يظل السؤال الأول والأهم في دوائر المال والأعمال ليس في أميركا والغرب فحسب بل في جميع أنحاء العالم هو “ماذا سيفعل ترمب بالاقتصاد الأميركي؟”، ذلك لأن سياساته بحسب وعوده الانتخابية وطريقة اختياره المرشحين للوظائف العليا في إدارته المقبلة وتصريحاته هو شخصياً منذ فوزه بالانتخابات الشهر الماضي، لا تحمل فحسب مؤشراً إلى “إعادة هيكلة” أكبر اقتصاد في العالم وما لذلك من تأثير في بقية الاقتصادات الكبرى والصغرى عالمياً، وإنما أيضاً لأنها مليئة بالمتناقضات والتفكير الاقتصادي التقليدي.

المعروف عن ترمب من خلال فترة رئاسته السابقة أنه لا يفكر ولا يتصرف على أساس المعايير التقليدية للسياسة الاقتصادية، ومع ذلك غالباً ما ينجح في الأقل نسبياً في ما يستهدفه، لكن اقتصاديين ومحللين يواصلون الحديث عما يمكن أن يحدث للسياسة الاقتصادية في الولايات المتحدة، لأنها تؤثر في العالم كله.

وتعليقاً على ذلك، كتبت الاقتصادية في صحيفة “فايننشال تايمز” غيليان تيت مقالاً أول من أمس الجمعة كشف حزمة التناقضات في سياسة ترمب الاقتصادية، متسائلة “كيف يعد بزيادة النمو وخفض التضخم وضبط الإنفاق الحكومي في وقت واحد”.

إلى ذلك، من خلال الأبحاث والمذكرات التي تصدرها المؤسسات والبنوك الاستثمارية لعملائها وتعليقات المحللين، يمكن الإشارة إلى سبعة تناقضات في سياسة ترمب الاقتصادية المقبلة وفقاً لتصريحاته وفريقه الاقتصادي المرشح لتولي مهامه الشهر المقبل.

تناقضات وتحديات

وتتركز تلك التناقضات حول القضايا الثلاث، النمو والتضخم والموازنة، ويمكن إجمالها في “التضخم وزيادة الرسوم والتعرفة الجمركية” و”خفض سعر الفائدة مع زيادة الضغوط التضخمية” و”قوة الدولار مع زيادة الرسوم على الواردات”، و”خفض العجز في الميزان التجاري مع ارتفاع قيمة الدولار” وخفض عجز الموازنة مع خفض الضرائب”، وأخيراً “زيادة معدلات النمو وتقليل العجز المالي في الموازنة”.

وأبلغ صندوق التحوط “بريدغ ووتر” عملاءه الأسبوع الماضي في مذكرة له أنه “من خلال تصريحات وترشيحات ترمب للمناصب حتى الآن، سيحاول إحداث تغيير كبير ويعيد تشكيل المؤسسات الأميركية والتجارة العالمية والسياسة الخارجية للولايات المتحدة بصورة جذرية”، قبل أن تستدرك “لكن هذا مجرد تخمين إذ تضعف الثقة في هذا البرنامج الآن”، وهكذا يدعو الصندوق زبائنه بصورة غير مباشرة إلى التحوط لما هو مقبل.

ليس هذا الصندوق الوحيد الذي يتخذ هذا الموقف فترمب مشهور بأنه “شخص يصعب توقع أفعاله”، بالتالي فحال عدم اليقين في شأن سياساته الاقتصادية تظل محل “عدم يقين”، فلا يعرف ما الذي سيتمكن من تنفيذه من بين وعوده، وبأية طريقة وكيف سيؤثر ذلك في الاقتصاد والأسواق.

مثال واحد على ذلك هو سياسة الترحيل ووقف الهجرة، وما يمكن أن تشكله من ضغط على سوق العمل من ثم أداء الاقتصاد الكلي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وخلال حملته الانتخابية، انتقد ترمب إدارة الرئيس جو بايدن باعتبارها مسؤولة عن ارتفاع الأسعار في أزمة وباء كورونا وما بعدها، ووعد آنذاك بالقضاء على التضخم في فترة رئاسته، لكنه أيضاً وعد بفرض رسوم جمركية على الصادرات الصينية بـ60 في المئة وعلى صادرات المكسيك وكندا بـ25 في المئة، وعلى بقية شركاء أميركا التجاريين بـ10 في المئة، ويمكن أن يهدد ذلك جهود وقف ارتفاع معدل التضخم، كما حذرت وزيرة الخزانة جانيت يلين الأسبوع الماضي.

وفي المقابل، رد مستشار ترمب، ستيفن مور على ذلك برفض احتمالات الأخطار وكتب في مدونته “عندما رفع ترمب التعرفة الجمركية في فترة رئاسته الأولى، لم يكن هناك تضخم”.

وفي الواقع الفعلي ارتفع معدل التضخم إلى 2.7 في المئة الأسبوع الماضي، أي أعلى من النسبة المستهدفة من قبل مجلس الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) عند اثنين في المئة، أيضاً هي نسبة أعلى مما كان عليه معدل التضخم عام 2016.

ومن جهته، يقدر “بنك غولدمان ساكس” أن فرض الرسوم والتعرفة الجمركية سيرفع معدل التضخم بمقدار نقطة مئوية (واحد في المئة) كاملة، حتى قبل حساب تأثير ترحيل المهاجرين في سوق العمل وكلفة العمالة.

الفائدة والدولار والعجز

وتأتي بعد ذلك مسألة سعر الفائدة. صحيح أن ترمب تعهد الأسبوع الماضي الإبقاء على جيروم باول في رئاسة “الفيدرالي” لكن ليس هناك ما يمنع أن يضغط عليه ليخفض سعر الفائدة أكثر، أيضاً من غير الواضح إلى أي مدى يمكن أن يصل الصدام مع تمسك باول باستقلالية “الفيدرالي”.

وعلى الجانب الآخر يرى فريق ترمب أن الدولار مغالى في تقدير قيمته، إذ قال المرشح لوزارة الخزانة في إدارة ترمب سكوت بيسنت خلال وقت سابق خلال كلمة له بمعهد مانهاتن إنه في الأعوام القليلة المقبلة سيكون هناك نوع من إعادة التنظيم العالمي، ربما شيء يشبه اتفاقات “بريتون وودز”.

وفي شأن ذلك، قال وزير المالية الياباني السابق تاكاتوشي إيتو إن “بعض المراقبين بمن فيهم أنا، نتوقع أن يدعو بيسنت إلى اجتماع خاص لمجموعة دول الـ20 كي يعيد إنتاج اتفاق “بلازا” لعام 1985″.

ومن شأن فرض الرسوم والتعرفة الجمركية أن يرفع سعر صرف الدولار أكثر وهو ما يتفق معه بيسنت مع ذلك، إذ قال “يؤدي ذلك إلى مزيد من الغموض في شأن العجز التجاري”.

الفكر الاقتصادي التقليدي

لكن فريق ترمب يرفض الفكر الاقتصادي التقليدي، إذ إن الدول تصدر منتجات لتحصل على الأموال التي تدفعها مقابل واردات، إذ يرون أنه لو تخصص كل بلد في مجال له فيه ميزة ستعم الفائدة على الجميع”.

كذلك، يريد ترمب وفريقه خفض العجز بواسطة نفوذ وهيمنة أميركا سياسياً وتجارياً، مع الحفاظ على تدفق الأموال إلى أميركا خلال الوقت ذاته، وربما يصعب تحقيق الهدفين معاً.

ثم إن ترمب هدد فعلياً الأسبوع الماضي دول تجمع “بريكس” البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا إذا فكرت في تحدي هيمنة الدولار باستخدام عملة مشتركة للتداول في ما بينها، صحيح أن تلك الدول لا تبدو عازمة على فعل ذلك إلا أن التهديدات يمكن أن تؤدي إلى نتائج عكسية.

وفي مدونة لمعهد “أميركا إنتربرايز” اليميني قال فيها “من غير المحتمل التخلي عن الدولار، إلا أن فرض السطوة الأميركية بالقوة وبصورة واسعة النطاق يمكن أن يؤدي إلى حدوث ذلك”.

وأخيراً، تعهد ترمب بخفض عجز الموازنة من 6.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي حالياً إلى ثلاثة في المئة، لكنه خلال الوقت ذاته يريد خفض الضرائب بشدة مما يعني زيادة العجز وليس خفضه.

إلا أن فريقه يرون أن فجوة العجز يمكن سدها بزيادة معدل النمو الاقتصادي وخفض الإنفاق الحكومي والعائدات من فرض الرسوم والتعرفة الجمركية.

على أية حال، يحتاج تحقيق تلك المتناقضات معاً خلال وقت واحد إلى ما يثبت أن القواعد والأعراف الاقتصادية التقليدية ليست صحيحة، وتراهن الأسواق على تصرفات ترمب التي تأتي عادة خارج كل ما هو مألوف، لكن يبقى الشك وعدم اليقين السمة الأساس لفترة حكم ترمب المقبلة.

نقلاً عن : اندبندنت عربية