كان حيان حديد في الـ18 من عمره حين دهم بيته عسكريون في فبراير (شباط) 1982 واقتادوه بلباس النوم إلى موقع إعدام في مقبرة بمدينة حماة التي شهدت مجزرة في ظل حكم عائلة الأسد.
بعد نحو 43 عاماً، يقول حيان لوكالة الصحافة الفرنسية، “لم أرو ذلك في حياتي من قبل، كل شيء ظل سراً، فقط عائلتي كانت تعرف”. ويضيف الرجل الستيني اليوم والأب لخمسة أبناء، “بعد الأحداث الأخيرة بات الكلام ممكناً”.
فمع سقوط حكم الرئيس المخلوع بشار الأسد الذي امتد 25 عاماً خلفاً لوالده الذي حكم هو الآخر سوريا بقبضة من حديد على مدى ثلاثة عقود، صار بإمكان السوريين الحديث جهراً عما كان محرماً في ما مضى، ومن تلك المحرمات الكلام عن مجازر حماة.
في الثاني من فبراير 1982 أطلق حافظ الأسد حملة دامية لقمع تمرد قام به الإخوان المسلمون في حماة، بعد محاولة لاغتياله عام 1980.
وفي ظل صمت إعلامي مطبق نفذت أجهزة الأمن بقيادة رفعت الأسد، شقيق حافظ الأسد، قصفاً على المدينة بلا هوادة، وحاربت تنظيم “الطليعة المقاتلة” المنبثق من الإخوان وأجهزت على من صادفته من مدنيين من رجال ونساء وأطفال، بحسب ما يروي شهود لوكالة الصحافة الفرنسية.
وامتدت المذبحة على مدى 27 يوماً، ولم تعرف قط حصيلتها بصورة رسمية، أما التقديرات فتراوحت ما بين 10 آلاف و40 ألف قتيل أو أكثر، فقدوا حياتهم في ذاك الشهر من عام 1982.
قصة النجاة
يقول حيان إنه لم يكن على أي علاقة بجماعة الإخوان المسلمين، لكن اسم عائلته كان كافياً لجلب الويلات عليه. ويضيف “كنت طالباً في المدرسة حينها، وكان أبي يخاف كثيراً عليَّ وعلى شقيقي”.
فأحد أقارب العائلة هو مروان حديد، صاحب الشهرة الواسعة في تاريخ الجماعات الإسلامية المسلحة، الذي كان قيادياً في “الطليعة المقاتلة” قبل أن يقضي في السجن عام 1976.
في فبراير 1982 وبعد 13 يوماً من القتال الضاري وصلت القوات الموالية للحكم إلى الحي الذي يسكن فيه مروان حديد، واعتقلوا فيه قرابة 200 رجل واقتادوهم إلى المدرسة الصناعية، بحسب ما يروي حيان.
مع حلول الليل استدعي نحو 40 رجلاً منهم، وأياديهم موثوقة بأسلاك هاتف ونقلوا في شاحنة.
ويقول حيان “حين وصلنا أخبرت جاري أنها مقبرة، فأجابني: هذا يعني أنهم سيعدموننا”.
وبالفعل أطلق صفان من الجنود النار على المعتقلين، وشعر حيان حديد بملامسة الرصاص شعره، لكنه لم يصب.
ويضيف “سقطت على الأرض ولم أتحرك، لا أعرف كيف، لم تكن تلك حيلة واعية مني لأنجو من الموت”. بعد ذلك أطلق الجنود رصاصة على كل شخص للتثبت من وفاته، لكن الجندي الذي اقترب منه لتلك الغاية لم يطلق عليه الرصاصة.
ويقول “كنت أرتدي حينها ملابس نوم حمراء اللون، وربما قال في نفسه إنني ميت”. بعد أكثر من أربعة عقود لا يزال حيان حديد مذهولاً من نجاته، ويروي “لم أستوعب أنني نجوت إلا بعد ساعة، كنت أسمع صوت نباح كلاب وإطلاق نار ومطر…”.
فقام ومشى إلى بلدة سريحين المجاورة في ضواحي المدينة، ثم عاد إلى حماة مع ساعات الفجر، وتسلل إلى بيت عمه الذي كان يؤوي سبع عائلات، ويقول الموظف السابق في مصنع للصلب “كان وجهي أصفر مثل العائد من بين الموتى”.
القتل “لم يستثنِ أحداً”
في عام 1982 كانت كاميليا بطرس مسؤولة مكتب القبول في المستشفى الوطني في حماة، قبل أن تصبح ممثلة وكاتبة مسرحية، وعملت مع موظفيها على مدى 20 يوماً على تسجيل أسماء الضحايا المنقولين للمستشفى.
وتقول لوكالة الصحافة الفرنسية “كانت الجثث تصل بالشاحنات وتلقيها القلابات على باب المشرحة من دون توقف، بشكل يتجاوز قدرتنا على العمل”.
بين الضحايا الذين نقلوا إلى المستشفى من لم يعثر معهم على بطاقة هوية، وآخرون مجهولون لا يعرف عنهم سوى اسم الحي الذي نقلوا منه، ودفن كثر في مقابر جماعية، كما تقول.
وتضيف “كنا نتلقى على مدى ساعة اتصالات من القيادة لمعرفة أعداد القتلى الدقيقة، من الجيش ومن الإخوان المسلمين ومن الأبرياء”.
وبحسب الأرقام التي عملت عليها “بلغ عدد المدنيين القتلى 32 ألفاً”، إضافة إلى الآلاف من الجنود والإخوان المسلمين، وأبلغت السلطات بهذه الأرقام قبل أن تسحب منها البيانات.
وتروي كاميليا أنها شاهدت من مكتبها “إعدامات على الجدران”، ولم توفر هذه الإعدامات العائلات المسيحية ومن بينهم والد صهرها، وتقول “لم يستثن أحد من القتل في حماة”.
مواجهة مفتوحة
ويروي بسام السراج البالغ من العمر اليوم 79 سنة، كيف أعدم شقيقه مع مجموعة من أبناء الحي على مرأى من زوجته وأطفاله حين سيطرت “سرايا الدفاع”، الميليشيات التابعة لرفعت الأسد، على الحي القاطن فيه.
ويؤكد بسام أن شقيقه هذا لم يكن من الإخوان المسلمين، بعد ستة أشهر اعتقل شقيقه الثاني ميسر أيضاً بتهمة الانتماء للإخوان.
ويقول “بعد ساعتين أو ثلاث استدعوني لأتسلم جثته”، ومنعت قوات الأمن العائلة من تنظيم مراسم الدفن، ويضيف “أخذوا شخصاً واحداً فقط من العائلة وذهبوا لدفنه”.
بدوره كان محمد أمين قطان في الـ16 من عمره فقط عندما حمل السلاح ضمن “الطليعة المقاتلة”، لمحاربة حكم حافظ الأسد.
في فبراير من عام 1982 أوقف وكان ما زال قاصراً، مما أبعد عنه عقوبة الإعدام، لكنه أمضى 12 عاماً في سجن تدمر السيئ السمعة في وسط سوريا.
يقر قطان بأن تنظيم “الطليعة المقاتلة” كان في مواجهة مفتوحة مع السلطة على مدى أعوام. ويقول “لم يكن نهج النظام يتوافق مع المبادئ والأهداف والتصورات والعقائد السائدة في البلد”، مشيراً على سبيل المثال إلى اختلاط الذكور والإناث في معسكرات “طلائع البعث”، ويضيف “حاول النظام استنساخ النموذج السوفياتي، مما أثار حفيظة رجال الدين” المسلمين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
“تأديب الشعب السوري”
حين بدأت الأحداث في حماة أعلن النفير العام في المساجد، ليصل التعميم إلى “كل عناصر التنظيم”، وفق قوله. ويروي أن السلطات حينها اكتشفت وجود مركز رئيس للإخوان وخطة منسقة للعمل العسكري بين شخصيات من الطليعة بين حلب وحماة.
كان حي البارودية مركز القتال الشرس الذي استمر خمسة أيام “ثم بدأت ذخيرتنا تنفد، وبدأ قادتنا يسقطون في المواقع الأمامية”.
إزاء ذلك بدأت القوات الحكومية السورية تتقدم في اليوم الثالث أو الرابع و”تصرفت كمن تلقى أمراً بقتل كل من يصادفه”، ويضيف “كانت الشوارع مكتظة بجثث المدنيين ومن بينهم أطفال ونساء وكبار”.
فقدت عائلة قطان 12 فرداً ذكراً في فبراير 1982، من بينهم شقيقا محمد، أحدهما قضى في المعركة والثاني لم تكن له أي صلة بالإخوان المسلمين، كما يقول، وفي عام 1993 أطلق سراح قطان وأصبح صيدلانياً ودرس التاريخ.
في عام 2011 حين حول القمع الشديد الاحتجاجات السلمية ضد بشار الأسد إلى نزاع مدمر، انضم محمد قطان إلى مجموعة معارضة مسلحة، قبل أن يغادر سوريا إلى تركيا ثم يعود إليها مع تداعي حكم الأسد.
ويلخص قطان ما جرى في حماة عام 1982 بالقول “كانت جريمة مخططة لتأديب كامل الشعب السوري… ضرب النظام حماة بقوة وأدب بها سائر المدن”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية