“بعض ماكينات الطباعة في المؤسسة أصبحت متهالكة، وتحتاج إلى صيانة دورية”، بهذه الكلمات بدأ مصطفى، عامل بقسم الطباعة بإحدى المؤسسات الصحافية القومية المصرية، حديثه عن التغيرات التي طرأت على طبيعة عمله اليومي.
يروي مصطفى، الذي بدأ عمله في التسعينيات بعد اجتيازه فترة تدريب مهني عامين “شهدت وتيرة العمل تراجعاً ملحوظاً، وانخفضت أعداد النسخ المطبوعة بصورة ملحوظة. كانت مخازن المؤسسة ممتلئة بالورق، والعمل ينتج بجودة عالية، وتأثرت مهنتنا بعدما ضربت الأزمات المتلاحقة سوق الصحافة الورقية”.
وبحسب البيانات الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بلغ عدد النسخ الموزعة من الصحف محلياً وخارجياً 252.1 مليون نسخة عام 2021، مقارنة بـ199.1 مليون نسخة عام 2020.
“إذا انهارت الصحافة الورقية سيتوقف عملنا، ولن يكون لدينا شيء نفعله، ولهذا نحن في حاجة إلى تدريب على تقنيات جديدة والبحث عن طرق للبقاء في السوق، واستغلال المطابع لإنجاز مهام تجارية بعيداً من الصحافة”، بحسب تصوره.
ووفق الجهاز المركزي المصري للإحصاء بلغ عدد الصحف العامة الصادرة عام 2021 نحو 61 صحيفة، في مقابل 59 صحيفة عامة عام 2020. وبالرجوع إلى أرشيف الجهاز، يظهر أن عام 2010 كان الأكثر من جهة عدد الإصدارات، إذ بلغت 142 صحيفة، يليه عام 2009 بـ113 صحيفة.
بين آلات الطباعة وأكوام الورق
لم يكن إيهاب، الذي يترأس قسم التجليد بإحدى المؤسسات القومية العريقة، وأمضى أكثر من 25 عاماً من حياته بين آلات الطباعة وأكوام الورق، أفضل حالاً من مصطفى، الذي عايش تدريجاً انحسار هذه الصناعة.
وروى تفاصيل عن فترة رواج المهنة “كنا ننتج 170 ألف نسخة يومياً، ولا نغادر إلا بعد إتمام جميع المهام”. منتقلاً بحديثه إلى الواقع الذي فرضه التحول التكنولوجي على مهنته “اليوم، أصبح عملنا مقصوراً على نسخ محدودة، باستثناء موسم، ننتظر خلاله ما ترسله لنا وزارة التعليم من كتيبات وطلبات إضافية، التي تراجعت أعدادها بصورة ملحوظة، كما ننتج نحو 4 آلاف نسخة يومياً فحسب، وهو انخفاض غير طبيعي”.
يلقي إيهاب الضوء أيضاً على تأثير انخفاض وتيرة العمل على العاملين بالطباعة بالمؤسسة “كنا نحصل على دخل من العمل الإضافي، وأصبحنا ننتظر الحصة التي تخصصها وزارة التعليم، التي بالكاد تكفينا شهراً ونصف الشهر”.
وفقاً لإيهاب، فإن أكثر من 75 في المئة من العاملين معه يلجأون إلى عمل إضافي بعد انتهاء دوامهم لتأمين حاجات أسرهم.
وسط زخم التحولات التكنولوجية وتراجع الصحافة الورقية يظهر دور السائقين والمندوبين خلف الكواليس يقول سالم، مسؤول السائقين بإحدى المؤسسات القومية العريقة “نحن أكثر الفئات تضرراً من الأزمة التي تشهدها الصحافة الورقية في مصر”.
وأضاف سالم، في حديثه إلى “اندبندنت عربية”، “كانت المطبعة لا تتوقف عن العمل. في الإسكندرية وحدها كنا نرسل ثلاث شاحنات محملة بنحو 200 ألف نسخة. أما اليوم، بالكاد نرسل أعداداً محدودة من النسخ”.
يقول سالم “كنا نرسل الصحف إلى الغردقة بسيارات المؤسسة، لكننا أصبحنا نلجأ إلى وسائل أرخص مثل الأتوبيسات أو الميكروباصات، إذ إن انخفاض مستوى التوزيع جعل النقل بسيارات المؤسسة إلى بعض المناطق غير مجد اقتصادياً”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مهنة متروكة
يشرح سالم الاستراتيجية الجديدة المتبعة في مؤسسته نتيجة لارتفاع كلف النقل “في المناطق البعيدة مثل سفاجا والقصير، نرسل الصحف عبر السوبرجيت من محطة الترجمان، وكثير من بائعي الصحف تركوا المهنة لأن الصحيفة لم تعد تحقق لهم أي مكاسب تذكر”.
يستعيد سالم مشاهد من الماضي “كانوا يقولون لنا: الجورنال زي (مثل) الميت، لازم (لا بد) توزعه قبل ما رائحته تطلع. أما الآن، ومع سرعة انتشار الأخبار، لم نعد نردد مثل هذه العبارات”.
الصعوبات التي تواجه العاملين بالنقل والتوزيع كثيرة، ومنها وفقاً لسالم “المطر، والظروف الجوية الصعبة، والشبورة، لم تكن تمنعنا من إيصال الصحف إلى المحافظات”. متابعاً “كانت عربات التوزيع ممتلئة بالصحف، وأصبحت محدودة، لدرجة أننا نضعها أحياناً بجوارنا في كبينة السيارة”.
وأنهى حديثه “تحولت من العمل الفني إلى العمل الإداري، مما جعل وضعي أكثر استقراراً داخل المؤسسة. لكن السائقين من الفنيين هم أول من يتأثرون بانخفاض معدل التوزيع والمخاوف من انتهاء عصر الصحافة الورقية”. وأضاف “كنا نشاهد الناس تنتظر وصولنا في الأماكن المخصصة لبائعي الصحف بالمحافظات المختلفة، وكانوا يسألوننا عن أسماء الكتاب ومقالاتهم”. ويستدرك قائلاً “تغير الحال تماماً، وكثير من البائعين هجروا المهنة”.
ما يقوله سالم واقع يعيشه إسماعيل حسين، الذي ورث مهنة بيع الصحف عن والده، قبل أن يقرر أخيراً الانسحاب منها بعد خسارة زبائنه بصورة تدريجية “بدأ والدي العمل في بيع الصحف في أواخر الستينيات، وكان يبيع الصحف بصورة جيدة. وقد تسلمت منه المهنة بعدما عملنا معاً لأعوام عدة”.
يسترجع حسين مشاهد من الماضي “كنت أبيع في منطقتي ما بين 600 و1000 نسخة يومياً، لكن الأعداد بدأت في التناقص المستمر حتى أصبحت المبيعات لا تكفي حتى لتغطية مصاريف انتقالي من منزلي إلى نقطة البيع التي تبعد 20 كيلومتراً. لذلك قررت إنهاء علاقتي بالصحافة الورقية”.
وأضاف حسين بأسف “المهنة لم تعد مجدية من الناحية المالية بسبب الإنترنت وابتعاد الزبائن عن الصحافة الورقية، وبذلك أصبحت الأمور تقتصر على خسارة مادية”.
وأنهى حديثه قائلاً “عندما وجدت أنني أتحمل مصاريف المواصلات وإيجار المحل من دون أن أحصل على عائد حقيقي من الصحف قررت الانسحاب من السوق، ففي نهاية فترة عملي، أصبح توزيع الصحف مقصوراً على 15 نسخة يومياً”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية