يراهن المغرب لتحقيق التأطير الديني والاجتماعي لجالياته المقيمة في دول أوروبا على المساجد التي يشيدها ويقدم للجمعيات المسيرة لها دعماً مالياً، من خلال إشراف ورعاية وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، ومؤسسات رسمية تعنى بقضايا الجاليات في الخارج.
وتحرص الحكومة المغربية على العناية بتدبير شؤون هذه المساجد المعترف بها قانونياً من سطات البلدان الأوروبية، بغية تحقيق أهداف عدة، أبرزها محاربة التطرف الديني وسط أفراد الجاليات، فضلاً عن حماية هويتهم الدينية وتعزيز “الإسلام المعتدل”، والعمل على سهولة اندماجهم في المجتمعات الأوروبية المحتضنة.
خريطة المساجد
ويحتضن عدد من الدول الأوروبية مئات المساجد التي تعود ملكيتها لبلدان إسلامية، أو أنها شيدت من طرف الجاليات العربية والمسلمة من أجل إقامة العبادات فيها، وتعلم اللغة العربية والشعائر الدينية المختلفة.
وعلى رغم عدم وجود إحصاءات رسمية مثبتة، فإن عدداً من المعطيات تشير إلى أن إسبانيا على سبيل المثال تضم أكثر من 1500 مسجد، وبريطانيا تأوي أزيد من 1700 مسجد، وألمانيا نحو 2700 مسجد، بينما فرنسا تضم 2450 مسجداً.
وضمن آلاف المساجد ومراكز العبادات الإسلامية هذه، تنتصب مساجد مغربية في دول أوروبية، تكون إما قد شيدت بصورة رسمية من طرف المغرب، أو أنها شيدت من لدن الجالية المغربية نفسها بترخيص من سلطات تلك البلدان، أو أن المغرب يساهم، عبر وزارة الأوقاف، بتمويل الجمعيات والمراكز المسيرة لهذه المساجد.
وفي أرقام رسيمة جديدة، كشف عنها وزير الأوقاف المغربي أحمد التوفيق قبل أيام في البرلمان، خصص المغرب مبلغاً مالياً عام 2024 يناهز 9 ملايين و700 ألف دولار من أجل دعم الجمعيات المهتمة بالتأطير الديني للجاليات المغربية في أوروبا، ومن بينها المساجد المغربية هناك، و12 مليون و600 ألف دولار نفقات على برامج التأطير الديني والتوجيه الروحي لأفراد الجالية المغربية، بغاية “صون الهوية الدينية والثقافية للجالية المغربية وحمايتها من الأفكار المتطرفة” وفق تعبير الوزير نفسه.
تمويلات رسمية
تأوي فرنسا عدداً من المساجد المغربية، غير أن أشهرها على الإطلاق هو المسجد الكبير لباريس، الذي تندلع في شأنه أحياناً صراعات ذات خلفيات سياسية بين المغرب والجزائر بخصوص تسيير شؤونه الإدارية.
وفي فرنسا يبرز أيضاً المسجد الكبير بستراسبورغ بعمارته المغربية الأصيلة، الذي نال أخيراً علامة “العمارة المعاصرة الاستثنائية”، الذي أسهم المغرب في بنائه وتمويله بما يربو على 4.2 مليون دولار.
ويعد المسجد الكبير بستراسبورغ الأكبر في فرنسا من حيث المساحة الخاصة بالصلاة بـ1048 متراً مربعاً تتسع لأكثر من 1500 مصل.
وفي فرنسا أيضاً يوجد المسجد المغربي بمدينة سانت إتيان الذي شيد من طرف الحكومة المغربية، وأطلق عليه اسم “المسجد الأعظم محمد السادس”، وأسهمت وزارة الأوقاف في بنائه بمبلغ يناهز 4.5 مليون دولار.
وفي إسبانيا تفيد أرقام رسمية تعود لعام 2017 بأن الحكومة المغربية أفردت 1.4 مليون يورو (1.47 مليون دولار) عام 2017 لسداد نفقات عدد من المساجد التي تعود ملكيتها أو تسييرها إلى المغرب.
وتوجد في بلجيكا مساجد مغربية في كثير من المدن، لكن أشهرها هو المسجد الكبير الذي يقع في الحي الأوروبي وسط بروكسل، الذي يعد العصب الحيوي للوجود الديني للمغاربة المقيمين في هذا البلد.
وفي ألمانيا أيضاً ينتصب مسجد أبو بكر الصديق بصورته المغربية التقليدية وسط مدينة فرانكفورت، ومسجد الرحمان بعمارته المغربية الفريدة بمدينة دوسلدورف.
خدمات المساجد المغربية بأوروبا
هذه المساجد المغربية في الدول الأوروبية، يقول المحجوب بنسعيد وهو باحث في علوم الاتصال والحوار الحضاري، إنها “تقدم خدمات عديدة لفائدة الجاليات المسلمة سواء المغربية وغيرها، تستند إلى الرؤية المغربية للشأن الديني القائمة على الاعتدال والوسطية والابتعاد من الطائفية والتطرف والغلو”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفق بنسعيد، تعمل هذه المساجد المغربية في أوروبا على تعزيز التواصل مع الثقافات المحلية وأتباع الأديان الأخرى، كما أنها فضاءات لتعليم اللغة العربية والثقافة الإسلامية لأبناء الجاليات، وتنظيم دروس الوعظ والإرشاد، وأنشطة اجتماعية وثقافية ودينية خلال شهر رمضان.
ولفت المتحدث ذاته إلى أن المساجد المغربية تتميز في كونها معترفاً بها رسمياً من سلطات الدول الأوروبية، وتمارس أنشطتها بعلانية وفق نظام مضبوط يحترم القوانين المحلية، مما يجعل منها أماكن رسمية للعبادة والتعليم والتضامن الاجتماعي.
وخلص الباحث عينه إلى أن هذه المساجد تحظى برعاية ودعم من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، والمؤسسات الحكومية المعنية بقضايا الجاليات المغربية المقيمة في الخارج.
مواجهة الفكر المتشدد
ويعمل المغرب جاهداً على أن يكون الاعتناء بشؤون مساجده في الدول الأوروبية طريقة لمواجهة احتمالات تسرب الفكر المتطرف إلى عقول أفراد الجاليات المغربية المقيمة هناك، خصوصاً الأجيال الشابة التي قد تتأثر بالأفكار المتشددة.
ولم يخف وزير الأوقاف المغربي أكثر من مرة في مداخلاته بالبرلمان، أن التفاعل الرسمي مع حاجات التأطير الديني للجالية المغربية بالخارج، خصوصاً عبر آلية المساجد يروم أساساً منع أفرادها من كل أشكال التطرف والاغتراب الهوياتي، وربطها بالمقومات الدينية والوطنية.
الباحث في الشأن الديني إدريس الكنبوري يرى أن محاربة التطرف الديني وسط الجاليات المغربية في أوروبا مهمة معقدة في المرحلة الحالية، نظراً إلى تداخل عوامل واعتبارات عدة، على رأسها السيل الجارف من الخطابات الدينية عبر شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت بالنسبة إلى الشباب اليوم بديلاً عن منابر المساجد والخطباء.
وسجل الكنبوري أن ما تشكو منه المساجد المغربية في الخارج كثير، فأولاً هناك تعيين أئمة وخطباء وفق معايير غير علمية تتدخل فيها اعتبارات شخصية أحياناً، كما يحصل في شهر رمضان مثلاً، وثانياً غياب الثقافة الحديثة لدى بعض الأئمة في المساجد في أوروبا التي هي ذات ثقافة علمانية، الشيء الذي يتطلب المزاوجة الذكية بين الخطاب الإسلامي والخطاب العلماني المعتدل في إطار التنزيل الحكيم للخطاب الديني.
وزاد الباحث إشكالية ثالثة تتمثل في “عدم وجود مراجع حول الفقه المالكي على الطريقة المغربية باللغات الأوروبية مبسطة وقابلة للاستيعاب من طرف الشباب”، ثم “رابعة تتجسد في البعد الأخلاقي، إذ قد تحيط ببعض مكاتب المساجد أو المسيرين بعض الشبهات في ما يتعلق بالأموال على سبيل المثال، وهذا قد يمس بشرعية المساجد في أوروبا في أعين الشباب الذي يعيش في بلدان ديمقراطية تطبعها الشفافية”.
إدماج أفراد الجالية
تؤدي المساجد المغربية المنتشرة في ربوع أوروبا دوراً مركزياً في تسهيل إدماج أفراد الجالية المغربية في المجتمعات الأوروبية المستقبلة، عبر مجموعة من الوظائف والآليات.
يلخص أستاذ بجامعة مكناس رئيس المركز المغربي للاستثمار الثقافي “مساق” خالد التوزاني هذه الوظائف والآليات، وأبرزها التوجيه الديني والروحي، إذ توفر المساجد المغربية فضاءات لنشر القيم الإسلامية المعتدلة التي تؤكد أهمية التعايش واحترام الآخر.
ويضيف التوزاني أن المساجد تقدم دروساً في اللغة العربية والثقافة المغربية وخصوصاً للأطفال والشباب من أبناء الجالية المغربية، ما يعزز الهوية الثقافية لديهم ويساعدهم في حسن الاندماج في المجتمع الأوروبي، ويجعلهم في منأى عن التطرف والانحراف، كما يتم الاحتفال بالمناسبات الإسلامية مثل رمضان وعيدي الفطر والأضحى، إضافة إلى تنظيم الأنشطة الثقافية التي تعزز الروابط بين أفراد الجالية.
وإلى جانب التوجيه الديني، يكمل التوزاني، هناك أيضاً الدعم الاجتماعي، إذ تقدم المساجد المشورة والنصح للأسر، بما يساعدها في التعامل مع تحديات الحياة في بيئة جديدة، وكذلك تنظيم مبادرات لدعم الأسر المحتاجة، مما يعزز التكافل بين أفراد الجالية.
واستطرد الباحث بأن “هذه المساجد في أوروبا تعمل أيضاً على الإسهام في إيجاد حلول للقضايا التي تواجه الجالية المغربية، والانخراط في الأنشطة المجتمعية مثل معارض التعايش أو المبادرات البيئية، إلى جانب نشر الفكر الوسطي وتحصين الشباب من التأثيرات السلبية للجماعات المتشددة، كما تقدم المساجد دروساً في اللغة المحلية للجالية تساعد في الاندماج المهني وتطوير قدراتهم”.
وخلص التوزاني إلى أن “هذه الأدوار المهمة التي تقوم بها المساجد المغربية في أوروبا، تجعلها ليست مجرد فضاءات للعبادة، بل مؤسسات متعددة الوظائف تعزز الروابط داخل الجالية وتسهم في بناء جسور التفاهم مع المجتمعات الأوروبية، وفي الآن نفسه تسهم في تعزيز قيم المواطنة وتقوية انتماء المغاربة لوطنهم الأم المغرب”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية