كثر هم العباقرة الذين اتهموا بالجنون، منهم أينشتاين وجيرار دو نرفال ودستويوفسكي وفريدريش نيتشه الفيلسوف الألماني الذي اعتبر أن هناك نوعاً من “الجنون” الإبداعي الضروري لإحداث التغيير في العالم، من خلال كسر القيود التقليدية التي يفرضها الدين والأخلاق السائدة. ولا تزال النهاية المأسوية للنحاتة الفرنسية كاميل كلوديل في مستشفى للأمراض العصبية مثيرة للجدل وكذلك الكاتبة مي زيادة التي اتهمت بالجنون. أما “المجنون” في رواية جبران خليل جبران (قصة رمزية كتبها عام 1918)، فهو ليس شخصاً ضائعاً أو مريضاً، بل هو تجسيد للفرد الذي يسعى إلى اكتشاف ذاته، ويتحدى ما يفرضه المجتمع عليه. في هذا الصراع بين العقل والجنون، طرح جبران من خلال المجنون تساؤلات حول ما إذا كانت الحياة التي يعيشها الناس “العقلاء” هي حقاً الحياة الأكثر معنى، أم إن الجنون الذي قد يبدو خرقاً للأعراف، قد يكون الطريق الذي يؤدي إلى فهم أعمق للوجود الإنساني؟

 قد يبدو للوهلة الأولى أن العبقرية والجنون يمثلان طرفين متناقضين، لكن التاريخ يذكر عديداً من الشخصيات التي عاشت بين هذين الحدين. على سبيل المثال، كان الفنان فينسنت فان غوخ الذي يعد أحد كبار فناني القرن الـ20، وكان يعاني اضطرابات نفسية حادة، ومع ذلك خلف وراءه أعمالاً فنية تمثل ذروة العبقرية في الرسم. كذلك، يعد عالم الرياضيات الإنجليزي جون ناش الذي حصل على جائزة نوبل، مثالاً آخر لشخص عبقري أصيب بمرض الفصام، لكنه استطاع من خلال معاناته أن يبدع في نظرية الألعاب. ويعد الفنان الإسباني سلفادور دالي، أحد أشهر فناني السوريالية، ارتباطاً بالجنون، سواء من خلال أعماله أو سلوكه الشخصي المثير للجدل. إذ إن أعماله مليئة بالصور المجازية والعناصر الغريبة التي تتحدى المنطق، لسبب هوسه بمفهوم اللاوعي الذي كان محورياً في نظريات فرويد، لا سيما كتابه “تفسير الأحلام”.

ومع ذلك، كان دالي يرى نفسه مختلفاً عن “المجانين” بالطريقة التي قد يفهمها الجمهور أو حتى فرويد نفسه. ففي واحدة من تصريحاته الشهيرة، قال دالي، “الفرق بيني وبين المجنون هو أنني لست مجنوناً”، وهو تعبير يعكس اعتقاده أن الجنون ليس مجرد هذيان أو انفصال عن الواقع، بل هو حالة من التفكير المبدع الذي يمكن أن يفضي إلى اكتشافات فنية عظيمة، وهو نوع من التمرد على العقلانية الجامدة. وليس ماكس أرنست أقل منه شأناً، حين اتهمه النازيون بالجنون، لسبب غرابة أسلوبه الفني، لا سيما حين صور جنون الحرب وانتصار السوريالية في لوحة “ملاك المنزل” على هيئة وحش أسطوري عنيف ومدمر.

هؤلاء الفنانون من فرانشيسكو دي غويا وفرانسيس بيكون وإدوارد مونش صاحب لوحة “الصرخة” الشهيرة وسواهم، أسهموا في تصوير الجنون كحالة نفسية أو رمزية تتجاوز المرض العقلي التقليدي، لتصبح جزءاً من فهم أعمق للطبيعة البشرية ومقاومتها للحدود العقلية والاجتماعية. فقد حافظ الفن والجنون دائماً على علاقة معقدة، تتأرجح بين التهميش والانبهار، والعبقرية والفوضى.

ومن العصور الوسطى إلى الرومانسية، تطورت هذه العلاقة عبر القرون، لنكتشف أن الفن قدم للمجانين مساحة للتعبير، في حين كان ينظر إلى الجنون على أنه شكل خاص من أشكال الرؤية، ووسيلة للمس غير المرئي الذي لا يمكن الوصول إليه.

العصور الوسطى: الفن الصوفي والجنون المقدس

في العصور الوسطى، ارتبطت فكرة الجنون في كثير من الأحيان بفكرة المس الشيطاني أو النشوة الغامضة. كان المجانين إما كائنات مستبعدة من المجتمع، أو قديسين فريسة للرؤى الإلهية. وقد مثل فن العصور الوسطى، المتأثر جداً بالدين، هذه الازدواجية في صور مشبعة بالرمزية والروحانية.

لا تميز العصور الوسطى بوضوح بين الفنان والناسك أو المجنون (على غرار شخصية القديس فرنسوا الأسيز) غالباً ما كان ينظر إلى المتصوفين العظماء في هذا العصر كأفراد على حافة العقلانية، مدفوعين إلى الرؤية من خلال البحث المكثف عن الحقيقة الروحية. في الأيقونات المسيحية، احتلت شخصيات الناسك أو القديس المنعزل الذي يعيش في نشوة منتشية، مكاناً مركزياً.

لماذا أصبح “الجنون”، من خلال مظاهره الحقيقية أو الساخرة، موضوعاً مجتمعياً مركزياً من القرن الثالث عشر إلى القرن السادس عشر، وهي فترة الانتقال من العصور الوسطى إلى عصر النهضة، وما هو المقصود بـ”الجنون” قبل أن يتم الاعتراف به في العصر الحديث على أنه مرض عقلي؟

هذه هي الأسئلة التي يجيب عنها المعرض الذي يقام في متحف اللوفر، يستمر حتى 3 فبراير (شباط) 2025، الذي يسلط الضوء حول “شخصيات المجنون” كمرآة لمشكلات العالم وغموضه، ويغوص في تاريخ هذه الشخصية التي ألهمت أخلاقها المتهتكة ووجهها المتجهم عدداً من الروائع. وفي المناسبة أصدر اللوفر كتاباً، يرافق المعرض ويلقي ضوءاً على أعماله وأبعاده.

يضم المعرض أكثر من 300 تحفة فنية من منحوتات ولوحات وميداليات وزخارف ومنسوجات ونقوشاً، تقدم ضمن مسار زمني وموضوعي، صورة تفصيلية، تبدأ من مواجهة الهراطقة وغير المؤمنين، والعذارى المجنونات وشخصيات دينية ومشعوذين، انتقالاً إلى حقبة تشارلز السادس الذي تقوضت فترة حكمه بأكملها بسبب هجمات الخرف. ومن هيرونيموس (المعروف جيروم) بوش إلى بيتر بروغل، مع انتصار المجانين في عصر النهضة قبل أن يطغى عليهم العقل في عصر التنوير. إذ بعد أن تم نفي المجانين من المجتمع، عادوا ليولدوا من جديد من رمادهم تحت قلم فيكتور هوغو.

يطارد موضوع جنون الحب روايات الفروسية (رواية إيفين أو بيرسيفال أو لانسلوت أو تريستان) وتمثيلاتها المتعددة، خصوصاً في الزخارف والعاج. ومن القطع المتميزة في موجودات معرض متحف اللوفر خوذة معدنية عبارة عن قناع واقٍ بابتسامة متجهمة. أنشئ هذه التحفة الفنية من صناع مستودع الأسلحة، بناء على طلب الإمبراطور ماكسيميليان الأول ملك هابسبورغ كهدية لهنري الثامن ملك إنجلترا (ولا يوجد خبث في قرني الكبش، اللذين أضيفا لاحقاً)، على اعتبار أن الرجل المجنون لا يتقدم من الناس بوجه مكشوف، بل ينبغي أن يكون محمياً بهذه الخوذة كقناع اجتماعي. وكان نجاحها كبيراً لدرجة أنها تصدرت المبيعات خلال القرن الخامس عشر.

عصر النهضة: الفنان والعبقري

شهد القرن الخامس عشر توسعاً هائلاً في شخصية المجنون، المرتبطة بالمهرجانات الكرنفالية والفولكلور، أصبحت شخصيته منتشرة في كل مكان، كما يظهر في فن بيتر بروغل الأكبر الذي يصبح فيه المجنون شاهداً على جنون البشر. سيكون عصر النهضة هو العصر الذهبي للحمقى. في قاعة نابليون المستديرة التي تم تجديدها في متحف اللوفر، يستحوذ المجانين على مشاهد الرقص وسواها من الموضوعات التي جسدها الفنانون على جميع الأنواع: من أكثر الأشياء اليومية إلى الأثمن (مشغولات ذهبية وعلى الطين والخشب والنسيج). يستحضر المعرض الرسام هيرونيموس بوش الذي تتميز أعماله بالغرابة والغموض، من خلال لوحة “سفينة الحمقى” عام 1500، وهي مستوحاة من كتاب ألماني، يحمل العنوان نفسه، نشر في نهاية القرن الخامس عشر، ومزود برسوم توضيحية عبارة عن نقوش على الحجر. حقق في حينه نجاحاً باهراً فكان الأكثر مبيعاً بعد الكتاب المقدس، وكان له تأثير قوي على الثقافة وخصوصاً على الفنون البصرية من خلال نقوشه التي ثبتت صورة الرجل المجنون بقبعته ذات آذان الحمير وأقراص الديك، وأجراسه، وهو يحمل بإحدى يديه نظارات وباليد الأخرى عصا يعلوها رأس بشع على شاكلته. المجنون يسلي ويبهر منذ لحظة دخوله إلى المشهد. هذه المقولة تتبدى من خلال لوحة نموذجية (بريشة الفنان فرانز فيربيك) تمثل هذه شخصية الهذيانية بلباس المهرج وهو ينظر من خلال أصابعه بطريقة غريبة مع ابتسامة طافحة على الوجه.

في عصر النهضة الذهبي، أصبح الجنون صورة من صور استكشاف اللاوعي البشري، ومرآة للعقل البشري، أحلك أجزاء الروح، لا سيما مع شخصيات الكوميديا الإلهية. فقد أصبح الفنان عبقرياً، ومبدعاً لأشكال وأفكار جديدة. لم يعد جنون الفنان هو جنون الصوفي المنعزل، بل جنون المبدع الذي يجرؤ على انتهاك القواعد المعهودة. يظهر فن ليوناردو دافنشي ومايكل أنغلو وفيرونيز وسواهم، خطوة نحو استكشاف ما هو غير عقلاني وشبيه بالحلم. إن فنهم، على رغم أنه غالباً ما يتم تدوينه وفقاً للقواعد الكلاسيكية لعصر النهضة، فإنه يعكس مسعى يمس غير الملموس والمجهول.

الباروك والرومانسية: جنون الإبداع

في القرن الـ17، فتح الفن الباروكي، برحلاته الدرامية ومسرحياته الضوئية، الطريق أمام تعبيرات فنية أكثر شخصية وتعذيباً. ويأخذ الجنون، في هذا السياق، بعداً جمالياً أكثر من ذي قبل. يصور فنانو الباروك، مشاعر متصاعدة، وشخصيات تتأرجح بين الجليل والمروع، بين النعمة الإلهية واليأس البشري. فقد رسم هؤلاء الفنانون أحياناً رؤى هلوسة أو مشاهد عنف داخلي أو معاناة أو متعة مفرطة، إذ إن أعمالهم وصفت بأنها بين العقل والجسد، وتعكس عصراً يتسم بالعذاب والتناقضات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

شهد القرن الثامن عشر اهتماماً متجدداً بالمخلوقات الغريبة والهجينة والعالم الهامشي. ونفكر بصورة خاصة في الرسام الإسباني غويا. في الوقت نفسه ومع تطور الطب النفسي، يتم الانتقال بتيمة الجنون من الحجر إلى العلاج. يتبدى ذلك في لوحة نموذجية ضخمة ومذهلة، موقعة من توني روبرت فلوري، تعكس الحلقة التأسيسية للدكتور بينيل الذي يحرر المجانين من مستشفى سالبيترير من طريق إزالة أغلالهم. وفي الحقبة الرومانسية يشكل الجنون موضوعاً مركزياً. فقد سعى الفنانون الرومانسيون الذين غالباً ما تأثروا بالاضطرابات الاجتماعية والسياسية في عصرهم، إلى تمثيل شدة المشاعر الإنسانية، وإظهار العالم الداخلي للفرد. لم يعد الجنون مجرد اضطراب عقلي، بل أصبح وسيلة لاكتشاف حقائق أعمق، لا يمكن للعقل الوصول إليها في بعض الأحيان. إن النفس البشرية، عند الرومانسيين، تعبرها عذابات قد تؤدي إلى التعالي، أو إلى رؤية شعرية، أو إلى شكل من أشكال الحرمان المأسوي.

الرسامون مثل جيريكو ودولاكروا ومن بعدهما كوربيه، قدموا مشاهد زاخرة بالدرامية اللامعقولة، يوضحون فكرة الجنون هذه التي هي أيضاً شكل من أشكال التعبير الإبداعي. إن جنون الفنان الرومانسي هو ثورة ضد عقلانية عصر التنوير، ورغبة في ترك مجال للعاطفة الخام، السامية والمعاناة. كما استكشف الكتاب الرومانسيون، مثل إدغار آلان بو أو شارل بودلير، موضوع الجنون في أعمالهم. فقد أضحى الجنون باباً مفتوحاً على غير المرئي، وبحثاً عن الحقيقة التي لا يمكن الوصول إليها بالعقل. فبودلير، على سبيل المثال، يصف في قصائده الشعور بالدوار والجنون الذي يندمج مع الرغبة الجمالية والتعبير عن القلق الوجودي. هذا عدا الهالة الأسطورية التي تحيط بشخصية الكاتب الشهير فيكتور هوغو. وفي هذا السياق يختتم المعرض مشهدية “شخصيات المجنون” في متحف اللوفر ببعض التماثيل التي تجسد كائنات خيالية مثيرة للإعجاب من أبراج كاتدرائية نوتردام في باريس، كتحية لرواية فيكتور هوغو (أحدب نوتردام) التي تبدأ بـ”عيد الحمقى”، حين تم انتخاب كوازيمودو الأحدب، “بابا الحمقى”، Pape des fous الشخصية ربما الأكثر تأثيراً في الإطلاق.

نقلاً عن : اندبندنت عربية