بدأت الانتخابات البلدية في لبنان في الأسبوع الأول من مايو (أيار) الجاري، ما أتاح فرصة كبيرة لإعادة طرح مسألة اللامركزية الإدارية كإحدى القضايا البارزة التي تعكس تطلعات اللبنانيين نحو تحسين إدارة شؤونهم المحلية وتعزيز مشاركتهم في صنع القرار. وتُجرى هذه الانتخابات على أربع مراحل وتشمل كافة المحافظات، في وقت يواجه فيه لبنان أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية شديدة التأثير، مما دفع العديد من المواطنين إلى اعتبار الانتخابات فرصة حقيقية للمشاركة الفاعلة في تعزيز دور البلديات في إدارة الشؤون المحلية وتحقيق التنمية المستدامة، كما تسهم في تخفيف الضغط على السلطات المركزية والمساعدة في إعادة إطلاق عجلة الدولة اللبنانية.

ويتفاوت اللبنانيون كما غيرهم من شعوب العالم في آرائهم حول النظام الإداري الأنسب لهم. فلبنان، الذي يتميز بتنوع طائفي شديد وصغر حجمه الجغرافي، يشهد نقاشًا مستمرًا حول ما إذا كان ينبغي تبني اللامركزية الإدارية أو الاستمرار في النظام المركزي. هذا النقاش ليس محصورًا في لبنان فقط، بل يعد من القضايا المتجددة في العديد من الدول على مستوى العالم.

الخلاف المعاصر حول تعريف الدولة

تاريخيًا، تميزت الحكومات بوجود جهازين لإدارة شؤون المجتمع: الأول كان نظامًا قبليًا أو عائليًا في الأرياف والمناطق البعيدة عن المركز، والثاني كان الدولة التي تفرض سلطاتها عبر المؤسسات الدينية والاقتصادية، وتتحكم من خلال فرض الضرائب على المجتمع. ورغم تطور الدول إلى هياكل حديثة، إلا أن هذه العلاقة بين المركز والأطراف استمرت، وتمثل في جوهرها سعيًا دائمًا لإيجاد حلول للمشكلات اليومية في المجالات الخدمية والسياسية والاجتماعية.

ومنذ نشوء الدولة، كان الصراع قائمًا بين المركزية واللامركزية في الحكم. كانت الدولة دائمًا مركزية، حيث تُصدر القرارات من المركز وتنتقل إلى الأطراف، وهو ما كان يعيق التنوع الإداري ويخلق بيروقراطية معيقة للإنجازات. لكن، ومع ظهور اللامركزية، تزايد الحديث عن قدرة الوحدات المجتمعية على إدارة شؤونها محليًا، لتخفيف العبء عن السلطة المركزية التي قد تركز القرارات في يد طبقة سياسية معينة.

تعريف المركزية واللامركزية الإدارية

المركزية الإدارية تعني تركيز السلطة في مركز الدولة، حيث تدار الشؤون الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من هناك. النظام المركزي يعتمد على جهاز حكومي رئاسي يتخذ القرارات التي تلتزم بها الأطراف المحلية، مما يجعل القرارات غالبًا بيروقراطية، ويتسبب في بطء التنفيذ. مع ذلك، تمنح المركزية ميزة فرض حلول موحدة للأزمات المتشابهة في الأطراف.

في المقابل، تعتمد اللامركزية الإدارية على تقسيم السلطة بين المركز والوحدات الإدارية المحلية مثل البلديات. تمنح اللامركزية السلطات المحلية استقلالًا في إدارة شؤونها الاقتصادية والخدمية، وتساعد في توسيع قاعدة المشاركة الشعبية في صنع القرار، مما يتيح سرعة في الاستجابة للاحتياجات المحلية.

الحكم اللامركزي عبر التاريخ

تاريخياً، ارتبطت اللامركزية بالأنظمة القبائلية والعشائرية، مثل المدن السومرية التي كانت تتمتع بالاستقلالية. وعلى مر العصور، أظهرت العديد من الدول والأنظمة السياسية ملامح من اللامركزية مثل نظام الحكم في العصور الإسلامية التي شهدت استقلالًا محليًا في العديد من الولايات، وكان للوزراء دور كبير في تنفيذ أوامر الخليفة.

أوروبا واللامركزية الإدارية

على الصعيد الأوروبي، شهدت الثورات الفرنسية والأميركية والروسية رفضًا للاستبداد الإمبراطوري المركزي، ما أدى إلى تشكيل أنظمة إدارية تتمتع بدرجة من الاستقلال المحلي. كما تبنت بعض البلدان مثل إسبانيا وسويسرا النظام اللامركزي بشكل كامل، مما منح الأقاليم حرية إدارية في إطار الاتحاد.

وفي العالم العربي، يعتبر نظام الإمارات العربية المتحدة مثالًا بارزًا على النظام اللامركزي، حيث يتمتع كل إمارة باستقلال اقتصادي وإداري ضمن الاتحاد.

النظام اللامركزي في العراق

أصبح العراق مؤخرًا يشهد تطبيقًا لنظام اللامركزية مع الحكم الذاتي لإقليم كردستان وفقًا لدستور 2005، الذي نص على نظام اتحادي يعترف بالحكم الذاتي في الإقليم.