يكفي أن ننظر بحسب المؤرخ هيرفي لو برا إلى الحركات الراديكالية التي يقودها البيض والسود على السواء في الولايات المتحدة الأميركية كمنظمة “كو كلوكس كلان” العنصرية التي تقول بتفوق البيض ومعاداة السامية، وغيرها من المنظمات والحركات التي تستعمل العرق لإضفاء شرعية على الفروق الاجتماعية والاقتصادية، وجعل السياسة حكراً على البيض، أو تلك التي تقدم نفسها كنقيض للعنصرية البيضاء كحركة “القوة السوداء” التي تشكلت في ستينيات القرن الماضي وتبنت مجموعة من الأهداف تراوحت ما بين الدفاع عن السود ضد الاضطهاد العنصري الأبيض وبناء مؤسسات اجتماعية واقتصادية وحتى مكتبات وتعاونيات ومزارع ووسائل إعلام مملوكة حصراً من قبل السود، من دون أن ننسى الإحصاءات العرقية كي نفهم التوترات والجدالات التي يثيرها هذا المفهوم الزائف.

ينطلق لو برا من طرح يؤكد أن فكرة تفوق البيض أو سيادتهم على الأعراق الأخرى تعكس فجوة قائمة بين الواقع وتصوراتنا له. فليس لون البشرة هو المعيار الذي يدل على اختلافنا عن الآخرين، بل هو معيار سطحي يفتقر إلى أساس متين في البيولوجيا الحديثة ولا يفصح أبداً عن هويتنا وكينونتنا. ولعله يتجذر في مصالح وتوجهات سياسية واقتصادية لا تمت إلى العلم بصلة، مشدداً على أن مفهوم “الاستعلاء العرقي” وما يرافقه من اعتداءات وعنف وكراهية ضد مجموعات معينة من البشر حديث نسبياً، فقد ضل من أعتقد أنه يعود إلى الإغريق والحضارة اليونانية القديمة. ذلك أن صفة “برابرة” التي أطلقها اليونانيون القدماء على الشعوب غير الناطقة باليونانية، كالمصريين والفرس والميديين والفينيقيين لم تكن من منطلق عرقي عنصري، بل من منطلق لساني وثقافي. فالأثينيون لجأوا إلى كلمة “بربري” لوصف هذه الشعوب، بغض النظر عن عرقهم ولون بشرتهم، في إشارة منهم إلى طريقة نطق لغاتهم أو إلى ناطقي اللغة الإغريقية بطريقة خاطئة.

وفي بعض الأحيان استخدم الأثينيون أيضاً هذا المصطلح للتهكم على المدن اليونانية الأخرى، واليونانيون لا يصفون أنفسهم بـأصحاب البشرة البيضاء أو أي وصف آخر، لعدم وجود كلمة في قواميسهم يشيرون بها إلى أنفسهم، فلون البشرة لم يكن عندهم ذا أهمية.

الأعراق البشرية

 ومن المفارقة أن علوم الطبيعة ودراسة الأحياء في القرن الـ18، مع الفرنسي جورج دو بوفون والسويدي كارل فون ليني، قسمت الكائنات الحية، حيوانات ونباتات، إلى مجموعات وأصناف، سرعان ما توسعت هذه التصنيفات لتشمل الإنسان، مما أدخل فكرة “الأعراق البشرية”. مذ ذاك أصبحت الاختلافات بين المجموعات البشرية محور البحث العلمي. ففي هذا القرن شهدت المجتمعات الأوروبية تحولات جذرية بفعل نتائج الثورة العلمية، سواء على المستوى العملي أو الأيديولوجي، ولم تعد قادرة على الاستناد إلى العادات أو الدين لتأكيد تفوقها، فاتجهت نحو العلم. وهكذا تنافس علماء الأنثروبولوجيا والبيولوجيا والأطباء والفلاسفة في وضع تصنيفات عرقية هدفت إلى تمجيد “العرق الأبيض” – عرقهم – بزعم تفوق بيولوجي (أو طبيعي، وفقاً لمصطلحات تلك الحقبة) يستند إلى نظريات غريبة.

ومع ذلك بات من المعروف أن هذه المحاولات كانت محكومة بالفشل لأنها تعارضت مع قواعد البحث العلمي نفسه. والعرق مفهوم يستخدم في تصنيف البشر إلى مجموعات، بالاستناد إلى سمات جسدية وإلى علم الوراثة والصفات الاجتماعية والثقافية. لكن منذ نهاية القرن الـ19 أدى ربط هذا المصطلح بالأيديولوجيات والنظريات العنصرية إلى ظهور عديد من المشكلات والمآسي في عصر التوسع الاستعماري الأوروبي، كتجارة الرقيق والعبودية والإبادات الجماعية.

يرفض لو برا فكرة أن العرق محدد بيولوجياً ويقول لنا إن الأعراق كانت في البداية أربعة، ظن أنها اشتقت إما من أسلاف مختلفة (بوليجينيسم/ تعدد الأصول) أو من أصل واحد تغير بفعل المناخ (مونوجينيسم/ وحدة الأصل)، لكن عدد هذه الأعراق سرعان ما تضاعف ليصل إلى 20 فـ40، لا بل إلى 100. ذلك أنه مع ظهور الأمم المختلفة تداخل هذا المفهوم بالصراعات التاريخية والسياسية، كذلك عزز علم اللسانيات من حضوره، علماً أن مفهوم العرق لم يكن مرتبطاً على الصعيد النظري بادعاء تفوق عرق على آخر، لكنه كان كذلك عملياً. ولإثبات ذلك تم اللجوء إلى دراسة الملامح الشكلية للبشر كلون البشرة وحجم الجمجمة وبروزها، وغيرها من السمات. وعلى رغم فشل هذه الدراسات، استمر تصنيف البشر وتمييزهم وفقاً لأعراقهم في الولايات المتحدة الأميركية وفي أوروبا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من هذا التاريخ المظلم يتوصل لو برا إلى استنتاج مفاده وجود “مفردات غير ملائمة” يجب على العلماء تفكيكها، يلجأ إليها الإنسان رغبة منه في الهيمنة على الآخرين. فما الحديث عن علم الأعراق إلا رغبة في تأصيل تسلط الإنسان على أخيه الإنسان من خلال الحديث عن فروق بيولوجية وتاريخية بين البشر يفترض أنها غير قابلة للجدل. من هنا، كان كل مجتمع يضع معايير إثنو-مركزية لتبرير تفوقه ومقارنة نفسه بالمجتمعات الأخرى التي يقلل من شأنها. فقد أطلق الإسكيمو مثلاً على الشعوب الأخرى اسم “قمل الأرض”، بينما أطلق الإغريق والرومان على هذه الشعوب مصطلح “البرابرة”، وبناء عليه كان من الضروري بحسب لوبرا العمل على تبيان تهافت هذه المفردات.

غير أن فكرة الأعراق وتفوق عرق على آخر ما زالت تطرح بثقلها على المجتمعات الأوروبية والأميركية. فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، جعل اليمين المتطرف في فرنسا من الادعاء بوجود “عنصرية ضد البيض” حجر الزاوية لحملته الانتخابية. وفي عام 2023 تحدثت ماريون ماريشال لوبان عن “التابوهات الإعلامية والقضائية والسياسية في شأن العنصرية ضد البيض”. ويبدو الأمر كما لو أن النظريات العرقية، التي كان يعتقد أنها دفنت للأبد مع أهوال الحرب العالمية الثانية، قد عادت مجدداً إلى الحياة، على رغم أن مفهوم العرق لا يستند إلى أي أساس علمي – وهو ما نعرفه الآن – فإنه لا يزال يطارد ويمزق المجتمع الفرنسي وغيره من المجتمعات الأوروبية. فليس ثمة تفوق أخلاقي وفكري للعرق الأوروبي الأبيض على الأعراق الأخرى، وليست الأنماط الظاهرية بما فيها اختلاف لون البشرة وملامح الوجه من بين الأشياء التي تعد بمثابة اختلاف بين البشر في طرائق التفكير والفضائل الأخلاقية والتطور الاجتماعي.

 يختم هيرفي لو برا كتابه قائلاً إن الفرنسيين ليسوا أكثر ذكاءً من علماء الماضي الذين حاولوا تأسيس علم للأعراق، لكن يمكنهم بالتأكيد تجنب السير على خطى من وقع منهم في أخطاء أظهر العلم تهافتها.

هيرفي لو برا مؤرخ وعالم في الدراسات السكانية، مدير الدراسات في “مدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية” وفي “المعهد الوطني للدراسات الديموغرافية” في باريس. ترأس لفترة تجاوزت 12 عاماً مجلة “السكان”، وله أكثر من 50 كتاباً ودراسة.

نقلاً عن : اندبندنت عربية