تمتاز روايات الكاتبة المصرية رشا عدلي بالمزج الرهيف بين السرد وتاريخ الفن التشكيلي تحديداً، الذي تتعامل معه بوصفه تاريخاً عاماً، فاللوحة كما تراها ليست مجرد عمل فني محايد، لكنها تستدعي أبعادها التاريخية والاجتماعية والسياسية ودوافع مبدعها وغاياته. وبهذا لا يصبح الفن مجرد جزء من التاريخ العام، بل هو أحد تجليات هذا التاريخ. على أنها تتوسع في كثير من رواياتها وتتناول موضوعات ماضوية محاولة إسقاطها على الواقع الراهن، ومن ذلك روايتها الأولى “صخب الصمت” التي تصور معاناة المصريين في الحرب العالمية الثانية رغم أن مصر لم تكن طرفاً فيها، ورواية “الوشم” التي تناولت بدايات نشأة الصهيونية وجماعة “إخوان صهيون”.

واللافت أنها استوحت روايتها “آخر أيام الباشا” من اللوحة التي تصور الزرافة المهداة من محمد علي إلى ملك فرنسا. ورواية “شغف” التي تصور علاقة نابليون وزينب البكري. لكننا مع روايتها الجديدة “جزء ناقص من الحكاية” (الدار العربية للعلوم ناشرون ودار الشروق) نجدنا أمام نقلة نوعية، إذ توظف الكاتبة هذه المرة تقنيات التصوير الفوتوغرافي من خلال الفنانة “فيفيان ماير” التي كانت مولعة بتصوير “الشارع” والشخصيات البسيطة، وتحرص في لقطتها على اقتناص اللحظات النادرة المعبرة. وأعتقد أن هذا يقترب من فنيات السرد عند رشا عدلي نفسها التي يغريها العابر والبسيط والمهمش. مما يمكننا أن نقول معه إن الرواية عندها هي تأريخ ما أهمله التاريخ الرسمي الذي يتوقف أمام المنتصرين والشخصيات البارزة المؤثرة.

أثر الحرب

ويمكن القول، إن هذه الرواية الجديدة تندرج تحت “أدب الحرب” الذي بدا في روايتها السابقة “صخب الصمت”. وعلى رغم إمكانية وصف هاتين الروايتين بأنهما روايتا حرب فإن من المهم الإشارة إلى أن رشا عدلي لا تكتب هذا النوع بالمفهوم التقليدي له الذي يصف وقائع الحرب ودوافعها ونتائجها وما صاحبها من بطولات. بل هي تتوقف أمام أثرها في الشخصيات، فـ”سيف القرنفلي” وهو يعد الشخصية الرئيسة الثانية كان أحد المشاركين في حرب 1967، وأصر هو وكتيبته على مواصلة القتال رغم أوامر الانسحاب، وترتب على ذلك بتر إحدى ساقيه. هناك دائماً “جزء ناقص من الحكاية”، سواء كان عضوياً أو نفسياً يشمل كل شخصيات الرواية تقريباً، التي بدت شخصيات معذبة، مغتربة، لا تشعر باليقين في شيء. على أن العنوان يحيلنا إلى معنى فني، وهو فكرة الانتخاب سواء من الواقع أو التاريخ. فالروائي ليس مطالباً بقول كل شيء، بل باختيار ما هو دال ومؤثر، وهذا ما يتسق مع نقصان الحياة ذاتها، هذا النقصان الذي يجذب الأديب والفنان عموماً. وجاءت تحت العنوان الرئيس هذه العبارة، “ليست هناك حكاية كاملة، كما أنه ليست هناك جريمة كاملة، الحياة كلها منذورة للنقصان”.

يمكن وصف هذه الرواية في جانب منها بأنها أقرب إلى رواية “الرحلة”، ويرجع ذلك إلى تعدد الأمكنة التي تحرك خلالها بعض الشخصيات ما بين القاهرة والإسكندرية ونيويورك وباريس، كما يمتد الإطار الزمني من عام 1967 إلى عام 2022، مع استرجاعات تستعيد مرحلة الطفولة لغالب الشخصيات. والرواية في تقنيتها الرئيسة تقوم على تعدد الأصوات، إذ يتناوب على السرد كل من “روان”، وأمها “ناني القرنفلي”، و”فيفيان ماير”، و”سيف القرنفلي”. واللافت أنها تستخدم كلمة “اللقطة” في الانتقالات السردية من موقف لآخر داخل كل صوت، تأثراً باللقطة الفوتوغرافية. إن تعدد الأمكنة، تحديداً، يوحي بما يمكن أن نسميه “عولمة السرد”، لهذا كان من الطبيعي أن تحدث المقارنة بين العادات الشرقية والغربية في ما يخص حقوق المرأة وتحررها أو انعتاقها على حد تعبير مدير فرع الوكلة الإعلامية في القاهرة التي استغلت قدرات “ناني القرنفلي” في ما يشبه تسليع المرأة في سياق الحضارة الغربية والتي لا تقل ضراوة في قهرها عن المجتمعات الشرقية.

هذا ما أحست به “ناني” وحاولت التمرد عليه من دون جدوى، فقد بدأت، بإشرافهم، “بالتمرن على كل شيء”. فمدرب الصوت يعلمها كيفية تنغيم نبرة صوتها، والحديث بطرق مختلفة كما يتطلب الموقف، “فالفكرة التي تحتاج إلى تعاطف مختلفة عن تلك التي تحتاج إلى الحماسة، والأخبار السارة ليست كالحزينة”. وبالفعل تمكنوا أن يصنعوا منها “بلوغر”، وحققت ثراء لم تكن تحلم به، من خلال برنامج “الانعتاق” الذي يدعو المرأة الشرقية إلى التحرر من عوامل القهر! وهكذا، مع تسجيلها في قناة دولية، تبدأ في المتاجرة بالحديث عن “وأد البنات” في العالم العربي، وعندما تقول للمعد، إن هذا “الوأد” عادة جاهلية منقرضة، يقنعونها بأن الوأد المعنوي لا يقل بشاعة عن الوأد الجسدي.

الشرق والغرب

إننا أمام عملية “تنميط” لصورة المرأة العربية وتصديرها إلى الخارج ليس بغرض التحرر حقيقة بل بهدف الثراء السريع. هذه الصورة الذهنية للإنسان الشرقي حاول إدوارد سعيد تفكيكها وبيان زيفها، وهذا ما تقوله “فيفيان ماير” التي يرتبط “الشرق الأوسط” في مخيلتها بالأسطورة، “والنساء الجميلات والرجال الأقوياء والجواري والقصور وليالي ألف ليلة وليلة”. لكن هذه الصورة القديمة التي ترجع إلى العصور الوسطى تبدلت مع العصر الحديث، “وأصبح الشرق بالنسبة إليهم المتهالك والمضطرب والضعيف والمهزوم”. والحقيقة أن ثنائية الشرق والغرب أصبحت وهمية بعد ثورة الاتصالات وهيمنة العولمة، وأصبح ما يثار هناك يجد صداه هنا، بل إن فكرة الاختراق ومحاولات فرض قيم محددة تظل سمة أساسية في هذه العلاقة. وهذا ما تساءلت عنه “ناني”، في مونولوغ طويل، بقولها “هل هو، تقصد مدير فرع الوكالة الإعلامية، ممول من منظمات خارجية من صالحها تشويه صورة المرأة العربية أم إنه يريد طرح قضايا شائكة للفت الانتباه إليها لتحقق شهرة ونجومية أكثر؟”. وعلى رغم هذه المخاوف فقد ظلت مسلوبة الإرادة، تطرح ما يملى عليها، حتى وإن كانت موضوعات تتناقض مع قيم المجتمعات العربية مثل قضية “المساكنة” رغم أنها سبق أن نهت ابنتها عنها.

التلاعب بالمترادفات

ومن المهم ملاحظة أن صاحب هذا المحتوى يدعى “نيقولا”، وليس “مهاب المصري”، كما زعم، أقنعها أن “المساكنة” مصدرها السكن، وهو مرادف للسكينة، “والزواج ما هو إلا مودة وسكينة”! ويبقى السؤال: هل استطاعت هذه الوكالة وغيرها من المؤسسات المشابهة أن تنقذ المرأة العربية بل والغربية من العنف والتحرش والاغتصاب والقتل والانتحار، والإجابة: لا.

ذكرت أن “فيفيان ماير” تعد إحدى الشخصيات الرئيسة، والحقيقة أن البطولة تكاد تتوزع بالتساوي بينها وبين “سيف” وابنته “ناني” وطبيب التجميل “أمين”. فلكل شخصية حكايتها وأزمتها. وكانت أزمة “فيفيان” تكمن في تحويلها من فنانة مبدعة إلى جاسوسة لمصلحة أميركا في الشرق الأوسط، فباتت تشعر أن كل شيء أصبح غريباً عنها، حتى الكاميرا التي كانت شبيهة بتميمة تمنحها السلام أصبح حملها يمنحها الشعور بالاختناق. أما “ناني” فقد كان دفاعها الصادق في البداية عن حقوق المرأة ناتجاً من طلاقها رغم تفانيها في حب الزوج والابنة. و”روان” مثّل لها انفصال الأبوين جرحاً غائراً. وأخيراً يمكن القول إننا أمام شخصيات معذبة مقهورة تواجه مصائر مفروضة عليها.

نقلاً عن : اندبندنت عربية