في غضون 30 عاماً فقط شهدت روسيا هجرتين هائلتين، هجرة إليها، ثم هجرة منها، فمع سقوط المطرقة والمنجل في أواخر عام 1991 انفتحت في روسيا سوق تجارية محمومة تتسع لنطاق هائل من الأعمال ومن البنوك الكبرى وحتى مصانع الجعة الصغيرة، فنشأت قطاعات اقتصادية من العدم، وشارك الغرب في ذلك النشاط الاقتصادي بهجرة هائلة من شركاته ومغامريه، ثم “انتهى ذلك كله وبقسوة تفوق قسوة بدايته، فلم يحدث لسوق أخرى بهذا الحجم أن افتتحت ثم أغلقت في غضون جيل واحد”، بحسب ما يكتب تشارلز هيكر في كتابه الجديد ذي العنوان الدال “المحصلة صفر”.

حدثت تلك النهاية عام 2022 حينما شن فلاديمير بوتين هجومه على أوكرانيا، فبدأت السوق الروسية بالانهيار وتسابقت الشركات الغربية على الهرب من ناطحات السحاب الروسية. لكن في ما بين الهجرتين تحققت ثروات طائلة ونجاحات استثنائية وإخفاقات مشهودة بالقدر نفسه. فكيف حدث ذلك كله؟

يرسم كتاب “المحصلة صفر” الصادر حديثاً صورة حية لهذا المشهد المعقد وهذه العقود الثلاثة الاستثنائية في تاريخ الاقتصاد الروسي والدولي، محاولاً أن يتبين الدروس التي تعلمها الاقتصاد أو أخفق في تعلمها من تلك المغامرة الكبيرة سواء في ما يتعلق بروسيا أو في ما يتعلق بالديناميكيات القائمة بين الشركات والبلاد في مواجهة التغيرات المستمرة.

المؤلف تشارلز هيكر قضى 40 عاماً يسافر ويعمل في الاتحاد السوفياتي وروسيا، متنقلاً بين مجالات عمل مختلفة، ففي شطر كبير من حياته عمل صحافياً، وفي شطر آخر كان شريكاً بصورة ما لرجال الأعمال والمغامرين في مساعيهم لاقتناص ما يستطيعون اقتناصه من كعكة روسيا الهائلة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

توجز ماريا ليبمان الكتاب في “فورين أفيرز (مارس- آذار الجاري) فتكتب أن “هيكر يحاور عشرات رجال الأعمال والمصرفيين والممولين الغربيين الذين جنوا أرباحاً هائلة من السوق الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، إذ فتح البلد أبوابه فجأة للأجانب بعد عقود من التخطيط الحكومي والاكتفاء الذاتي الاقتصادي”. ويتذكر هؤلاء أن الأعوام الأولى كانت فترة جموح، فكانت للأعمال التجارية حصيلتها من القتلى وكان العنف رخيصاً وروتينياً وأقرب إلى الأمر العارض، ثم استقرت روسيا في ظل حكم الرئيس فلاديمير بوتين خلال السنوات الأولى من هذا القرن وسنحت فيها فرص لا مثيل لها لمن تعلموا كيف يبحرون في بيئتها الغائمة، وعلى رغم أن بعض الغربيين الذين دخلوا في أعمال تجارية مربحة في روسيا أعربوا عن قلقهم من براعة بوتين الطاغية في الإشراف على إعادة التوزيع التعسفي للممتلكات والتوطيد السريع لملكية الدولة، فقد فاق الانتهازيون المتخوفين عدداً وكثرة، ثم جاء الإغلاق الفجائي للسوق الروسية في أعقاب الهجوم الكامل على أوكرانيا عام 2022 وما أعقبه من فرض عقوبات شاملة اضطرت معظم الغربيين إلى الفرار، بائعين شركاتهم بأقل من قيمتها الحقيقية. وفي حين يعرب بعض هؤلاء عن أسفهم لـ”غضهم الطرف” عن الفساد المستشري وغياب القانون، يعترف آخرون بأن إثراءهم في روسيا كان محكوماً عليه دائماً بأن يكون قصير الأجل”.

ولعل هذا العرض على إيجازه يمثل سياقاً لقراءة مقالات أخرى تناولت الكتاب على مدى الأسابيع الماضية في كثير من المنابر الغربية المهمة، ففي استعراضه (“نيويورك تايمز”، الرابع من مارس الجاري) يقرأ ديفيد كورتوفا الكتاب في ضوء اندفاع إدارة ترمب إلى تجديد العلاقات التجارية مع روسيا، مبرزاً دور الشركات الغربية في دعم الاتجاهات المنافية لليبرالية في روسيا.

 

ويكتب كورتوفا أنه قد لا يلخص شيء حجم التفاؤل الذي صاحب آخر أيام الاتحاد السوفياتي مثلما يلخصه افتتاح مطعم “ماكدونالدز” في موسكو في يناير (كانون الثاني) عام 1990، إذ “تقدم عشرات آلاف الروس بطلبات للعمل في المطعم واصطف عشرات الآلاف غيرهم بالساعات في طوابير لتذوق شطيرة ’بيغ ماك‘ الأولى في حياتهم. وكانت الشركة وضعت شعارها الشهير أعلى مبنى مجاور فجاء موقعه فوق نموذج أصغر كثيراً لشعار الإمبراطورية المحتضرة أي المطرقة والمنجل. وكنت في الرابعة من العمر حينما صادفت الثقافة الأميركية للمرة الأولى شأن كثيرين من أطفال موسكو في وجبة ’هابي ميل‘”.

وفي استعراضه للكتاب (فايننشيال تايمز، 30 نوفمبر- تشرين الثاني عام 2024) يكتب أندرو كاولي أن لحظة افتتاح مطعم “ماكدونالدز” في موسكو ونجاحه الاستثنائي أسهما في ظهور نظريات كبرى، فمن ذلك أن “توماس فريدمان كتب في نيويورك تايمز عام 1996 أنه ’لم يحدث لبلدين فيهما مطاعم ماكدونالدز أن خاض أحدهما حرباً ضد الآخر‘، ثم بعد 25 عاماً من ذلك كان في روسيا 850 فرعاً لماكدونالدز وفي أوكرانيا 109، ولم تمنع كل تلك الفروع نشوب أدمى حرب في أوروبا منذ عام 1945”.

ويضيف كاولي أن “على رغم فقدان نظرية فريدمان أي صدقية لها مثلما نرى الآن، فقد قامت على أسس فكرية جادة ترجع حتى كتاب ’السلام الدائم: صورة فلسفية‘ لإيمانويل كانط الصادر عام 1785 الذي ذهب إلى أن أي بلد فيه طبقة وسطى ضخمة ناشئة من خلال مشاريع خاصة ناجحة ستسعى إلى الاستقرار لا الحرب. وظلت هذه الأفكار طوال ثلاثة عقود أساساً للسياسة الغربية تجاه الاتحاد السوفياتي السابق، مثلما ظلت لفترة أطول في حالة ألمانيا التي سعت إلى التغيير من خلال التجارة”، إذ كان التفكير السائد في الغرب هو “أننا إذا استطعنا أن نعينهم على بناء طبقة وسطى مزدهرة، فمن المؤكد أن الحال ستنتهي بهم وأصبحوا مثلنا تماماً فلا يعودون للحروب، ساخنة كانت أو باردة”.

غير أن لا شيء يبقى على حاله مثلما يكتب كورتوفا، “فلا يزال مطعم ماكدونالدز يقدم البطاطا المقلية والحليب المخفوق في ميدان بوشكين، لكنه اعتباراً من منتصف عام 2022 بات خاضعاً لملكية محلية وبات اسمه الجديد هو Vkusno i Tochka أي ’لذيذ فحسب‘”.

ويضيف كورتوفا أن “جميع الشركات الغربية لم ترحل عن روسيا بعد شروع بوتين في هجومه الكامل على أوكرانيا، لكن العقوبات وما ينجم عن البقاء من كلفة مدفوعة من السمعة كانا حافزين للخروج. وفي كتاب ’المحصلة صفر‘ يؤرخ تشارلز هيكر لهذه الفترة منذ لحظات سعار الاستثمار الذي انتاب الشركات في غمرة الانهيار السوفياتي وحتى التسابق على حجز تذاكر درجة رجال الأعمال للخروج من موسكو أثناء ضغط بوتين على كييف”.

وعلى رغم ذكاء الكتاب وحيويته فإنه في رأي كورتوفا يصطبغ أيضاً بابتسامة قاتمة لشخص يعرف بدقة كيف يعمل الاقتصاد الروسي “فقد شهد هيكر من قرب غالبية الملحمة التي استغرقت ثلاثة عقود بوصفه صحافياً في صحيفة ’ذا موسكو تايمز‘ ثم بوصفه استشاري أخطار جيوسياسية يقدم نصائحه إلى الاستثمار الأميركي والأوروبي في روسيا. وكان هيكر انتقل من ميامي إلى موسكو في أواسط التسعينيات إثر ما وصفته مجلة ’هارفارد بيزنس رفيو‘ بـ’ثورة السوق الليبرالية‘، إذ اشتمت آلاف الشركات الدولية الفرصة فتدافعت إلى روسيا في غضون أعوام قليلة مع خروج القطاع الروسي الخاص من ظلال الشيوعية التي دامت طويلاً”. ويكتب هيكر أن “ملايين الروبيلات المدسوسة تحت حشايا الشعب الروسي كانت بانتظار تحريرها، متلهفة إلى إنفاقها على الغسالات الألمانية وعبوات الشامبو الفرنسية”.

ويضيف كورتوفا أن “الروس كانوا مستعدين للتسوق. وظهرت مجلة الموضة النسائية ’كوزموبوليتان‘ عند باعة الصحف في موسكو عام 1994 وسرعان ما بلغ توزيعها أكثر من مليون نسخة، وفاق الطلب على العقارات ما كان متاحاً منها لدرجة أن سعر المتر المربع من المساحات المكتبية في موسكو تجاوز سعره في نيويورك لفترة من الوقت، وشهدت الصناعات المحلية في روسيا تدفق مليارات الدولارات من الشركات الدولية. وعام 2014 الذي ضمت خلاله روسيا شبه جزيرة القرم وبعد عامين من انضمام روسيا إلى منظمة التجارة العالمية بلغت قيمة الصادرات الروسية نحو 600 مليار دولار، أي ستة أمثال ما كانت عليه عندما تولى بوتين السلطة عام 1999”.

 

ويردف أن “الروس تكيفوا مع حياتهم الاستهلاكية الجديدة وتكيفت الشركات الغربية مع خصائص بيئة العمل الروسية. وعلى رغم مقاومة بعضهم تقبلت شركات أجنبية عدة أن الدخول في ’الممارسات الرمادية‘ من تعاملات نقدية غير رسمية ورشى للمسؤولين الحكوميين ومشاركة قسرية في عمليات الحماية هي جزء من كلف العمل التجاري في روسيا، فكان دأب بعض الأجانب أن يسافروا حاملين حقائب النقود السائلة لإجراء مدفوعات ’صعبة من وجهة النظر المحاسبية‘ بحسب ما قال أحد المديرين التنفيذيين الألمان لهيكر. ومع ذلك، استمر الغربيون في التوافد وضخ مليارات الدولارات في البلد. ويقول أحد زملاء هيكر في مجال الاستشارات الاستخباراتية التجارية إن ’الخوف من إضاعة الفرص كان بالغ القوة‘. وفي الوقت نفسه، مضى بوتين يعزز سلطته، مستأصلاً المعارضة السياسية ومحولاً البلد إلى إقطاعية شخصية”.

ويتابع أن “هيلر يكشف في ’المحصلة صفر‘ عن تفكير الأجانب القاسي الذين جنوا أرباحهم وغضوا الطرف عن الوضع السياسي المتدهور في روسيا. فحتى بعد اجتياح القوات الروسية لجورجيا عام 2008 واستيلائها على شبه جزيرة القرم عام 2014 أسهموا بأموال الضرائب التي دفعتها شركاتهم في صندوق الحرب الذي أنشأه الكرملين. ويقول المسؤول التنفيذي الألماني لهيكر إن رسالة المقر الرئيس له قالت ’إننا لا يعجبنا ما تفعله روسيا، لكن التجارة تمضي على ما يرام، فلنعظمها‘، فقد كان العقد الاجتماعي غير المعلن بين الدولة الروسية ومجتمع الأعمال الدولي يتلخص، على حد تعبير هيكر، في ’حققوا الثراء ولا تسمعونا أي شكوى‘”.

واستمر المثاليون على مدى ثلاثة عقود يفترضون أن “روسيا ستتطور بطريقة أو بأخرى إلى بلد ديمقراطي ليبرالي مع توافر ما يكفي من الوقت والمال والتشجيع وكان هيكر ينصح كثيراً منهم ولا يدعهم يفلتون، لكنه يكتب أن ما بدأ بوصفه تفكيراً مثالياً سرعان ما تحول إلى خداع للذات، ’فقد كنا جميعاً متواطئين‘، بحسب ما يقول أحد المديرين التنفيذيين الأميركيين لهيكر ’إذ واصلنا أعمالنا، واضعين أفضل العطور الفرنسية على كومة من السماد‘”.

وينقل أندرو كاولي عن هيكر قوله إنه “على السطح بدأت ممارسات الأعمال في روسيا تشبه الممارسات الغربية، لكن الأمر ظل على هذا النحو، مجرد تشابه. أما في الجوهر، فظل النظام السوفياتي متجذراً بعمق في الاقتصاد الروسي المختل، إذ بقيت سيادة القانون بالنسبة إلى معظم رجال الأعمال الروس تعني كل شيء يمكنهم فعله من دون أن يطاولهم قانون وظلوا يرون أن مشكلة بلدهم ليست في فساد النظام، وإنما في أن الفساد هو النظام، وفي حين اعتقد الغربيون بأن وصول بوتين إلى السلطة يعني التوصل إلى اتفاق يسمح للـ’أوليغارشيين‘ الروس بالاحتفاظ بأعمالهم التجارية إذا بقوا خارج السياسة، أدرك أبناء البلد أن شيئاً أعمق يجري، فـ’أعاد بوتين العمل للطريقة التي كان عليها دائماً، إذ تمتلك الدولة كل شيء وتقرر بين الحين والآخر من يحق له الحصول على بعض التدفقات النقدية ومن يستطيع إدارة الشركة، فيحصل على التدفقات النقدية، إلى أن نقرر أنه كفاه ما حصل عليه‘”.

 

ويكتب كورتوفا أنه في العام الحالي “مع تحرك إدارة ترمب الجديدة إلى إنهاء الحرب في أوكرانيا، أصر بوتين على أن الوقت مناسب تماماً لعودة الشركات الدولية، لكن حتى الصحف المؤيدة للكرملين من قبيل صحيفة ’إزفستيا‘ الموالية للدولة لا تتوقع إعادة افتتاح ’ماكدونالدز‘ عما قريب. فكثير من الشركات الأميركية مترددة في العودة للسوق الروسية ولو أن اعتباراتها ليست أخلاقية طوال الوقت. فالأنظمة الأوتوقراطية التي تستولي على الشركات لأسباب سياسية أو لنزوة أو لمواءمة مهما تكن، أماكن يصعب تحقيق الربح فيها، فضلاً عن أن روسيا تعاني ارتفاع أسعار الفائدة ونقص العمالة وتضاؤل قاعدة المستهلكين وقال أحد خبراء الاقتصاد أخيراً لـ’نيويورك تايمز‘ إن ’أكبر مشكلة في روسيا هي أنه لا يوجد فيها مال يمكن كسبه‘”.

ويستدرك “لكن حتى بعد الهجوم على أوكرانيا استمرت مئات الشركات الغربية في ممارسة بعض أنواع الأعمال التجارية في روسيا. وفي المجمل دفعت هذه الشركات نحو 16 مليار دولار من الضرائب لروسيا خلال أعوام الحرب الثلاثة، مما يكفي لشراء عشرات آلاف الصواريخ بعيدة المدى. والعقوبات الدولية لا تنطبق على موردي المواد الغذائية مثل شركة ’مونديليز‘ في شيكاغو التي صرح رئيسها التنفيذي إلى صحيفة ’فايننشيال تايمز‘ بأن المساهمين ’لا يهتمون أخلاقياً‘ بما إذا كانت الشركة تعمل في روسيا. ويشير هيكر إلى أن شركتي ’ستاربكس‘ و’كوكا كولا‘ تقدمتا في يونيو (حزيران) عام 2024 بطلب لإعادة تسجيل علامتيهما التجاريتين في البلد. فبالنسبة إلى كثير من الشركات الأجنبية لا يشكل عار تمويل نظام شمولي توسعي رادعاً كافياً، فالعقوبات تظل الخط الأحمر الحقيقي الوحيد. ويكتب هيكر أنه ’قبل مرور عام على الحرب بدأت الشركات تسأل متى يمكنها العودة‘”.

وأخيراً، يكتب كورتوفا أنه في منتصف فبراير الماضي، أي بعد نشر الكتاب، التقى مسؤولون أميركيون وروس في السعودية لمناقشة حرب أوكرانيا. وكان وزير الخارجية ماركو روبيو حاضراً، فقال إنه يتطلع إلى تطبيع العلاقات مع موسكو وإبرام “بعض الشراكات الاقتصادية الفريدة التي تكون تاريخية ربما”.

العنوان: Zero Sum: The Arc of International Business in Russia

تأليف: Charles Hecker

الناشر: Hurst

نقلاً عن : اندبندنت عربية