخدام الفضة في حشوات الأضراس وزراعة أسنان الترميم طويلة الأمد والموثوقة.

الفضة والمجوهرات

ارتفع استخدام معدن الفضة في آلات التصوير الفوتوغرافي واستعاد بريقه في عالم المجوهرات والمفاتيح الإلكترونية للسيارات والآليات وصولاً إلى مقبض حقيبة نسائية في إحدى واجهات شارع الشانزليزيه الباريسي. وتألق ظهور الفضة في السبحات الرجالية التي يضاف إليها الأحجار الكريمة المفضلة لدى الأثرياء والمؤمنين من مختلف الأديان بسبب الاعتقاد الشائع بالسحر الناتج من اجتماع الفضة بهذه الأحجار.

وهناك الفضة التي تحيط الأحجار الكريمة في خواتم الرجال في سائر العالم الإسلامي، وخصوصاً في إيران إذ تحظى بعض خواتم الفضة التي تحيط أحجاراً كريمة احتراماً كبيراً لدى الرجال الإيرانيين ومنهم رجال الدين، وبعضها يصل إلى حد التقديس إذا ما أهداها رجل دين كبير أو المرشد الأعلى إلى شخص يختاره ويقدم له الاحترام. ويقال إن خاتم الفضة الذي يحتوي حجراً من العقيق السلطاني الذي كان يرتديه قائد الحرس الثوري الراحل قاسم سليماني طلبت ابنته أن يدفن إلى جانب وزير الخارجة الراحل أمير عبداللهيان، وتم تحقيق ما أرادت.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يعكس لمعان الضوء على السطح المصقول لسبيكة الفضة الاهتمام الذي يحيطه به عالم الموضة والأزياء والمجوهرات، فسواء كان قلادة فضية بسيطة أو سواراً مصمماً بشكل معقد أو زوجاً من الأقراط الأنيقة، فإن المجوهرات الفضية تعزز أسلوب من يرتديها بسهولة. ومن المعروف أن الفضة معدن طري نسبياً مما يسمح للحرفيين بنحته في تصميمات معقدة ودقيقة.

ويستخدم غالباً في صناعة المجوهرات الفضة الاسترلينية التي تتكون من 92.5 في المئة من الفضة النقية، أما باقي النسبة فتتكون من معادن أخرى مثل النحاس لتوفير الاستقرار والمتانة دون المساس بجاذبيتها الجمالية.

ويمتلك معدن الفضة أعلى قدرة على انعكاس الضوء من أي معدن آخر، مما يجعله ذا قيمة كبيرة في صناعة المرايا وبعض الأجهزة البصرية والتلسكوبات والمجاهر والألواح الشمسية.

الفضة في الاقتصاد المقبل

تشير استخدامات الفضة في العصر الحديث إلى الأهمية الواضحة لهذا المعدن في عصرنا الحالي. وربما يمكن القول، إن التنافس مع الذهب الذي يجري في صالات البورصة العالمية لا يؤثر كثيراً في أهمية الفضة الواضحة.

فريق موقع “Gold Silver” الإلكتروني الذي يبيع الفضة والذهب عبر الإنترنت، وينشر أبحاثاً حول هذين المعدنين عرض الأسباب التي تؤثر في ارتفاع أو انخفاض أسعار الفضة في البورصة والأسواق، مع العلم أنه في أكثر من 14 لغة تعد كلمة “فضة” هي المرادف لكلمة “مال”، والسبب أن الفضة استخدمت عملة لآلاف السنين في معظم المجتمعات.

وتبين لعلماء الأركيولوجيا والآثار أن الفضة واحد من أول خمسة معادن تم اكتشافها على الإطلاق، وعثر على قطع أثرية فضية يعود تاريخها إلى 4 آلاف عاماً قبل الميلاد، وفي مصر القديمة كانت قيمة الفضة أعلى من الذهب.

ويمكن ترقيق الفضة ليصبح أرق من الورق وغير قابل للكسر، ويمكن تشكيله وضغطه وتمديده بشكل يصعب تصديقه، إذ يمكن ضغط حبة صغيرة جداً من الفضة في صفيحة أرق 150 مرة من ورقة عادية.

منذ عام 2021 إلى عام 2022، تضاعف عدد السيارات الكهربائية المبيعة من 3.75 مليون إلى 6.75 مليون على مستوى العالم، ولكن لا يعلم كثر أن السيارات الكهربائية تعتمد بصورة كبيرة على الفضة وهي تستهلك 55 مليون أونصة من الفضة كل عام. وبحلول عام 2025، من المتوقع أن يقفز هذا الرقم إلى 90 مليون أونصة.

 

 

وفقاً لمسح الفضة العالمي لعام 2023 ارتفعت الشهية العالمية على الفضة 18 في المئة، لتصل إلى مستوى قياسي بلغ 1.24 مليار أونصة، مما أدى إلى عجز كبير في العرض. بالعودة عامين إلى الوراء واجهت سوق الفضة في عام 2021 عجزاً قدره 51.1 مليون أونصة. ومع ذلك، تدهور الوضع بصورة كبيرة في عام 2022، مع نقص هائل في العرض بلغ 237.7 مليون أونصة. ووصف “معهد الفضة العالمي” الأمر بأنه “العجز الأكثر وضوحاً على الإطلاق”، وتشير التوقعات إلى أن العجز في العرض الذي يرافق الزيادة الهائلة في الطلب سيستمر في الأعوام القليلة المقبلة.

تشمل أسباب العجز في العرض، القوانين البيئية الصارمة التي تسببت بتعقيدات كبيرة على عمليات التعدين. وزاد الأمر سوءاً بعدما فرضت المكسيك وهي أكبر منتج للفضة في العالم حظراً على تعدين الفضة في المناجم المفتوحة. ومع وصول الاستثمارات في المجالات البيئية والاستدامة العالمية إلى 35.3 تريليون دولار. كما يفيد موقع “تحالف الاستثمار المستدام العالمي”، فإن الطلب على الفضة على وشك الارتفاع بصورة كبيرة في هذه المجالات. وفي ظل هذه الظروف فإن مستشاري الاستثمار ينصحون باعتماد الفضة كمجال استثماري مهم، لأن النتيجة المنطقية لارتفاع الطلب ونقص العرض هي ارتفاع أسعار الفضة في الأعوام المقبلة. وفي العموم، وبحسب أبحاث اقتصادية عدة حول العالم، بدأ المستثمرون بشراء الفضة كوسيلة للتحوط ضد التضخم وعدم اليقين الاقتصادي وانخفاض قيمة العملات.

استخدام الفضة في العصور القديمة

كفلت الحضارات القديمة القيمة التي يستحقها معدن الفضة، فما اكتشفه العلم اليوم من قدرات الفضة الطبية الأساسية في طرد الميكروبات والفيروسات وإبعادها بسبب حركة أيونات ذرات الفضة، وكذلك من قدراته العاكسة للضوء وليونته وقدرته على التمدد التي تجعله عنصراً أساسياً في صناعة المرايا والمجوهرات، كانت الشعوب القديمة عرفته أيضاً ولكن بالطريقة المعرفية الماورائية التي منحت الفضة كما معدني الذهب والبرونز في نفس المرحلة، ومن بعدهما الحديد والنحاس في مراحل متقدمة، منحته صفات سحرية كما لو أنه حرز يستشفى به أو يزرع الطمأنينة في البيوت والمعابد.

 يعود أول استخدام معروف للفضة إلى الحضارات القديمة في بلاد ما بين النهرين في صناعة المجوهرات وكل الأدوات الدينية التي تستخدم في المعابد، ويقدر العلماء بدايتها بـ3500 أو 3000 عام قبل الميلاد، وبات معلوماً لدى علماء التاريخ والآثار أن جميع الشعوب القديمة كالمصريين واليونانيين القدماء والرومان استخدموا معدن الفضة في شتى أمور حياتهم.

وأصبحت الفضة معدناً رئيساً للعملة في العالم القديم، وينسب إلى الليديين الذين استوطنوا تركيا قديماً صنع أول عملات معدنية من سبائك الذهب والفضة. وسك الإغريق والرومان، ولاحقاً الصينيون عملاتهم الفضية الخاصة، التي لعبت دوراً حيوياً في تطوير اقتصادات العالم القديم وسهلت التجارة بعد إلغاء عمليات الشراء والبيع بتبادل البضائع، مما أسهم في تخفيف أحمال البضائع في الرحلات التجارية عبر المسافات الشاسعة.

 

 

خلال العصور الوسطى الأوروبية صارت الفضة معدنا رئيساً في صك العملات في أوروبا. وكانت المناجم في وسط أوروبا، خصوصاً في ألمانيا وبوهيميا، تزود معظم القارة العجوز بالفضة. وكانت العملات الفضية مثل الدينار والغروشن شائعة في الاقتصادات الأوروبية. وفي الفترة نفسها كانت الدراهم الفضية منتشرة الاستخدام في العالم الإسلامي منذ العصور الأولى للإسلام ثم استخدمت في المرحلة الأموية ومن بعدها العباسية كعملة رئيسة للتجارة في جميع أنحاء الإمبراطورية الإسلامية التي امتدت من إسبانيا إلى آسيا الوسطى.

بعد اكتشاف العالم الجديد في القارة الأميركية، شهد القرن الـ16 نقطة تحول في تاريخ الفضة مع اكتشاف كميات ضخمة من الفضة في الأميركتين، خصوصاً في المكسيك وبيرو. استغلت الإمبراطورية الإسبانية هذه الموارد، وتحديداً في منجم بوتوسي الشهير في بوليفيا الذي أصبح واحداً من أغنى مناجم الفضة في التاريخ. ونقلت السفن الإسبانية أطناناً من الفضة عبر المحيط الأطلسي إلى أوروبا وعبر المحيط الهادئ إلى آسيا، خصوصاً الصين. وكان لهذه التجارة تأثير كبير في الاقتصاد العالمي، إذ أصبحت الفضة العملة الرئيسة للتجارة الدولية، كما أدى تدفق الفضة إلى أوروبا إلى تضخم الاقتصادات وأسهم في صعود الرأسمالية وهي النظام العالمي المستمر من ذلك الحين حتى اليوم.

وعلى مر التاريخ جرى استخدام الفضة في التحف الدينية وأدوات أداء الصلوات والشعائر الدينية والاحتفالية، وجعل منه لمعانه ومتانته مادة مفضلة لصناعة الأدوات المقدسة في عدد من الثقافات، بدءاً من الكؤوس المسيحية إلى الآلهة الهندوسية. فالفضة كثيراً ما ارتبطت بمفاهيم النقاء والحماية وضوء القمر في عدد من الثقافات، واستخدمت في الطقوس والتمائم والمجوهرات لترمز إلى الثروة والسلطة والأهمية الروحية.

نقلاً عن : اندبندنت عربية