عن عمر ناهز الـ83 سنة، توفي الداعية الإسلامي التركي فتح الله غولن متأثراً بمشكلات في القلب والأوعية الدموية بأحد مشافي ولاية بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأميركية، وذلك بعد مسيرة جدلية طويلة شكل خلالها حركته النافذة “خدمة” في الداخل والخارج التركي، فضلاً عن محطات التقارب والتباعد من السلطة، ولا سيما في عهد الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان الذي تحول من أقرب حلفائه إلى أشد معارضيه، إثر الخلاف الذي حصل بين جماعته وحليفها القديم حزب العدالة والتنمية الحاكم.
ويعد غولن، وهو المتهم الرئيس من قبل السلطات التركية بالوقوف خلف تدبير عملية الانقلاب الفاشلة على أردوغان في يوليو (تموز) 2016، على رغم نفيه ذلك، أحد أبرز الأسماء التي شغلت الساحة السياسية التركية على مدى العقدين الأخيرين، ولا سيما منذ أن قادت الحكومة التركية في نهاية عام 2013 حملة توقيف طاولت عدداً من قادة الجيش، فيما طرد عدد آخر من رجال الشرطة والقضاء مع إغلاق بعض من المدارس التابعة لحركته، فضلاً عن إغلاق عدد من الصحف التركية أو طرد رؤساء تحريرها بتهمة الانتماء للحركة أو دعمها تحريرياً، وهي الحملة التي تعمقت بعد “الانقلاب الفاشل” وطاولت اعتقالاتها عشرات الآلاف من أتباعه، فمن يكون فتح الله غولن؟ وماذا نعرف عن جماعته المثيرة للجدل؟
المولد والنشأة
وفق الموقع الرسمي للداعية التركي فإن فتح الله غولن المولود في الـ 27 من أبريل (نيسان) 1941 لأسرة بسيطة في قرية كوروجك بمحافظة أرضروم شمال شرقي هضبة الأناضول، تلقى تعليما دينياً منذ صباه، إذ حفظ القرآن الكريم في بيت أهله وعلى يد والدته رفيعة خانم، وتعلم العربية والفارسية على يد والده رامز أفندي في سن باكرة، وذلك قبل أن يتلقى من علماء المنطقة التي نشأ فيها علوم الفقه والتفسير والحديث والنحو والبلاغة والأصول ومقارنة الأديان إضافة إلى الفلسفة، كما اطلع على الثقافة الغربية وأفكارها وفلسفاتها.
وفي أثناء دراسته خلال خمسينيات القرن الماضي تعرف على رسائل النور التي ألفها سعيد النورسي، أحد أبرز علماء الإصلاح الديني والاجتماعي في عصره، وتأثر بكتاباته وسيرته الشخصية حتى إنه عزف عن الزواج تشبهاً به وتفرغاً للدعوة.
وعكست أعوام الداعية التركي التعليمية الأولى بعضاً من المعاناة التي لاقاها لإكمال تعليمه، فبعد التحاقه بمدرسة عمومية في موطن ولادته ودراسته فيها ثلاث أعوام، لم يتمكن من إتمام دراسته النظامية بسبب انتقال الأسرة إلى قرية صغيرة افتقدت المدارس، ليتابع بعدها دراساته بصورة غير نظامي ويحصل على دبلوم أولي، وخلال فترة الخمسينيات من القرن الماضي تمكن غولن من إكمال دراسته التي كللها بإجازة غير نظامية من المشايخ الذين درس على أيديهم، وتركزت دراسته حينها على العلوم الإسلامية التقليدية قرآنا وحديثاً وسيرة وتصوفا وعربية، متأثراً بشيخه محمد لطفي أفندي.
ويشير الموقع الرسمي لغولن إلى أن الأخير بدأ في العشرينيات من عمره نشاطه الدعوي والتربوي في مدن عدة غرب تركيا، وتحديداً بداية ستينيات القرن الماضي، بموازاة قراءته في مختلف مجالات العلم والمعرفة فيما بعد، إذ درس أعلام الفكر الإسلامي المعاصر وأمعن في قراءة منظري الإصلاح خلال القرون الأخيرة، وتابع التيارات الإصلاحية التي ظهرت في شتى البلدان الإسلامية واستوعب النظريات الغربية الفلسفية والاجتماعية والعلمية والسياسية والأدبية الحديثة.
وعلى رغم أنه عين في الـ20 من عمره إمام جامع أوج شرفلي في مدينة إدرنة (شمال غرب)، حيث قضى فيه عامين ونصف، لكنه بدأ عمله الدعوي في مدينة إزمير (غرب) بعد انتقاله إلى العمل في مدرسة تحفيظ القرآن بالمدينة، وبعدها انطلق ليعمل واعظاً يلقي الخطب متجولاً في جوامع غرب الأناضول قبل أن يكون في سبعينيات القرن الماضي الجيل الثاني من الحركة النورسية بعد تفرقها، منشئاً ما سمي لاحقاً بحركة “الخدمة” أو “جماعة غولن” التي تعتبر أحد أهم وأقوى فرق الجماعة الأم.
ويشير مقربون وأتباع للداعية التركي إلى أن تجربته الدعوية وتمكنه من التنقل عبر المدن والقرى التركية طوال أعوام شبابه مكنته من تكوين رؤيته، إذ اعتقد في وقت باكر أن المجتمع التركي ومجتمعات العالم الإسلامي عامة “تعاني ثلاث علل كبرى، وهي الجهل، والفقر والتفرق”، مما دفعه إلى التركيز على “الدعوة إلى العلم والعمل لتفعيل مشروع تربوي متكامل، وحث الأثرياء على التضامن الاجتماعي ومساعدة الفقراء والاستثمار في مجالي التربية والتعليم، واتخاذ التواصل والحوار البناء سبيلاً لحل الخلافات المستشرية، وتأسيس ثقافة التعايش ونشر السلام على كل المستويات المحلية والإقليمية والعالمية”، بحسب ما أوضح موقعه الإلكتروني.
وعرف عن غولن الذي يعتبر من أتباع التصوف ويصنف صوفياً في أفكاره ودعوته، غزارة إنتاجه العلمي والمعرفي طوال حياته، إذ تمكن من تأليف أكثر من 70 كتاباً ترجمت إلى 39 لغة في مقدمها العربية والإنجليزية والفرنسية والصينية والألمانية والألبانية، وركز معظمها على التصوف في الإسلام ومعنى التدين، والتحديات التي تواجه الإسلام.
وأمام شهرة غولن الدينية والدعوية الواسعة في تركيا أخذت بعض مواقف وتصريحات الرجل تثير كثيراً من الجدل، مثل موقفه الشهير خلال ثمانينيات القرن الماضي عندما كانت الجماعات والحركات الإسلامية تحتج على حظر الحجاب في الجامعات التركية، ليخرج حينها غولن ويعتبر أن “لبس الحجاب ليس من أصول الإسلام بل هو قضية فرعية”، داعياً الطالبات خلع الحجاب لمواصلة دراستهن.
كذلك كان غولن دائم الانتقاد لمساعي تحويل الإسلام إلى ما أطلق عليه “وسيلة للهيمنة على الناس”، معتبراً أنه يرى بدلاً من ذلك أن الإسلام هو “دين اعتقاد وصلوات وأخلاق طيبة”، وأنه ليس أيديولوجية سياسية أو نظام حكم أو شكلاً من أشكال السلطة، وهو ما يتوافق تماماً مع التقاليد الديمقراطية الغربية، وهو ما تجلى في بروز غولن كأحد أبرز المدافعين عن الحوار بين الأديان، إذ التقى كثيراً من قيادات المجتمع اليهودي والقساوسة في مناسبات عدة، فضلاً عن لقاءه بابا الفاتيكان السابق يوحنا بولس الثاني عام 1998، وأيضاً امتلك غولن رؤية متصالحة مع الغرب انطلاقاً من اعتبار أنه يقود العالم، وأنه يتحتم على كل من يريد الحضور على الساحة العالمية التصالح والتنسيق معه لا مصادمته.
ولا يفضل غولن تطبيق الشريعة في تركيا لأنه يرى أن القسم الأكبر من قواعد الشريعة تتعلق بالحياة الخاصة للناس، بينما القسم الأصغر منها يتعلق بإدارة الدولة وشؤونها.
كولن وتأسيس “خدمة”
اشتهر غولن تدريجاً وذاع صيته من خلال حركته “خدمة” التي شكل نواتها الأولى أوائل عام 1970 بمدينة إزمير، كواجهة تربوية ودعوية قبل أن تتوسع لتصبح حركة لها أتباعها وتتعدد أذرعها لتشمل التجارة والاقتصاد والصحافة والإعلام والتعليم ومختلف مناحي الحياة، داخل تركيا وخارجها، وفي العالم الإسلامي وخارجه.
وتعتمد “خدمة”، وهي حركة صوفية بالأساس، في مرجعيتها على الفكر والقائد معاً، مرتكزة على كتب غولن وكتب سعيد النورسي صاحب “رسائل النور”، إضافة إلى أوراد الذكر والأدعية المختلفة، وأهم ما يطبعها أنها اجتماعية وقومية تركز على مسلمي تركيا وتنزوي عن باقي الهويات الإسلامية، ولديها انفتاح على الغرب بخاصة، في وقت يعيب عليها منتقدوها ضعف تركيزها على القرآن الكريم وعلومه.
وعلى مدى عقودها الأولى اهتمت الحركة التي تقول إن أساسها هو الإسلام المتسامح والإيثار والتربية والعمل بجد واجتهاد، بصورة أساس بالتعليم وإنشاء المدارس بمختلف مستوياتها داخل وخارج تركيا، إضافة إلى إنشاء مؤسسات اقتصادية وإعلامية وطبية وثقافية وإغاثية، واشتهرت في أوساط الطلاب بمساعداتها الاجتماعية لهم سواء في تركيا أو خارجها، وعليه تمكنت مع مرور الوقت من التغلغل في كثير من المؤسسات التركية الرئيسة، مثل الجيش والإعلام والتعليم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وجاء التحول اللافت في مسار “خدمة” خلال النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي حينما دعي فتح الله غولن ليحاضر أمام الحكومة التركية في المسجد الأزرق عام 1977، وذلك بعد أن أصبح أحد أشهر الدعاة في البلاد، وهي الخطوة التي تلاها بدعوته إلى إنشاء الصحف والكتابة، فبدأت جماعته تصدر مجلة شهرية لتكتسح المبيعات في البلاد.
تلك الخطوة سرعان ما تبعها تحول آخر للحركة مع الانقلاب العسكري في عام 1980 ضد حكومة سليمان دميرل السادسة، إذ شهد نشاط “خدمة” تطوراً كبيراً بعد الانقلاب مستندة حينها إلى دعم الدولة لتتوسع بعدها في إنشاء المدارس والمؤسسات الاقتصادية والهيئات الإعلامية، وأنشأت وقف الصحافيين والكتاب الأتراك ليصبح الجهة الممثلة للجماعة بصورة شبه رسمية.
وفي وقت لم تصرح “خدمة” على مدى مسيرتها بأي هيكل إداري يحكمها، ولم تسم أي تسلسل هرمي لمسؤوليها، فضلاً عن عدم تحولها إلى “حزب سياسي أو حركة سياسية”، وحصر نشاطها على ما هو اجتماعي أو دعوي، فإن الحركة بدت نافذة على المستوى السياسي في فترة باكرة من عمرها، ولا سيما بعد أن تمكنت من توجيه تصويت أعضائها والمتعاطفين معها في كل مناسبة لحزب معين، فضلاً عن سعي أفرادها أو المنتسبين إليها باستمرار إلى الوصول للمناصب العليا في مختلف المؤسسات.
غولن والسياسة
على رغم عدم دخول غولن في الحياة السياسية بصورة مباشرة وإصراره على وصف جماعته أنها “فوق السياسة”، وتركيز اهتمامه بالمدارس وغيرها، فإن أثار الداعية الشهير في البلاد كانت دائماً مخيمة على المشهد السياسي، ولا سيما بعد أن بزغ نجمه إبان انقلاب عام 1980 الذي أيده ومدح قياداته العسكرية، وعليه اعتاد غولن الاجتماع بانتظام مع شخصيات سياسية بارزة في مختلف الحكومات التي حكمت تركيا.
ومن بين الحكومات التي شهدها برزت مواقف غولن بصورة جلية مع حكومة نجم الدين أربكان منتصف تسعينيات القرن الماضي، وذلك قبل أن يتحالف وإن بصورة غير معلنة مع حزب العدالة والتنمية بداية ظهوره في أوائل العقد الأول من الألفية الجديدة، وذلك في وقت كانت حركته “خدمة” توسعت حتى استقطبت قطاعات كبيرة من المجتمع التركي ومن الخارج، فضلاً عن إدارة استثمارات بمليارات الدولارات.
ففي عهد حكومة أربكان الذي عرف بتوجهاته الإسلامية، وكان رئيس حزب الرفاه وتولى رئاسة الوزراء في الفترة ما بين 1996 و1997 قبل أن يضغط عليه للتنحي ومنعه من ممارسة السياسية لاحقاً، دعم الأخير غولن وأثنى على جهوده وحركته في تربية الأجيال بتركيا، ولكن بعد الانقلاب على أربكان اتخذ الداعية التركي موقفاً بعيداً من دعم حزب الرفاه والمجموعات الإسلامية الموالية له، معلناً نفسه مختلفاً عنها وبعيداً منها، وهو ما أرجعه بعضهم لتباين رؤية الرجلين، ففي حين دعم أربكان الاتحاد مع العالم الإسلامي ركز غولن على هوية الإسلام القومي التركي الأناضولي وضرورة إقامة الحوار مع باقي الديانات، وبخاصة المسيحية واليهودية.
وعلى رغم حرص غولن على الاستمرار في نشاطه الدعوى والديني فقد حمل عام 1999 تحولاً في مسيرة الداعية التركي حين قرر الانتقال إلى الولايات المتحدة والعيش في منفى اختياري بمنطقة جبال بوكونو في ولاية بنسلفانيا بعيداً من الأضواء، لكن الخطوة لم تبعده عن المشهد التركي وبخاصة في مستواه السياسي، فمع ظهور حزب العدالة والتنمية الحاكم عام 2001، نشأ تحالف غير معلن مع الحزب وأبرز رجاله الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، إذ دعم غولن أردوغان خلال أعوام حكمه الأولى منذ 2003، وخصوصا من خلال المساعدة على الحد من النفوذ التاريخي للجيش في الحياة السياسية، وذلك قبل أن يختلف معه في ما بعد.
وبقيت علاقة التحالف قائمة بين غولن وأردوغان قبل أن تشهد تطوراً مفصلياً نهاية عام 2013، بعد أن كشف قضاة قيل إنهم من أنصار غولن “فضيحة فساد” داخل أجهزة الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان، والتي طاولت حينها عدداً من المقربين من الأخير ومن بينهم نجله بلال، وعلى الإثر اتهمت الحكومة أفراداً في “خدمة” بالوقوف خلف عمليات تنصت غير قانونية واختلاق تسجيلات صوتية، ووصفت الحكومة الجماعة بالكيان الموازي، واتهمت غولن بـ”تشكيل عصابة إجرامية مسلحة” والتزوير والتشهير، وعليه ألغت جواز سفر الداعية المقيم في الولايات المتحدة، وشنت حملة دبلوماسية لإغلاق مدارس الجماعة خارج تركيا، ووضعت آليات تمويلها تحت رقابة الدولة.
وفي ديسمبر (كانون الأول) 2014، أصدر القضاء التركي مذكرة توقيف بحق غولن، لكن الولايات المتحدة رفضت تسليمه.
وفي المقابل اتهم غولن حزب العدالة والتنمية الحاكم بجر البلاد نحو الاستبداد، واعتبر في مقالة نشرتها صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية في فبراير (شباط) 2015 أن الحزب يمارس القمع بحق المجتمع المدني، موضحاً أن الحزب بإجراءاته جعل حلم الأتراك بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي يتبدد. كذلك اعتبر غولن في تصريحات إعلامية، إن الضغوط التي تمارسها حكومة رجب طيب أردوغان على حركته “أسوأ بكثير من تلك التي كانت تمارس في عهد الانقلابات العسكرية في تركيا”.
وتفاقم الشقاق بين الطرفين في يوليو عام 2016 إثر اتهام السلطات التركية لغولن وجماعته بالتورط في محاولة “الانقلاب الفاشلة” في ذلك الوقت، وذلك قبل أن تجرده من جنسيته التركية في 2017، لكن غولن ندد في بيان بمحاولة الانقلاب ونفى تورطه أو جماعته في الانقلاب الذي جرى، وعلق قائلاً إنه “من المسيء كثيراً بالنسبة إليّ كشخص عانى انقلابات عسكرية عدة خلال العقود الخمسة الماضية، أن أتهم بأنني على أي ارتباط كان بمثل هذه المحاولة”.
ولطالما طالبت تركيا الولايات المتحدة بتسليم غولن، مستندة في طلبها على اتفاقية تسليم المجرمين المبرمة بين الجانبين عام 1979، لكن واشنطن قالت إن على تركيا تقديم ما يثبت تورط غولن أولا في محاولة الانقلاب عام 2016.
نقلاً عن : اندبندنت عربية