وحدهم السوريون يعلمون المعنى الحقيقي لعبارة “الاختفاء تحت سابع أرض”، وهي جملة ما برحت تتردد بين عامة الناس خلال عقود ماضية من تاريخ بلد حكم بقوة النار والبارود، وتعني الوصول إلى زنزانة الاعتقال المظلمة والباردة في قبو ضيق تحت الأرض.
ولم يكن سجن صيدنايا الواسع وذائع الصيت الممتد على أرض مترامية الأطراف سوى قلعة مرعبة وصورة عن أكبر معتقل سوري، ترتعد الفرائص لمجرد السماع باسمه لقسوة ما يقاسيه فاقدو الحرية فيه، إذ ما برح منذ تأسيسه عام 1987 يبتلع داخله عشرات آلاف المدنيين والعسكريين على حد سواء. وعلى رغم ما حمله هذا السجن من أوصاف كـ”المسلخ البشري”، ظلت سجون التوقيف المنتشرة في دمشق وبقية المدن حتى اللحظات الأخيرة قبيل سقوط النظام تمارس إرهاباً نفسياً وعنفاً جسدياً على الموقوفين، ومعاملة غير بشرية يندى لها جبين الإنسانية، إذ يذهب الإنسان هناك “إلى ما وراء الشمس” وهي العبارة التي تعني “السجن” بين العامة.

“المكبس” والمسلخ البشري

فرحة خروج معتقلي الرأي والسجناء السياسيين من المعتقلات خلال الثامن من ديسمبر (كانون الأول) الجاري، ليلة هرب الرئيس السوري السابق بشار الأسد إلى خارج البلاد وتسلم الثوار زمام الحكم، نغصها فقدان أو موت أشخاص لم يعثر عليهم، إذ فارق الآلاف في سجن صيدنايا الحياة جراء التعذيب والمرض.
وبالحديث عن السجون الكثيرة في سوريا، تضم كل محافظة من المحافظات الـ14 سجناً مركزياً يقضي الموقوفون فيها أحكامهم القضائية، إضافة إلى سجون مركزية في دمشق وسجون تحت الأرض في أقبية فروع الأمن، وأجهزة الاستخبارات بمختلف اختصاصاتها (العسكرية والجوية والدولة والجنائية)، علاوة على وجود سجون في أقسام الشرطة والمخافر ويطلق عليها اسم “النظارة”، حيث لا تتجاوز مدة التوقيف فيها الأيام ثم يحول الموقوف إلى القضاء.

ومن أشهر السجون في سوريا نجد “صيدنايا” و”تدمر” و”عدرا” و”المزة” و”285 أمن الدولة” وغيرها، ومع ذلك سيطر اسم سجن صيدنايا في الليلة الأولى لسقوط الأسد على مخيلة السوريين بعدما شاع عن وجود زنازين سرية تحت الأرض فيه.

وهذا ما نفاه لـ”اندبندنت عربية” أحمد مبارك أحد المعتقلين السابقين الموجود حالياً في ألمانيا والذي أكد عدم وجود أي سجن سري تحت مقر الاحتجاز في صيدنايا. وعلى رغم ذلك واكبنا ليلة كاملة جهوداً أهلية لعائلات المساجين وهم ينقبون الأرض بحثاً عن بصيص أمل، حتى خارت قواهم مع انبلاج فجر يوم جديد، وانسحبوا من المكان يجرون الخيبة وفقدان الأمل بالعثور على أحباء وأعزاء لهم.
وفي الأثناء تحدث زعيم “هيئة تحرير الشام” أحمد الشرع عن تحويل سجن صيدنايا إلى متحف حتى يكون شاهداً للعالم على إجرام النظام البائد، وتخليداً لذكرى الشهداء الذين سقطوا في سجن صيدنايا خلال وقت لفت رئيس “رابطة المعتقلين ومفقودي سجن صيدنايا” دياب سرية إلى ما قال إنه “تداول أكاذيب تتناقلها وسائل إعلام مرموقة منها وجود مكبس بشري كوسيلة للتعذيب والقتل”، مؤكداً عدم وجود هذه الآلة إطلاقاً.
وطالب سرية في بث مباشر له من خارج البلاد بـ”وقف الإشاعات” و”وقف الأخبار الكاذبة”. وأضاف أن كثيراً من القتلى “عانوا ودفعوا دماء وأعدموا بصيدنايا، ولكن المبالغة خاطئة من قبل أشخاص صحافيين ومتعدين على مهنة الصحافة ساعين وراء (الترند) والشهرة”. وقال إن ما صور على أساس أنه مكبس بشري لطحن الجثث بعد الإعدام عار من الصحة. وأضاف “ارحموا الأمهات من هذه الأكاذيب”.
العم أبو ضياء (70 سنة) أحد معتقلي السجن أفرج عنه قبل 10 أعوام مضت، يتحدث عن وحشية السجانين ويقول إن كل ما حدث معه ومع رفاقه في الزنزانة كان مرهوناً بمزاج السجان الذي يتفنن بالتعذيب دون رحمة أو شفقة. وهو اليوم يبحث عن أخيه المعتقل أيضاً في ذات السجن دون أن يجده.
ويروي أن “العبارات المسيئة والشتم لا يتوقف، والإهانات دائمة، والتعذيب مروع من دون أدنى توقف، كنا نتقاسم حبات البطاطا والبندورة القليلة بين عشرات المعتقلين ونشرب الماء الوسخة، معظمنا أصيب بأمراض مزمنة وآخرون ماتوا تحت التعذيب، توقف قلبهم أو أصابهم مرض السل. ولا توجد رعاية صحية إلا إذا كان وضع السجين محرجاً جداً، وأرادوا الإبقاء على حياته وإلا لا يهم إن مات”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

“الدولبة” ليل نهار

وبعيداً من صيدنايا القريبة من العاصمة السورية، هبطنا لتفقد أقبية سجون الاستخبارات العامة.
العتمة التي تسيطر على هذه الأمكنة والهدوء الذي تكسره خطوات أقدامنا لم يمنعانا من تخيل 20 شخصاً في غرفة صغيرة لا تتعدى خمسة أمتار، الرائحة الكريهة المجبولة بالرطوبة والعفونة تخيم في الأجواء. لقد دلفنا مع عدد من الثوار الذين استقبلونا للتجول في أرجاء الزنزانات حتى وصلنا إلى جناح يطلق عليه اسم “المنفردات”، وهي أجنحة معتمة وصغيرة الحجم تتسع لشخص واحد أو اثنين، بعضها يحوي حمامات وصرفاً صحياً، لا تصلح للإقامة البشرية بأية صورة من الصور.
حبات الزيتون وقطع البطاطا ما زالت في الغرف والأجنحة كطعام للسجناء قبل فتح أبواب السجن وإفراغه من المعتقلين الذين قضى معظمهم شهوراً طويلة تمتد حتى العام قيد الاحتجاز وهم رهن التحقيق الأمني القاسي دون صدور أي حكم بحقهم، وكلهم يحتجزون دون إعلام ذويهم عن مكانهم، بل يتكبد الأهل المشقة لمعرفة في أي سجن أودع أولادهم وينفقون مالاً كثيراً لأجل ذلك.
هكذا يروي جمعة حمادة سجين سابق اعتقل بصورة فجائية من قبل دورية أمنية، ويقول “لقد عانت أسرتي واجتهدت كثيراً ودفعت مالاً وكانوا لا يسمحون لهم بمقابلتي، وينكرون وجودي لديهم”.

الموت تحت التعذيب

في زنزانة داخل فرع أمن الدولة في دمشق يتجول أحد الثوار ويدعى “أبو مصعب” بزيه العسكري حاملاً سلاحه ويطلعنا على واقع الزنزانات متحدثاً عن قساوة المحققين والسجانين، ويحكي بحسرة عن فقدان شبان لحياتهم تحت التعذيب. وحين وصل إلى زنزانته التي أقام بها عام 2018 مع نحو 800 سجين، شرح طريقة التعذيب والتنكيل المتعمد.
“لك أن تعرف الآن لماذا أحمل سلاحاً”، قالها أبو مصعب وهو متجشم الوجه مشيراً إلى الممر الذي نقف به، واستذكر الدماء التي كانت تسيل من “الموقوف” وهي التسمية المتعارف عليها لمن يقطنون هذه الزنزانات، وأصوات السجناء لا تتوقف بينما الرؤوس مطأطأة لا يمكن أن ترتفع لأن السجان سينهال عليها بالعصي، أو ما يحمله من كبل كهربائي أو حديدي. وأضاف “كم ضمدنا بملابسنا جروح رفاق لنا”.
وفي ذات المكان في جناح “المنفردات” يلوح أبو مصعب الذي شارك بالقتال في تحرير مدينة حماة ورافق المقاتلين منذ اندلاع عملية “ردع العدوان” خلال الـ27 من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ليدلنا على طاقتين صغيرتين في باب حديدي، أحداهما ليراقب السجانون المعتقلين وأخرى أسفل الباب لإدخال الطعام، وفي حال كان السجان غاضباً أو تأخر أحد السجناء بتنفيذ أمر ما يخرج السجين أقدامه من طاقة الباب السفلية، ويعمل على “دولبته”. وهذا مصطلح سائد في السجون ينسب إلى وضع الدولاب أي إطار السيارة المطاطي، إذ يضع السجين قدميه وينهال عليه السجان بالضرب.
ومع كل هذا الظلم والاستبداد الذي يمارس بحق المساجين كان كل سجين يحلم بلحظة الحرية والخلاص. وتحولت جدران الزنزانة إلى دفاتر يكتبون أسماء أحبابهم عليها ويوم اعتقالهم، بينما يرسم بعضهم وردة أو وجهة امرأة قد تكون شريكة أو حبيبة، وآخر كتب عبارة صباح الخير وغيره رسم بندقية وغيرها كثير، وكلها على حائط يبكي الحرية التي جاءت أخيراً ولو تأخرت بعض الشيء.

نقلاً عن : اندبندنت عربية