60 ضعفاً تراجعت قيمة الليرة اللبنانية منذ اندلاع أزمة الانهيار المالي في خريف عام 2019 حتى الآن، مما أحدث ضغطاً شديداً على ما كان يُعرف بـ”الطبقة الوسطى” التي تعتبرها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا) “فئة اجتماعية ذات دور مؤثر في ما يتحقق من نتائج على صعيد التنمية الاقتصادية والاجتماعية”، وتحوّل جزء كبير من هؤلاء إلى الطبقة الفقيرة التي باتت تشكل معظم السكان، بحسب البنك الدولي الذي يتحدث عن وصول معدل الفقر في بعض المناطق إلى 70 في المئة، كما هي حال محافظة عكار (شمال) حيث يعمل معظم السكان في قطاعي الزراعة والبناء، فضلاً عن معاناة الموظفين الإداريين والعسكريين والأساتذة وغيرهم ممن تحددت أجورهم بالليرة اللبنانية، ويذهبون ضحية ظاهرة التضخم المتعاظمة.
في المقابل، ومع التنامي السريع للاقتصاد النقدي المدولر، تجد الأسر اللبنانية التي تحقق دخلاً بالدولار الأميركي نفسها مكتفية بما تناله من رواتب.
الليرة اللبنانية في أسوأ حالاتها
عشية مرور 5 سنوات على بدء الأزمة المالية اللبنانية التي وصفها البنك الدولي ضمن ثلاث أسوأ أزمات في العالم، تصدّر لبنان أخيراً قائمة نشرتها مجلة “فوربس” لأضعف 10 عملات في العالم، وساوت الليرة اللبنانية 0.000011 دولار أميركي أي 89578 ليرة للدولار الواحد، تلاها الريال الإيراني، ومن ثم الدونغ الفيتنامي والكيب اللاوي والليون السيراليوني والروبية الإندونيسية.
وانعكس هذا الانهيار بصورة مباشرة على المواطن اللبناني، فعلى سبيل المثال مَن كان يتقاضى الحد الأدنى الرسمي للأجور عام 2019 أي 675 ألف ليرة لبنانية، عند مستوى سعر الصرف الرسمي للدولار 1515 ليرة لبنانية للدولار الأميركي كان يحصل على ما قيمته 450 دولاراً أميركياً، وهذا المبلغ يساوي اليوم 7.5 دولار فقط. فيما أصبح الحد الأدنى الرسمي للأجور المتفق عليه ضمن لجنة المؤشر بمباركة الاتحاد العمالي العام وأصحاب العمل هو 18 مليون ليرة لبنانية، أي 200 دولار أميركي بسعر صرف 90 ألف ليرة لبنانية.
وفيما يقول البنك الدولي إن الأزمة الراهنة يحتاج لبنان ما بين 12 و19 عاماً للتعافي منها، نجد أن هذا الانهيار المستمر في العملة يترافق مع مشكلة بنيوية في المؤسسات الضامنة في لبنان وبلوغها حافة الإفلاس ورفع الدعم عن السلع والخدمات الأساسية وارتفاع غير مسبوق في الإيجارات السكنية وكلف الطبابة والرعاية الصحية ومضاعفة الأقساط المدرسية.
مؤشرات الاستهلاك في خطر
يعطي مؤشر أسعار الاستهلاك الذي تضعه إدارة الإحصاء المركزي في لبنان تشخيصاً للأوضاع التي يعيشها المواطن وقياس حجم التضخم وأثره على إنفاق الأسر.
وتوضح الخبيرة الإحصائية والأكاديمية المتخصصة في المعلوماتية وتحليل البيانات أليسار ناصر ماهية مؤشر أسعار الاستهلاك الذي يقيس تغيّر أسعار “سلة الاستهلاك” أي السلع والخدمات الأساسية خلال فترة زمنية محددة. وتتألف السلة من 12 بنداً كالأكل والشرب والسكن والتعليم والإيجارات والسفر وغيرها والتي وضعت في إطار دراسة إنفاق الأسرة اللبنانية عام 2012، وتقوم إدارة الإحصاء بالحصول عليها شهرياً من أجل رصد التغييرات الطارئة عليها بين مرحلتين زمنيتين وحجم استهلاكها.
وتأثرت أسعار هذه السلة إلى حد كبير بانهيار سعر صرف الليرة اللبنانية، وتشير ناصر إلى “المنحى الصعودي لمؤشر أسعار الاستهلاك”، مؤكدة أن الإيجارات السكنية هي أكثر ما يعانيه اللبناني حالياً، وتقول “في مختلف البلدان، هناك رابط بين قيمة الأجور ومؤشر أسعار الاستهلاك، إذ اعتمد إلى حد كبير في وضع سلسلة الرتب والرواتب (الصادرة في 2017) على المؤشر الذي وضعته إدارة الإحصاء المركزي، مبدئياً، يفترض المنطق زيادة في الأجور تتوافق مع معدلات أسعار الاستهلاك، ولكن هذا لا يحدث حالياً في لبنان”. وتلفت إلى دور تقوم به لجنة المؤشر لناحية تحديث الحد الأدنى الرسمي للأجور الذي أصبح 18 مليون ليرة لبنانية (نحو 200 دولار)، علماً أنه يفترض أن يكون أكثر من ذلك بسبب انهيار قيمة العملة 60 ضعفاً، إلا أنه اعتمد لمراعاة أوضاع مختلف الفرقاء سواء كانوا الأجراء أو أصحاب العمل”.
هؤلاء هم الأكثر تأثراً
وشهد لبنان خلال الفترة الماضية دولرة لأوجه النشاط الاقتصادي في القطاع الخاص، وفي المقابل تستمر معاناة الشريحة التي تتقاضى أجورها بالعملة اللبنانية.
وشخّص الخبير الاقتصادي نيكولا شيخاني واقع الأجور في البلاد، “إذ أصبح معظمها بالدولار الأميركي، وتمكّن الموظف الذي يتقاضى أجره بالدولار من تأمين توازن مالي في حياته، وتضاعفت القوة الشرائية لديه بالمقارنة مع بدء الأزمة، فيما تستمر مشكلة موظفي القطاع العام الذين يضطرون إلى ممارسة أكثر من وظيفة لتأمين نفقاتهم الحياتية”، واعتبر أنه “ليس بمقدور الدولة اللبنانية رفع الأجور بسرعة مما سيؤدي إلى مزيد من التضخم، كما أن تجربة تصحيح الأجور الأخيرة عندما كان الدولار 1500 ليرة لبنانية لا تبشر بالخير لأن الدولة أنفقت أكثر بكثير مما تحتمل موازنتها، وأدت إلى تعجيل عوارض الأزمة اللبنانية”، مضيفاً أن “الدولار اليوم يوازي أكثر من 89 ألف ليرة لبنانية، وفي حال زيادة الكتلة النقدية في السوق، سيتدهور سعر صرف الليرة بسرعة ليصل إلى مستويات قياسية جديدة، وسيتضرر مباشرة من يتقاضى أجره بالعملة الوطنية”، وأسف شيخاني لحال التخبط في قرارات الحكومة اللبنانية “ففي وقت عجزت عن تأمين 350 مليون دولار لإطلاق البطاقة الاجتماعية لدعم الأسر المحتاجة، أنفقت مليارات الدولارات على الدعم غير الموجه”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وحذر شيخاني من تفاقم ظاهرة الاقتصاد النقدي التي تعرض لبنان للسقوط في القائمة الرمادية لدول تبييض الأموال، معتبراً أن “النمو الاقتصادي هو المدخل لزيادة القوة الشرائية للمواطنين وزيادة المداخيل، وتعزيز الثقة للاستثمار”، فيما الحكومة تسير بالاتجاه الخطأ وتطرح خططاً تقتطع فيها من أموال المودعين، ويقول “يريدون تحميل المسؤولية للطرف الضعيف المودع، بالتالي فإن الهيركات يقود مباشرة إلى ضرب ثقة المستثمر بالاقتصاد اللبناني”، مطالباً بإعادة هيكلة القطاع المصرفي لأنه وحده قادر على إعادة العجلة الاقتصادية وتعزيز الثقة، وعودة إقراض القطاعين الخاص والعام، ناهيك عن قيام المصرف المركزي بدوره الموجّه والتخلي عن السياسة الماضية عندما رعى عملية إقراض الدولة التي عجزت عن سداد ديونها.
ورأى شيخاني أن الحل ممكن إذا قام كل طرف، أي مصرف لبنان والمصارف والدولة بالتزاماته، مؤكداً أنه “خلال عامين يمكن القيام بخطوات عدة، تبدأ بردّ الدولة ديونها، وإعادة رسملة القطاع المصرفي لتمييز المصارف ذات الملاءة، وأن يضع البنك المركزي أرباحه في صندوق خاص”. كذلك، لا يمكن تجاهل “ضرورة تحميل المسؤوليات لمن تسبب بالأزمة لأن مجالس إدارة 55 مصرفاً تحملت مخاطرة إقراض الدولة، وكذلك مصرف لبنان الذي قام بدور الراعي”.
انخفاض القدرة الشرائية
في 2017، تنفّس الموظفون الصعداء بعد إقرار سلسلة الرتب والرواتب، ولكن سرعان ما قضم الانهيار تلك الزيادات، لتبدأ دوامة المطالبة بسلسلة جديدة تنصف الموظفين، وتسارع انهيار الليرة اللبنانية التي حافظت على استقرار سعر صرفها مقابل الدولار عند مستوى 1500 ليرة لبنانية، ليتجاوز عتبة الـ 100 ألف ليرة، قبل أن يعود ويستقر في أواسط 2023 عند حدود 90 ألف ليرة لبنانية، أي إن الأجور خسرت 60 ضعفاً من قيمتها، ولم تقُم الدولة بأي إجراء تصحيحي للأجور، وابتدعت ما يسمى “بدل الإنتاجية” والحوافز التي تعطى للموظف من خارج أساس الراتب، لقاء استمراره في المجيء إلى وظيفته والقيام بعمله. فعلى سبيل المثال، أمّنت وزارة التربية من المانحين بادئ الأمر مبلغ 180 دولاراً في العام الدراسي 2022، أما في 2023 فوصلت إلى تسوية بدفع 300 دولار للأستاذ، أما الجيش فتقاضى العنصر 100 دولار شهرياً، تحت ما يسمى “المنحة القطرية”.
وأشار حسن وهبي من تجمع موظفي الإدارة العامة إلى أثر انهيار العملة على القوة الشرائية لرواتب الموظفين، في مقابل إجراءات خجولة للحكومة، وقال “في بداية مايو (أيار) 2023، أقرّت الحكومة مساعدة تعادل أربعة أضعاف الراتب، لكن ذلك لم يحسن أوضاعهم، فقد أصبح الموظف يتقاضى أجره على سعر صرف يعادل 10500 ليرة، فيما كان سعر صيرفة 90 ألف ليرة لبنانية، أي إنه حصل على 11.5 في المئة من قيمة الأجر الذي كان يتقاضاه قبل الأزمة”، وتطرّق إلى عدم التناسب بين قيمة الأجور الحالية والتضخم من جهة، ورفع الدولة الضرائب والرسوم وتحديدها وفق دولار مصرف لبنان، إضافة إلى ارتفاع أسعار السلع والأجور في ظل الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة وما خلقته من أزمة نزوح، مؤكداً أن “شرائح القطاع العام هي الأكثر تأثراً بالأزمة”.
حقوق بالحد الأدنى
وتزداد المطالبات بإصلاح الأجور والأوضاع الوظيفية في لبنان، مع عجز الموظفين عن تأمين الحد الأدنى من المعيشة، مما يدفع إلى التوجه نحو الإضراب، تحديداً في الإدارات العامة.
واختصر عضو الهيئة الإدارية لرابطة التعليم الثانوي الأستاذ عصمت ضو المطلب الحالي لموظفي القطاع العام والمعلمين، قائلاً “لا نطالب بالمستحيل، فكل ما نريده هو أجر يكفينا لتأمين المأكل والمشرب والملبس، ويؤمن وصولنا إلى مدارسنا ومراكز عملنا”، وتحدث ضو عن “حوار مستمر بين روابط التعليم ووزارة التربية من أجل الوصول إلى تسوية وقاسم مشترك حول ملف الحوافز التي لا تفي بالغرض، وإنما الهدف منها تأمين الوصول إلى المدارس بسبب الحرص على استمرارية التعليم الرسمي ومكانته”، مكرراً “المطالبة بسلسلة جديدة للرتب والرواتب لحفظ حق الأستاذ بالأجر العادل، وكذلك التقاعد”، وقال ضو “نحن لسنا هواة إضرابات، لكن لا بد من التوافق بين الروابط والوزارة من أجل تأمين انطلاقة مستقرة للعام الدراسي. ولم نحدد رقماً أو مبلغاً للحوافز، ولكن لا بد من اعتماد معيار ينصف الأستاذ الثانوي ويكون في موقع وسط بين الجامعي والتكميلي، ونحن بانتظار تحديد الوزارة المبلغ من أجل اتخاذ الموقف المناسب بالتشاور مع الأساتذة”.
واعتبر ضو أن الدولة أمام اختبار إظهار جديتها في الحفاظ على التعليم ودوره وإعطاء الأستاذ حقه، وأيضاً إنصاف الأستاذ المتقاعد الذي لا يتجاوز معاشه التقاعدي 100 دولار أميركي شهرياً.
نقلاً عن : اندبندنت عربية