تحول وجود مجاعة في السودان إلى سجال وجدل دبلوماسي لا يكاد ينتهي بين السلطات السودانية ومنظمات الأمم المتحدة، فعلى رغم التقارير والتأكيدات الأممية وإجماع المنظمات المتخصصة على انتشارها في البلاد بسبب الحرب، تصر الحكومة على الإنكار وتشكك في البيانات، مستدلة بإنتاج البلاد لكميات وفيرة من المحاصيل، بجانب وجود مخزون استراتيجي من الحبوب بخاصة الذرة الرفيعة والدخن، بوصفهما الغذاء الرئيس لمعظم أهل السودان، يكفي لتغطية حاجة كل السكان.

تقارير المجاعة

امتد السجال إلى داخل مجلس الأمن الدولي في أولى جلساته مطلع هذا العام في السادس من يناير (كانون الثاني) الجاري، إذ استعرض المجلس تقارير أممية أكدت انتشار المجاعة في السودان، من خلال إحاطتين من كل من مديرة المناصرة والعمليات بمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية “أوتشا” إيديم ووسورنو، ونائبة المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة “فاو” بيث بيكدول، على خلفية تقرير نظام التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي الأخير.

وتوقع التقرير المرحلي تمدد رقعة المجاعة هذا العام لتشمل خمس مناطق جديدة في شمال دارفور بحلول مايو (أيار) 2025، كما حدد 17 منطقة أخرى في أنحاء السودان المختلفة معرضة لخطر المجاعة، في ما اعتبرته تفاقماً وانتشاراً لم يحدثا من قبل لأزمة الغذاء والتغذية، نتيجة الصراع المدمر وضعف وصول المساعدات الإنسانية.

واحتجاجاً على التقرير علقت الحكومة السودانية مشاركتها في النظام المرحلي، واتهمته بعدم الموثوقية وتقويض سيادة وكرامة البلاد.

مفارقة واصطناع

من جانبه نفى مندوب السودان لدى الأمم المتحدة الحارث إدريس بصورة قاطعة وجود مجاعة بالبلاد، معتبراً أن السودان يعاني تجويعاً مصطنعاً، وأن إعلان المجاعة فيه يمثل مفارقة تاريخية، مشيراً إلى أن تقرير التصنيف المرحلي الذي بنيت عليه الإحاطة تشوبه عدد من العيوب المنهجية.

ولفت الحارث إلى وجود اشتراطات ومعايير فنية دولية معتمدة لإعلان مجاعة في أية دولة أو منطقة، تتمثل في إجراء مسوحات فنية شاملة لتحديد الحالة الغذائية بناء على مؤشرات التصنيف المرحلي، وفق نظام يبدأ من القاعدة إلى القمة وينطلق من مستوى القرى والوحدات الإدارية صعوداً إلى المحليات والولايات حتى المستوى القومي.

تشكيك واستغراب

وشكك وزير الزراعة السوداني أبو بكر محمد البشرى في دقة بيانات الأمم المتحدة التي تشير إلى معاناة 755 ألف شخص من الجوع الكارثي، مؤكداً أن بلاده تملك مخزوناً استراتيجياً يقدر بنحو 3 ملايين طن من الحبوب الأساسية، ولا يتوقع أن تتفاقم معه أزمة الجوع بالبلاد.

 

 

واستغرب البشرى حديث التقارير الأممية عن مجاعة في بلاده، في وقت وصل فيه إنتاج البلاد إلى 3.3 مليون طن من الذرة الرفيعة و687 ألف طن من الدخن، وهما المحصولان الأساسيان، وفق تقارير صادرة أيضاً عن منظمات دولية بمشاركة السلطات الوطنية، مشيراً إلى أن هناك مشكلات في توصيل الغذاء حتى لمعسكرات النزوح في دارفور بسبب مشكلات لوجستية وصعوبة الطرق، لكن المساعي مستمرة لإيصاله إلى المتأثرين بالحرب في كل من كردفان ودارفور.

أسوأ المستويات

أمام جلسة مجلس الأمن حذر كل من مكتب “أوتشا” ومنظمة “فاو” من أن السودان لا يزال في قبضة أزمة إنسانية ذات أبعاد مذهلة، وتدهور وضع الأمن الغذائي فيه إلى أسوأ مستوياته في تاريخ البلاد.

وقالت ووسورنو إن “السودان هو المكان الوحيد في العالم الذي تم تأكيد المجاعة فيه حالياً”، معتبرة أن الأزمة في هذا البلد نتيجة لقرارات بشرية تتخذ كل يوم لمواصلة الحرب بغض النظر عن الكلفة على المدنيين.

وطالبت المنظمتان المجلس بالضغط على طرفي الصراع للامتثال للقانون الإنساني الدولي، والالتزام بتلبية الاحتياجات الأساسية للمدنيين، واتخاذ خطوات حقيقية وشاملة نحو السلام الدائم الذي يحتاج إليه شعب السودان بشدة.

وحض المكتب أعضاء المجلس باستخدام نفوذهم لضمان فتح الطرق البرية والجوية ورفع العوائق البيروقراطية كافة، وحماية العاملين في المجال الإنساني وأصولهم.

ويعتبر متخصصون أن الاعتراف والإقرار الرسمي بحدوث مجاعة يمثل أحد شروط التحرك المكثف للمجتمع الدولي وحشد قدراته لتقديم الإغاثة، ويمكن إعلان المجاعة إذا تعرض ما لا يقل عن 20 في المئة من سكان منطقة ما لظروف جوع كارثية وإذا عانى الأطفال سوء التغذية ووقعت وفيات بسبب الجوع.

السيادة والإنسانية

في السياق انتقد المتخصص في العمل الإنساني صلاح الأمين تعامل الحكومة مع القضية من زاوية السيادة السياسية فقط، من دون أدنى اعتبار للبعد الإنساني وتجاهل وجود مجاعة في حقيقية بالبلاد، مذكراً بالوضع المشابه الذي حدث في البلاد خلال عام 1983 عندما رفض نظام الرئيس السابق جعفر نميري وقتها أي حديث عن المجاعة وأصر على تسميتها بـ”الفجوة الغذائية”، لكن الضغوط الدولية التي مارستها المنظمات اضطرته في النهاية إلى إعلان المجاعة.

وتابع الأمين “الحكومة ترى أنها هي التي يفترض أن تحدد ما إذا كانت هناك مجاعة أم لا وليس من حق أي جهة غيرها أن تفعل ذلك، وتعتبر المجاعة شأناً سيادياً لأن في إعلانها دخول عدد كبير من المنظمات الإنسانية على أساس تقديم المساعدات للناس”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأكد المتخصص في الأعمال الإنسانية أن التقرير المرحلي المتكامل يعده خبراء على مستوى عال من الخبرة الطويلة في هذا المجال بعدد من مناطق النزاعات والكوارث في العالم، لافتاً إلى أن عدم اعتراف الحكومة بالتقرير لا يعني عدم وجود المشكلة إذا تم التعامل معها من الناحية الإنسانية، فضلاً عن أن التقرير قدم نصائح وتوصيات تؤكد أهمية الدخول في مفاوضات فورية لوقف إطلاق النار وحماية المدنيين وتحديد الأولويات في نوعية المساعدات من الأغذية والأدوية وحماية قوافل الإغاثة.

في شأن خروج الحكومة من التصنيف المرحلي للأمن الغذائي أوضح الأمين، أن هذه الخطوة تعني تقويض الجهود الرامية لمعالجة أزمة الجوع في السودان؟

تباطؤ الجيش

على نحو متصل أشار الخبير الاقتصادي عبدالعظيم المهل إلى أن كل المناطق التي يسيطر عليها الجيش لا توجد بها مجاعة وتسير فيها الحياة بصورة شبه طبيعية، أما المناطق التي تسيطر عليها الميليشيات فهي التي تعاني نقصاً حاداً في الغذاء بسبب نهبها غذاء السكان، ومنعهم الزراعة والرعي ونهب وسائل إنتاجهم في ولاية الجزيرة وغيرها، معتبراً أن مشكلة المجاعة في السودان ناتجة من تباطؤ الجيش في تحرير ولاية الجزيرة التي تعتبر سلة غذاء السودان.

وأوضح المهل أن هناك مناطق مثل إقليم النيل الأزرق وولايات القضارف ونهر النيل والشمالية حققت إنتاجية عالية هذا العام ويتوفر الطعام، إذ زرعت ولاية القضارف مساحات واسعة بمحصول السمسم ثم زراعة الأرض نفسها للمرة الثانية بمحاصيل أخرى متنوعة.

السلة الجائعة

بعيداً من جدل توصيف المجاعة طالب الناشط المجتمعي الإنساني عبدالرؤوف عثمان السلطات السودانية بعدم إخفاء الحقائق حول المعاناة المتناهية للسودانيين في كثير من أقاليم البلاد، سواء النازحون منهم والعالقون وسط المعارك.

ولفت عثمان إلى أن الأمر وصل إلى درجة أكل الناس أوراق الأشجار وعلف الحيوانات، بجانب وقوع عدد من الوفيات بسبب الجوع ونقص الغذاء في ولايات دارفور وجنوب كردفان.

وتابع “ليس هناك دليل أكثر من دهم شبح المجاعة للبلاد من تحول ولاية الجزيرة التي كانت سلة غذاء البلاد إلى بقعة مهجورة وجائعة”، متسائلاً “إلى متى تنتظر الحكومة وكارثة الجوع تتفاقم بصورة حادة ويومية؟”.

وشدد الناشط السوداني على ضرورة التحرك العاجل لإنقاذ ملايين من العالقين وسط المعارك حتى داخل أحياء العاصمة الخرطوم، الذين يكابد معظمهم جوعاً حقيقياً مع تفشي أمراض سوء التغذية، ولو لا وجود “التكايا” والمطابخ الخيرية لقضت أسر كاملة بالجوع.

الغذاء المكلف

بدوره استبعد متخصص الاقتصاد محمد الناير أن يكون السودان يعاني مشكلة مجاعة بحكم الموارد الطبيعية الهائلة والمتنوعة على رأسها مساحات صالحة للزراعة تقدر بأكثر من 80 مليون هكتار (800 ألف كيلومتر مربع) مستغل منها نحو 25 في المئة فقط، إذ يمكن تعويض تعطل الزراعة بمناطق النزاعات في المساحات الأخرى غير المستغلة بالمناطق الآمنة، فضلاً عن ثرائه بالثروة الحيوانية وتنوع المحاصيل ومصادر المياه.

 

 

وأوضح الناير أنه وعلى العكس مما ذكرته التقارير غير الدقيقة، ما يزال هناك إنتاج وفير من الغذاء بالسودان على رغم الحرب، لأن إمكانات السودان الزراعية لا يتوقع معها أن تعلن البلاد المجاعة لأنها غير موجودة أصلاً على أرض الواقع.

ويعتبر المتخصص الاقتصادي أن التقارير الأممية في شأن المجاعة بالسودان تفتقر إلى الدقة والشفافية والمهنية وذات طبيعة وأهداف سياسية، ولم يكن متوافقاً عليها مع السلطات الوطنية المعنية وفق ما هو متعارف عليه دولياً.

وأضاف “بافتراض أن هناك مشكلة نقص في الغذاء بالسودان فإن المشكلة هي في ارتفاع تكاليف الغذاء بسبب التضخم وتآكل قيمة العملة المحلية التي تجعل عدداً كبيراً من الأسر لا تستطيع الحصول على الغذاء اللازم، لكن الدولة لا تعاني النقص الشامل في الغذاء، وهو توصيف غير محايد أو دقيق”.

موارد واحتياجات

لمواجهة خطة الاستجابة للاحتياجات الإنسانية في السودان لعام 2025 طالب مكتب “أوتشا” بتعبئة غير مسبوقة للدعم الدولي تتطلب توفير مبلغ قياسي قدره 4.2 مليار دولار لدعم ما يقرب من 21 مليون شخص داخل السودان، بجانب الحاجة إلى 1.8 مليار دولار إضافية لدعم 5 ملايين شخص، معظمهم من اللاجئين في سبع دول مجاورة.

ويمتلك السودان بحسب تقارير اقتصادية رسمية نحو 80 مليون هكتار (800 ألف كيلومتر مربع) من الأراضي الصالحة للزراعة، تعادل 40 في المئة من المساحات الزراعية في كل الدول العربية، ويعتبر من أغنى الدول العربية والأفريقية بثروته الحيوانية المقدرة بنحو 110 ملايين رأس من حيوانات الغذاء (الأبقار والأغنام والماعز والإبل)، فضلاً عن 45 مليوناً من الدواجن، وثروة سمكية تقدر بنحو 100 مليون طن.

وتشير تقارير أممية متواترة فإن أكثر من 25 مليوناً من السودانيين بمختلف أنحاء البلاد يواجهون مستويات حادة من الجوع، منهم أكثر من 5 ملايين على بعد خطوة واحدة من المجاعة، بخاصة في دارفور التي تعاني نقصاً مخيفاً في الغذاء والدواء منذ بدء الصراع.

وتخطى عدد النازحين داخلياً بسبب الحرب المندلعة بين الجيش والسوداني وقوات “الدعم السريع” منذ منتصف أبريل (نيسان) 2023 عتبة 11.5 مليون شخص، بينما فر أكثر من 3.2 مليون آخرين كلاجئين إلى دول الجوار وفق التقارير نفسها.

نقلاً عن : اندبندنت عربية