صدمة أصابت الشارع السوري بعد إماطة اللثام عن أكبر قضية فساد وظيفي وإداري استشرت خلال عقود ماضية من حكم نظام بشار الأسد، وتكشفت بعد سقوطه، وتدور حول تعيين أعداد هائلة من الموظفين الوهميين لدى القطاع العام، وزاد حجم الذهول بعد الإفصاح عن العدد أخيراً.

الفساد فاق التخيل

وخرجت هذه الصدمة إلى العلن بعد تصريحات فجرها وزير المالية السوري في حكومة تصريف الأعمال محمد أبا زيد حول وجود 400 ألف موظف في دوائر الدولة وهميين في سجلات العاملين، وعلى رغم توقعاته مع الفريق الحكومي بوجود فساد في البلاد، لكن لم يتخيل مع بقية أعضاء الحكومة أن يبلغ الفساد هذا الحد.

الوزير السوري وصف الموظف الوهمي بـ”الشبح”، وهي التسمية الأقرب إلى الواقع وليست خيالاً، إذ يعمل معظمهم من دون دوام فعلي وعلى الورق، فقط يقبضون رواتبهم من دون أي عمل، وقال “كنا نتوقع وجود الفساد ولكن ليس بهذا الحجم، ولفت النظر إلى أن بعض الشركات الحكومية في الدولة يبدو أنها موجودة فقط لسرقة الموارد ومن المرجح إغلاقها”.

 

وتشهد حكومة تسيير الأعمال، بعد نحو شهرين من سقوط النظام السابق، ورشة عمل لإعادة تقييم واقع مؤسسات الدولة، لا سيما في ظل وجود 900 ألف موظف حكومي من أصل 1.3 مليون يداومون بصورة فعلية، أما وزير التنمية الإدارية محمد السكاف فأوضح أن الدولة بحاجة إلى ما بين 550 إلى 660 ألف موظف، أي أقل من نصف العدد الحالي.

وفرة مالية

ورأى المستشار والأكاديمي الاقتصادي في دمشق زياد أيوب عربش أنه في حال أعيد ترتيب وتأهيل الجهاز الإداري للدولة بصورة جيدة، “فستتحقق وفرة مالية ما دامت العملية مستمرة”، وقدر من خلال متابعته أن تصل عمليات التسريح إلى نحو 50 في المئة من الكادر الإداري أو القطاع العام الاقتصادي والإداري، بخاصة مع عمليات الخصخصة لشركات القطاع العام. وأضاف “يبدو أن فكرة مفهوم الاقتصاد الحر الذي تسير بنهجه الحكومة الحالية يفضي إلى إغلاق عدد من الشركات من دون دراسة معمقة بصراحة، أو اعتماد صيغ تشاركية بعد دراسة مستفيضة لكل شركة على حدة، والنهج الحكومي أمام واقع كارثي، فالخزانة فارغة، ولا بد من تمويل عمليات الإنفاق الملحة بخاصة البنية التحتية لعودة النازحين أو تأمين السلع الأساسية للمواطنين، لا سيما الدواء والغذاء ورغيف الخبز ومشتقات الطاقة”.

 

وقدر المستشار الاقتصادي أن تكون الوفرة المالية مرتبطة بعدد المسرحين، إذ يبلغ “عدد العاملين في الدولة 1.4 مليون موظف، ومن المحتمل أن تنخفض إلى 700 ألف موظف فقط، إذ إن عملية تأهيل الجهاز الحكومي ما زالت في بدايتها”.

وتسعى حكومة تصريف الأعمال السورية في المقابل إلى أن تفي بوعودها أمام الشعب السوري، ولا سيما أصحاب الدخل المحدود بمضاعفة الراتب الشهري، وزيادته بنسبة 400 في المئة، إذ تقدر كلفة زيادة الرواتب نحو 1.65 تريليون ليرة سورية، أي ما يعادل 127 مليون دولار.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

التسريح التعسفي والحقيقي

في غضون ذلك بدأت الحكومة بفصل أسماء كثيرة وهمية كانت تمثل عبئاً كبيراً على خزانة الدولة، وهذه الرواتب لـ”الموظف الشبح” ستساعد الدولة في صب اهتمامها على زيادة رواتب كانت تدفع للموظفين بما لا يتعدى بين 15 و25 دولاراً، في حين هذه الرواتب لا تكفي للسوريين الذي يعيشون تحت خط الفقر.

ولفت المحامي والباحث القانوني جلال أميري في حديث خاص إلى أهمية تأهيل العام الذي تنفذه الحكومة لكبح الفساد والفوضى، وقال في الوقت نفسه إن الأمر تأخر كثيراً “لا بد من الانتباه إلى وجود عدد هائل من مسرحي الجيش والأمن والشرطة، فمن المهم تسليم تعويضاتهم بعد التأكد من عدم اشتراكهم بالأعمال الإجرامية، وإعادة من لديه الكفاءة والخبرة الجيدة، والانتباه إلى عدم التسريح لأسباب سياسية”.

ولفت الباحث الاقتصادي عربش من جهته إلى ضرورة تحقيق العدالة في ما يخص الاستغناء عن الموظف، من خلال معايير معينة.

الإجازة من العمل

في الأثناء ثمة تحديات اقتصادية كبيرة أمام الحكومة، ولا سيما انخفاض القدرة الشرائية للمواطن، وانخفاض السيولة بالبنك المركزي، وسرقة مدخرات وأموال طائلة بالعملة الصعبة إلى خارج البلاد من مسؤولي النظام السابقين، إذ تسعى الإدارة الجديدة بقيادة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى استعادتها وتجميد أرصدة هؤلاء المسؤولين في الدول التي استقبلتهم.

وثمة تساؤلات واستفسارات لم تجب عنها السلطات الحالية، في شأن الموظفين الذين استغنت الحكومة عن خدماتهم.

وفي السياق قال الموظف طلال قربي “بعد مقابلات كثيرة، وتسجيل بيانات إلكترونية ودراسات، تفاجأت مع عدد من زملائي في العمل بجداول اسمية، مكتوب إلى جانب كل اسم كلمة: إجازة. كيف لي بعد خدمة 20 عاماً من العمل الاستغناء عن خدماتنا، حتى من دون أي تبرير، ألم تعد الإدارة الجديدة بفتح صفحة جديدة مع الجميع؟”.

واستغنت الإدارة الجديدة على قطاعات بكاملها مثل جهاز الشرطة، واستبدلته بجهاز جديد، وعكفت على تسريح كامل الجيش، وحل “حزب البعث” وتسريح طاقمه الإداري، بالتوازي مع السعي إلى خصخصة المعامل الإنتاجية الحكومية.

ورجح الباحث الاقتصادي عربش أن تبدأ الحكومة من الصفر، بل قبل الصفر، بعد كل هذا الفساد المستشري في البلاد.

نقلاً عن : اندبندنت عربية