كان الشاعر البريطاني اللورد بايرون بالكاد تجاوز الـ36 من عمره حين مات في اليونان كما حلم دائماً، وبخاصة خلال السنوات الأخيرة من حياته. غير أن ذلك الشاعر الكبير المناصر للحرية والتقدم لم يحقق في نهاية الأمر سوى نصف الحلم الذي داعبه منذ اكتشف القضية اليونانية، وجعل من نفسه واحداً من كبار المدافعين عنها في الجانب الغربي من القارة الأوروبية، كما سنرى بعد سطور. أما هنا فلا بد من التذكير بما كانت عليه تلك القضية خلال العقود الأولى من القرن الـ19. كانت قضية استقلال اليونان من ربقة الاحتلال العثماني استقلالاً سعى إليه اليونانيون طويلاً وناصرهم فيه كل محب للحرية وكل منافح عن حق الشعوب في تقرير مصيرها. ولقد اتخذت قضية ذلك النضال طابع المسألة ذات الأولوية لدى الشبيبة الأوروبية في ذلك الحين بصورة لم يمكن معها للشاعر الإنجليزي أن يبقى في منأى عنها، وهكذا قرر ليس فقط أن يكتب أشعاره ونصوصه الأخرى مسانداً تلك القضية، بل أن يذهب إلى اليونان ليشارك في القتال بنفسه غير آبه بأن يموت في سبيل تلك القضية.

قبل 200 عام

والحقيقة أن بايرون مات في اليونان بالفعل تحديداً خلال عام 1824 وفي مثل هذه الأيام بالذات، لكن سوء طالعه جعله يموت ليس على جبهة القتال ممتشقاً سلاحه كما حلم دائماً بأن تكون نهايته، بل على سرير المرض من دون أن يتمكن حتى من التعبير عن رغبته الأثيرة بالصراخ بالشعار الذي تعلم قوله باليونانية “إيليفتيريا إي تاناتوس” (أي الحرية أو الموت). لقد كان وهو يغمض عينيه للمرة الأخيرة أكثر وهناً من أن يقول أية كلمة كما كان أكثر صدقاً من أن يدعي أنه يموت في سبيل حرية اليونان واستقلالها. وكان مصاباً بالدفتيريا التي قضى بها مما أعجزه عن خوض أي قتال حقيقي وجعله غير واع بما يدور من حوله، معتقداً بالأحرى أنه حقق الاستشهاد في سبيل حلمه التحرري وأسهم مع اليونانيين في الحصول على استقلالهم. بالنسبة إلى الشاعر الكبير والذي كان معبود الشبيبة الرومانطيقية في بلاده الإنجليزية كما في أوروبا على رغم إفراطاته وموبقاته وسمعته السيئة كان نصف الحلم حلماً متكاملاً. بل إن ذلك كله جعله معبراً أكثر من أي شاعر مجايل له عن التطلع إلى الحرية.

من طغيان إلى آخر

وكان ذلك التطلع من سمات الشبيبة الأوروبية، وقد تجسد حينها في ذلك النضال ضد “الطغيان العثماني” بصورة يكاد لا يشبهها سوى النضال الراهن في أوروبا نفسها والذي يخوضه الأوكرانيون ضد “ديكتاتورية بوتين”، مع فارق كبير يكمن في أن القضية اليونانية كانت قضية الشبيبة المتحررة في أوروبا بينما تبدو القضية الأوكرانية اليوم قضية صراعات بين الكتل الكبرى والأحلاف العسكرية وما إلى ذلك. ومن هنا ما يمكننا قوله أنه بقدر ما تبدو قضية اليوم بعيدة من أن تجتذب شاعراً مناضلاً وصادقاً كبايرون، كانت قضية الأمس تحفز هذا الأخير على النضال حتى الموت ولسان حاله يقول “إن العالم يخوض حرباً ضد الطغيان، فهل يمكنني إلا أن أجاري العالم في حربه؟”. لكن المسكين، وبعيداً من أن يخوض الحرب استسلم للمرض مكتفياً بأن يدون تلك العبارة المتسائلة في أسفل البورتريه الذي رسمه له صديقه توماس فيليب يوم كان الشاعر في كامل صحته يسعى إلى خوض المعركة. ولعل من دلالات ذلك السعي أنه في البورتريه نفسه يبدو مرتدياً ثياباً وعمامة شرقية كتعبير عن كونه لا يخوض معركته ضد الشرق من منطلق أنها حرب بين الشرق والغرب، بل لمجرد مقارعة الطغيان الذي يدمر حرية الغرب كما يفعل بحرية الشرق. ففي نهاية الأمر كان اللورد بايرون أكثر وعياً من أن يجعل نفسه بيدقاً في صراع عنصري بين الأمم. وهو ما عبر عنه على أية حال في أشعاره التحررية التي كتبها خلال السنوات الأخيرة من حياته… أي سنوات النضال.

خيبة يونانية

ولقد اختتم الشاعر المناضل تلك السنوات بتوجهه بحراً إلى اليونان يوم الخامس من يناير (كانون الثاني) 1824 حيث أوصلته السفينة إلى ميسولونغي على السواحل اليونانية، وكانت المدينة تشهد معارك كر وفر بين الشعب اليوناني والعسكر العثماني. لكنها كانت تشهد أيضاً بداية الانتشار لوباء الدفتيريا الذي أصاب في ذلك الحين أجزاء عديدة من وسط أوروبا، وشكل موضوعاً تحدث عنه الكاتب الفرنسي شاتوبريان الذي مر بتلك المناطق حينها في طريقه نحو مناطق الشرق الأوسط، وكان بدوره من المتحدثين بحماسة عن نضال الشعب اليوناني معتبراً أنه من أصعب النضالات “وبخاصة في ميسولونغي التي لم تكن محصنة تقريباً، مما جعل من أقصى ضروب البطولة نضال المدافعين عنها ضد ’البرابرة‘ الذين تمكنوا من اختراق الدفاعات البشرية واصلين حتى أسوار ميسولونغي الواهية” كما جاء في بيان كتبه تحت عنوان “نداء لمصلحة قضية اليونانيين المقدسة” وهو البيان الذي علق عليه فكتور هوغو قائلاً في أبيات صاخبة له أن “على العالم يا إخوتي أن ينجد ميسولونغي الغارقة في دخان حرائقها تحت وابل مهاجميها المخترقين كل يوم أسوارها السخية الواهنة”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

نضال ضد كل طغيان

والحقيقة أن كل ذلك جعل من ميسولونغي رمزاً لنضالات الشعوب ضد كل طغيان من أي صوب أتى. ولنا هنا أن نتخيل اضطراب بايرون وهو راقد داخل المدينة نفسها على سرير المرض عاجزاً حتى عن كتابة ما يمكن أن يسهم به أدبه في سبيل نصرة “قضية الحرية والاستقلال”. ولقد كان أشد ما يحز في نفسه هو الذي قصد مكان الأحداث كي يشارك في صنعها ولو وصل به الأمر إلى أن يموت في سبيل ذلك، أنه يموت تدريجاً ولكن تحت وطأة المرض لا تحت نار العراك العادل. فكان أشرف له لو بقي في منزله بين ذويه “بدلاً من ذلك العجز المعيب” عن فعل ما كان يبدو له أنه الصواب. ومن هنا كان الحزن يستبد به والدموع تكاد تنهمر غزيرة من عينيه كلما كانت تصله أخبار “تلك المدينة الشهيدة” التي تعد ممراً رئيساً للوصول إلى خليج كورنثة، وكان العثمانيون يحاصرونها متسببين في تجويع من بقي فيها من مدنيين يدافع عنهم ما لا يزيد على ألفي مقاتل يستخدمون أسلحة بائدة بالكاد يمكنها حمايتهم. فكيف الحال وفي المدينة نحو 5000 مدني بين نساء وعجائز وأطفال يتساقط موتاهم وجرحاهم ومرضاهم يوماً بعد يوم؟ والحقيقة أن الأمور كانت تبدو محتملة خلال الأيام الأخيرة من حياة اللورد بايرون. لكنها ستسوء كثيراً وبصورة فاجعة بعد رحيله. ستسوء إلى درجة أن الرسام الفرنسي أوجين ديلاكروا سيخلد تلك الفاجعة في لوحة سيرسمها خلال عام 1826 ويصرح بأنه إنما رسمها في استلهام من نضالات بايرون نفسه في ميسولونغي ومن أجلها، ولكن من دون أن يخبرنا عن تلك النضالات بالفعل (!). ويبدو أن ديلاكروا الذي كان معروفاً بإعجابه الشديد بالشاعر الإنجليزي وبكونه قرأ كل أعماله ونصوصه وبخاصة منها ما كتبه عن مأساة اليونان ومعارك ثوارها البطولية، إنما أراد في لوحته أن يحقق لبايرون ما لم يمكنه المرض القاتل من تحقيقه! ربما. المهم أنه لئن كان اللورد بايرون عجز عن تحقيق حلمه بأن يموت شهيداً في سبيل قضية يؤمن بها، ها هو الفن ومن طريق الرسام الفرنسي تحديداً يحقق له ذلك الحلم بعد رحيله وبصورة خلاقة يعبر على أية حال عن الدور الكبير والحقيقي وربما الأكثر خلوداً، الذي يمكن للفن أن يلعبه في الأحداث الكبرى في درس يبقى من أجمل الدروس وأعمقها.

ولعل الأسى الوحيد الذي يمكن أن يكون ديلاكروا استشعره حين أنجز لوحته المعنونة “اليونان على أطلال ميسولونغي”، هو أن اللورد بايرون لم يكن موجوداً لرؤية “حلمه” وقد تحقق من طريق الفن، إذ عجزت الحياة عن تحقيقه.

نقلاً عن : اندبندنت عربية