في نظر كثير من الدول الأوروبية، تمثل عودة دونالد ترمب للبيت الأبيض تحولاً هائلاً، شبه كارثي، قد يزعزع التحالفات ويقلب العلاقات الاقتصادية رأساً على عقب. في المقابل، فإن خصوم الولايات المتحدة مثل الصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا يرون في الإدارة المقبلة فرصة لتعزيز أجنداتها المناهضة للغرب. ولكن هناك منطقة أخرى في العالم، تضم كثيراً من حلفاء الولايات المتحدة وشركائها وأصدقائها، تنظر إلى عودة ترمب بهدوء أكبر.
في نواحٍ واسعة من آسيا، من اليابان وكوريا الجنوبية في الشمال، مروراً بجنوب شرقي آسيا، أي المنطقة المحورية التي تربط المحيطين الهندي والهادئ، وصولاً إلى شبه القارة الهندية في الجنوب، لا تثير عودة ترمب للسلطة المشاعر القوية نفسها التي تثيرها لدى كثيرين في الغرب. فهذه البلدان أقل قلقاً بكثير من نزعات ترمب الاستبدادية وازدرائه للمثُل الدولية الليبرالية، إذ إنها كثيراً ما أدارت علاقاتها مع واشنطن على أساس المصالح المشتركة، لا القيم المشتركة. ويتناسب هذا النهج بسلاسة مع النهج المعاملاتي [القائم على عقد الصفقات] في سياسة ترمب الخارجية لأنه قائم على تحقيق الفوائد المتبادلة بدلاً من الحفاظ على النظام الليبرالي الدولي. في الواقع، ينظر جزء كبير من آسيا إلى النظام الليبرالي الدولي بنوع من التحفظ والالتباس. فعندما تتحدث الدول الآسيوية عن “نظام قائم على القواعد”، غالباً ما تحمل هذه العبارة معاني مغايرة تماماً لما تعنيه في الغرب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بالنسبة إلى آسيا، فإن عودة ترمب للسلطة لا تمثل تغييراً جذرياً في السياسة الخارجية الأميركية القائمة بل تعزز وتسرع اتجاهاً متواصلاً منذ حقبة حرب فيتنام. فالولايات المتحدة ليست في حال تراجع وانسحاب من الشؤون الدولية ولم تتبنَّ سياسة العزلة، بل هي تعمل بدلاً من ذلك على توسيع النطاق الجغرافي للنهج الذي قدمه الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون للمرة الأولى في شرق آسيا خلال الحرب الباردة، من خلال إعادة تعريف شروط دخول الولايات المتحدة في المسائل العالمية بصورة أحادية، واتباع مقاربة أكثر حذراً في ما يخص توقيت وطريقة تدخلها دولياً. ونظراً إلى أن آسيا تعاملت مع هذا النوع من النهج الأميركي لما يقارب نصف قرن، فإنها لا تشعر بقلق مفرط تجاه إدارة ترمب الثانية. وهذا لا يعني تجاهل المخاوف المهمة في المنطقة، بما في ذلك السياسات الجمركية وتايوان، لكنه يشير إلى أن الدول الآسيوية أصبحت أكثر اعتياداً على نهج ترمب القائم على الصفقات، وأن تجربتها تحمل دروساً مهمة لشركاء الولايات المتحدة وحلفائها الآخرين بينما يحاولون التكيف مع إعادة ضبط واشنطن لطريقة تعاملها مع العالم.
قوة مهيمنة مترددة
بالنسبة إلى كثير من الدول الآسيوية، فإن نهج ترمب القائم على مبدأ “أميركا أولاً” يذكر بالاستراتيجية التي استخدمتها واشنطن تجاه معظم آسيا لأكثر من خمسة عقود. عام 1969، بينما كان يحاول نيكسون فك ارتباط الولايات المتحدة بالحرب التي لا يمكن الفوز بها في فيتنام، كشف عن استراتيجية جديدة موجهة إلى حلفاء الولايات المتحدة وشركائها وأصدقائها في المنطقة. في إعلانه ذلك الصيف عما أصبح يُعرف لاحقاً باسم “عقيدة نيكسون”، صرح نيكسون بأنه “ما لم يكُن هناك تهديد من قوة عظمى تمتلك أسلحة نووية، فإن الولايات المتحدة ستشجع وتتوقع أن تتحمل الدول الآسيوية بنفسها المهمة [الدفاع العسكري]”.
في الواقع، رأى نيكسون أن حرب فيتنام كانت درساً قاسياً للسياسة الأميركية. وعوضاً عن الانجرار إلى مستنقعات آسيوية أخرى، قررت واشنطن الحفاظ على الاستقرار من خلال دورها كقوة مُوازِنة خارجية [قوة تحقق توازناً عن بعد، أو تتدخل بصورة غير مباشرة في ميزان القوى]، من دون نشر قوات على الأرض. وكان هذا يعني أن الولايات المتحدة ستوفر مظلة نووية للردع الموسع، فضلاً عن وجود عسكري يتمركز في القواعد الجوية والبحرية في اليابان وغوام. ولكن كان من المتوقع أن تتولى الدول في المنطقة مسؤولية أمنها بنفسها، مع استثناء جزئي لكوريا الجنوبية بسبب التهديد الفريد الذي تشكله كوريا الشمالية. ولم يعُد بوسع هذه الدول الاعتماد على تدخل واشنطن المباشر مثلما حدث في فيتنام.
ظل هذا النهج في جوهر السياسة الأميركية في آسيا منذ ذلك الحين. ومن وجهة النظر الآسيوية، فإن “الحرب على الإرهاب” بعد أحداث الـ11 من سبتمبر (أيلول) والحرب الطويلة التي خاضتها إدارة جورج دبليو بوش في أفغانستان هما مجرد استثناءين صارخين للنهج العام الأميركي في المنطقة. ففي حين يرى منتقدو السياسة الخارجية الأميركية أن الولايات المتحدة قوة مهيمنة شبه إمبريالية، سريعة اللجوء إلى القوة، فإن المراقبين الآسيويين يميلون إلى اعتبارها قوة حذرة بطبيعتها، مترددة في نشر قوتها العسكرية وتحسب مصالحها بعناية قبل أن تتحرك. والحقيقة أن الولايات المتحدة تشكل أهمية حيوية في الحفاظ على الاستقرار، لكن البلدان الآسيوية لا تعتبرها موثوقة تماماً، لأن قراراتها، باعتبارها قوة موازنة خارجية، ستثير دائماً شكوكاً حول نواياها في المنطقة: فإذا قررت واشنطن التدخل، فقد يخشى الزعماء الآسيويون الانجرار إلى صراعات جيوسياسية أكبر، وإذا قررت عدم التدخل، فقد يخشون التخلي عنهم.
منذ الأعوام الأولى من القرن الحالي، بدأت الولايات المتحدة بتطبيق هذا النهج على مناطق أخرى أيضاً. فبينما فشل كل من الرئيس باراك أوباما وترمب خلال فترة ولايته الأولى في الانسحاب من مغامرات “بناء الأمم” التي خاضها بوش، تمكن الرئيس جو بايدن من كسر هذه الحلقة عندما أمر بانسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان عام 2021. وفي الآونة الأخيرة، أثناء الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط، قدمت الولايات المتحدة الردع الشامل والدعم العسكري لحلفائها، لكنها لم ترسل أي قوات أميركية على الأرض. بالطبع، كان بايدن أكثر تشاوراً مع الحلفاء بصفته رئيساً مما كان عليه ترمب أو من المرجح أن يكون عليه، وقد اتخذ خطوات لتعزيز تحالفات الولايات المتحدة في آسيا من خلال الحوار الأمني الرباعي أو “كواد”، و”اتفاقية الدفاع أوكوس” مع أستراليا والمملكة المتحدة. لكن تشاور بايدن مع الحلفاء والشركاء يقوم على تحديد ما هم على استعداد لفعله في سبيل تعزيز أجندة الولايات المتحدة، من دون تقديم ضمانات أمنية جديدة للدفاع عنهم، ويمكن وصف ذلك بأنه نهج المعاملاتية [أو الصفقاتية] المهذبة.
ستتقبل آسيا نهج ترمب في السياسة الخارجية بسهولة أكبر من أي جزء آخر من العالم لأن المنطقة تعاملت من قبل مع الولايات المتحدة بهذه الطريقة. في الواقع، إن الفرق بين السياسة القائمة على تحقيق توازن عن بعد والنهج القائم على الصفقات بصورة صريحة هو فرق في الدرجة أكثر منه في النوع. سيكون ترمب أقل تشاوراً وأكثر تقلباً وأقل سخاءً في تقديم المساعدة، وسيطالب حلفاء واشنطن وشركاءها بأن يدفعوا أكثر مقابل الحماية الأميركية، لكن النتيجة قد لا تكون مختلفة كثيراً. فهناك ولايات متحدة واحدة فحسب، وستظل ضرورية للحفاظ على الاستقرار بغض النظر عمن يشغل البيت الأبيض. لذلك، ستتقبل معظم الدول الآسيوية ما هو ممكن في ظل الإدارة المقبلة، خصوصاً أنها لم تكُن تنظر إلى الولايات المتحدة قبل ترمب بثقة مطلقة. كما أن تجربتها مع إدارة ترمب الأولى لم تكُن سيئة بالكامل.
ولنأخذ هنا في الاعتبار الفروقات في تعامل ترمب مع المنطقة مقارنةً بسلفه المباشر، أوباما. فخلال فترة ولايته، ألقى أوباما خطابات بليغة حول التزامات الولايات المتحدة تجاه آسيا، لكن كثيراً من القادة في المنطقة رأوه ضعيفاً عندما تعلق الأمر بمواجهة خصوم أميركا، بخاصة الصين. فعام 2015، وقف الزعيم الصيني شي جينبينغ إلى جانب أوباما في البيت الأبيض ووعد علناً بعدم عسكرة بحر الصين الجنوبي. ولكن في العام التالي، مضت بكين قدماً في فعل ذلك بالضبط، ولم يحرك أوباما ساكناً. وقد لاحظ شركاء الولايات المتحدة في مختلف أنحاء المنطقة ذلك. في المقابل، عام 2017، هلل عدد كبير من الزعماء الآسيويين سراً عندما أخبر ترمب شي خلال تناولهما العشاء في أول قمة بينهما أنه أصدر أمراً بشن هجوم بصواريخ كروز على سوريا تلك الليلة، رداً على استخدام الديكتاتور السوري بشار الأسد أسلحة كيماوية. وكان هذا في تناقض صارخ مع رفض أوباما الرد بعد أن استخدم الأسد أسلحة كيماوية عام 2013.
وتشير بعض تصرفات ترمب خلال فترة ولايته الأولى إلى أن تأكيده على تحقيق السلام من خلال القوة يتماشى مع توجهات كثير من الحكومات الآسيوية. في الواقع، إن القضايا التي يمكن أن تؤدي إلى الصراع في المنطقة ليست لها حلول نهائية، لكنها تحتاج إلى إدارتها من خلال الردع الحازم والدبلوماسية الذكية. عندما هدد زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون باستهداف غوام بصواريخه عام 2017، رد ترمب بالتهديد بإمطار بيونغ يانغ “بالنار والغضب”، مما أدى فعلياً إلى إنهاء اختبارات كوريا الشمالية للصواريخ البعيدة المدى على أي مسار قريب من غوام. وبذلك، استعاد ترمب قوة الردع التي فقدت خلال إدارة أوباما، عندما سمحت واشنطن للوضع في كوريا الشمالية بالتفاقم لمدة ثماني سنوات تحت شعار “الصبر الاستراتيجي”. ثم عام 2018، التقى ترمب كيم في سنغافورة، مما فتح مساراً دبلوماسياً أيضاً. في نهاية المطاف، لم تؤدِّ تلك القمة، ولا الاجتماع اللاحق في فيتنام، إلى تحقيق أي تقدم لأن ترمب افتقر إلى الصبر اللازم للاستمرار في استراتيجيته الخاصة وفشل في تحديد أهداف واقعية. وكانت إدارة ترمب مخطئة عندما تصورت أن كوريا الشمالية ستتخلى عن أسلحتها النووية، ولكنها لم تكُن مخطئة في محاولتها إدارة التهديد من خلال الردع والدبلوماسية. لقد كان الحزم موجوداً، ولكن لم يكُن هناك دهاء كافياً.
من هذا المنظور، ليس لدى القادة في شرق آسيا وجنوب شرقها سبب قوي للخوف من ولاية ترمب الثانية. فأسس السياسة الأميركية تجاه المنطقة موجودة بالفعل، وبعضها يحظى بدعم قوي من الحزبين، إذ إن إدارة بايدن وسعت نهج إدارة ترمب الأولى وطورته في القضايا ذات الأولوية مثل التعامل مع الصين. ومن غير المرجح أن تؤدي أي سياسات جديدة في هذه المجالات إلى تحولات جذرية في المسار. بالطبع، حتى التغييرات الهامشية يمكن أن تكون مزعزعة، مما لا يعني أن إدارة ترمب الجديدة لن يكون لها تأثير كبير في المنطقة أو أنها ليست مدعاة للقلق. وهناك ثلاث قضايا، خصوصاً تستدعي المراقبة الدقيقة وهي تايوان والتعريفات الجمركية والقيادة الإقليمية.
معضلة تايوان
خروجاً عن سياسة “الغموض الاستراتيجي” التي انتهجتها الولايات المتحدة لعقود، صرح بايدن في أربع مناسبات بأن الولايات المتحدة ستدافع عن تايوان ضد العدوان الصيني. أما ترمب، فلن يكرر مثل هذه التصريحات. فخلال حملته الانتخابية لعام 2024، أشارت تعليقاته في شأن تايوان إلى أنها تندرج ضمن آرائه العامة إزاء الحلفاء والتجارة: فقد صرح بأن الجزيرة بعيدة جداً من الولايات المتحدة ويصعب الدفاع عنها، وأنه يتعين عليها أن تدفع أكثر مقابل الحماية الأميركية، واتهم تايبيه بسرقة صناعة أشباه الموصلات الأميركية. والخطر يكمن في أنه قد يرى تايوان مجرد بيدق في لعبة أكبر مع الصين. ومن المؤكد أن ترمب سيرغب في إبرام صفقات تجارية مع بكين، مستخدماً فرض التعريفات الجمركية وتهديد الحرب التجارية كوسيلتي ضغط. وقد يكون لذلك تأثير مدمر للغاية. لكن الأخطار وحال عدم اليقين ستتضاعفان بصورة هائلة إذا خلط بين التجارة والأمن من خلال إقحام تايوان في أي صفقة محتملة.
كذلك، وعد ترمب بإنهاء الحرب في أوكرانيا. وستخضع الطريقة التي سيحاول بها فعل ذلك إلى مراقبة عن كثب في مختلف أنحاء آسيا، بخاصة في الصين. ومع ذلك، من المهم عدم الربط المباشر بين كيفية تعامل ترمب مع أوكرانيا وما قد تستنتجه بكين في شأن كيفية تعامله مع تايوان. فالظروف الجيوسياسية في أوكرانيا وتايوان ليست متطابقة، وهو أمر أشارت إليه الصين نفسها. والأهم من ذلك أن تايوان تقع في صميم السردية التي تمنح الحزب الشيوعي الصيني شرعيته، وأي مغامرة عسكرية صينية فاشلة أو متعثرة ضدها قد تهز أسس حكم الحزب في بكين. وبسبب الأهمية البالغة التي يوليها قادة الصين لـ”إعادة التوحيد” مع تايوان، فهم لن يخاطروا بها، خصوصاً أن فضائح الفساد المتكررة في أعلى مستويات المؤسسة العسكرية الصينية أثارت شكوكاً وتساؤلات حول كفاءة الجيش وقدراته. والعمل العسكري ليس الخيار المفضل لدى بكين لتحقيق “إعادة التوحيد”، حتى لو كانت القيادة الصينية تحاول باستمرار تعزيز قدرة الصين على استخدام القوة من أجل إنجاز هذا الهدف.
إن تصريحات بايدن الداعمة بوضوح لتايوان أدت إلى تأجيج شعور متزايد في تايبيه بأحقيتها في الحصول على الحماية، إذ باتت تعتقد بأن الولايات المتحدة وحلفاءها سيكونون ملزمين الدفاع عنها ضد أي عدوان صيني. وأسهم ذلك أيضاً في تضخيم تقييم تايوان لأهميتها الاستراتيجية في الاقتصاد العالمي، وهو تقييم ينبع من اعتقاد مبالغ فيه حول دورها الذي لا غنى عنه في صناعة الرقائق، بخاصة شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات “تي أس أم سي” TSMC. لا شك في أن الأخيرة شركة بارزة تهيمن على تصنيع أشباه الموصلات المتقدمة، لكنها في النهاية مجرد شركة تصنيع تعاقدي. وحقيقة أنها قادرة على إنتاج الرقائق على نحو أفضل من أي شركة أخرى لا تعني أن غيرها غير قادر على فعل ذلك. على أي حال، كانت شركة “تي أس أم سي” بدأت تنقل بعض أنشطتها من تايوان إلى الولايات المتحدة واليابان، وقد تستكشف أيضاً إمكان نقل أجزاء من عملياتها إلى الهند وأوروبا وجنوب شرقي آسيا. وقد تؤدي هذه التحركات إلى تقليل أهمية تايوان الاقتصادية على المدى الطويل.
وإذا تراجع ترمب عن دعم أوكرانيا، على سبيل المثال، من خلال ربط استمرار المساعدات الأميركية بمدى استعداد كييف للتفاوض مع موسكو، أو إذا اتخذت إدارته خطوات جادة لتحسين القدرات الأميركية في تصنيع أشباه الموصلات، فهذا سينبئ تايبيه بأنها لا تستطيع الاعتماد على دعم غير محدود من واشنطن. ومن الممكن أن تمنع مثل هذه الخطوات السياسة الداخلية التايوانية من الانجراف نحو اتجاه مزعزع للاستقرار، مثل اتخاذها ربما موقفاً أكثر صراحة في تأييد الاستقلال مما قد يجبر بكين على الرد بتكثيف التدريبات العسكرية حول تايوان أو التحرك ضد جزيرة تايبينغ الصغيرة في بحر الصين الجنوبي التي تحتلها وتديرها تايوان.
في الحقيقة، ينبغي عدم المبالغة في تقدير تأثير الحرب في أوكرانيا في البلدان الأخرى في آسيا. فقد اتخذت أستراليا واليابان وسنغافورة وكوريا الجنوبية مواقف مبدئية قوية وواضحة ضد العدوان الروسي في أوكرانيا، إلا أن معظم دول المنطقة تتعامل مع القضية بتردد. وترى البلدان ذات الغالبية المسلمة في جنوب شرقي آسيا، خصوصاً، معايير مزدوجة في إدانة واشنطن لروسيا، مشيرة إلى الحروب التي بدأتها الولايات المتحدة أو دعمتها في أفغانستان والعراق وغزة ولبنان، من بين صراعات أخرى. وستسعى دول آسيوية متعددة إلى حماية مصالحها الوطنية من خلال احتساب الكلف والفوائد. وإذا بدت النتيجة متوازنة، أي إذا كان التوازن بين الكلف والفوائد مقبولاً، فستسعى جاهدة إلى الحفاظ على العلاقات مع الولايات المتحدة، معتبرة مواقف ترمب تجاه تايوان وأوكرانيا ذات أولوية ثانوية بالنسبة إليها. والموضوع الأكثر إثارة للقلق هو الصين. فهذه القضية وحدها دفعت حتى الدول غير المنحازة تقليدياً مثل الهند وإندونيسيا وفيتنام إلى التقرب من واشنطن، وهو اتجاه بدأ خلال إدارة ترمب الأولى وتوسع في عهد بايدن.
البحث عن قائد
بالنسبة إلى كثير من الدول الآسيوية، تعتبر السياسة التجارية العنصر الأكثر إثارة للقلق ربما في عودة ترمب. فلقد تفاخر ترمب بأن “التعرفة الجمركية” هي كلمته المفضلة، وسيكون من الحكمة أن تأخذه الحكومات الأجنبية على محمل الجد، لا سيما إذا منح مزيد من صقور التجارة، مثل جيمسون غرير الذي رشحه ترمب ممثلاً للتجارة الأميركية، أدواراً رئيسة في السياسة التجارية للولايات المتحدة. وسيستخدم ترمب التعريفات الجمركية كوسيلة ضغط على الصين، على الأرجح انطلاقاً من فرضية أن بكين لم تفِ بالتزاماتها بموجب الاتفاقية التجارية التي توصلت إليها الدولتان في نهاية ولايته الأولى. ويبدو من المؤكد أن إدارة ترمب ستفرض تعريفات جمركية جديدة على الصين، ومن المحتمل جداً أن تستهدف أيضاً دولاً أخرى لديها فائض تجاري كبير مع الولايات المتحدة، بما في ذلك ماليزيا وتايلاند وفيتنام.
وستردّ بكين بطريقة ما لأنها لن ترغب في أن تبدو بمظهر الضعيف. وقد تقيد مشكلاتها الاقتصادية رد فعلها، لكن هذا الأمر يمثل مصدر قلق آخر. فإن مشكلات بكين الاقتصادية تعود أساساً لانهيار الثقة بإدارة البلاد للاقتصاد. وهذه أزمة سياسية أيضاً لأنها تنبع من الشكوك التي تراود كثيراً من النخب الاقتصادية والفكرية الصينية والطبقة المتوسطة، في شأن المسار الذي قاد شي البلاد إليه. فمن خلال إعطاء الأولوية للرقابة السياسية والأمن على حساب الكفاءة الاقتصادية، دفع شي الدولة في اتجاه أكثر لينينية، مما أدى إلى تباطؤ النمو وزيادة الضغط على العقد الاجتماعي الصيني بعد حقبة ماو الذي أتاح للصينيين مساحة أكبر لممارسة الأنشطة الاقتصادية وغيرها، ما دام أنهم لم يتحدوا الحزب علناً.
وبالتزامن مع حرب ترمب التجارية الجديدة، فإن التباطؤ الاقتصادي المترتب قد يؤدي إلى دخول الصين في حلقة مفرغة. ففي مختلف أنحاء الصين، تكبدت الحكومات المحلية ديوناً ضخمة كانت مدعومة بفقاعة عقارية انفجرت أخيراً. وقد أسهم انهيار قطاع العقارات في إضعاف ثقة المستهلك، مما جعل من الصعب تعزيز الطلب المحلي. ونتيجة لذلك، اعتمدت بكين على الاستثمار الموجه من الدولة لتحقيق النمو، مما أدى إلى فائض في الإنتاج في قطاعات التصدير الرئيسة: في الواقع، إن الشركات الصينية تغرق الأسواق بالسيارات الكهربائية والبطاريات الرخيصة، مما يزيد من حدة التوترات التجارية مع الغرب ويرفع احتمالات فرض تعريفات جمركية جديدة وتوترات جيوسياسية. وهذه التوترات تزيد من تفاقم المشكلات الاقتصادية للصين وتجعل من الصعب على بكين إجراء تغييرات كبيرة في السياسة من دون أن تبدو ضعيفة. ومن خلال تصدير فائض طاقتها الإنتاجية، تزيد الصين أيضاً من احتمالية فرض الولايات المتحدة ودول أخرى أنظمة تعريفات جمركية صارمة عليها، مما يقوض ثقة المستهلك أكثر ويؤدي إلى اعتماد أكبر على الاستثمار والصادرات الموجهة من الدولة. وإذا أدخل هذا المسار الاقتصاد الصيني في حال تباطؤ طويلة الأمد، فإن طريقة رد بكين المحبَطة ستكون لها عواقب أمنية واقتصادية في جميع أنحاء آسيا، لا بل في العالم بأسره.
بالنسبة إلى كثير من الدول الآسيوية تشكل السياسة التجارية العنصر الأكثر إثارة للقلق في عودة ترمب
في الحقيقة، إن الردع النووي المتبادل يجعل من المستبعد إلى حد كبير أن تؤدي التوترات بين الصين والولايات المتحدة إلى صراع عسكري. ولكن هناك قليلاً مما يمكن لأي طرف فعله من أجل تخفيف حدة المنافسة المتصاعدة بين واشنطن وبكين. وفي خضم هذه التوترات المتصاعدة، لا تنظر سوى قلة من الحكومات الآسيوية إلى العلاقات مع الولايات المتحدة أو الصين على أنها خيار ثنائي، أي لا تعتقد بأنها مجبرة على الاختيار حصرياً بين الانحياز إلى طرف ما: بل ستحاول بدلاً من ذلك العمل على نحو أوثق مع بعضها بعضاً للتحوط ضد حال عدم اليقين الناجمة عن سياسات شي الاقتصادية وعودة ترمب. ولكن من خلال القيام بذلك، تواجه هذه الدول قضية أخرى: من سيقود المنطقة فعلياً؟.
وكان قرار ترمب عام 2017 بالانسحاب من اتفاق “الشراكة عبر المحيط الهادئ” بمثابة صدمة لحلفاء الولايات المتحدة وأصدقائها، ولا يزال صدى هذا القرار يتردد في جميع أنحاء آسيا. لكن المنطقة تكيفت بسرعة بعد أن حشد رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي أعضاء “الشراكة عبر المحيط الهادئ” لمواصلة المسار من دون واشنطن وتحويل الاتفاق إلى “الشراكة التقدمية والشاملة عبر المحيط الهادئ”. واستطراداً، تحرك آبي بسرعة لإقامة علاقة شخصية وثيقة مع ترمب، مما ساعد على الأرجح في تليين نهج الرئيس الأميركي تجاه اليابان وشركاء الولايات المتحدة الآخرين في شرق آسيا خلال ولايته الأولى.
أما اليوم، فإن الحلفاء الثلاثة الأهم للولايات المتحدة، أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية، يحكمها قادة سياسيون ضعفاء. والرئيس الإندونيسي الجديد برابوو سوبيانتو يريد اتباع نهج أكثر نشاطاً في السياسة الخارجية، لكنه لم يثبت نفسه بعد على الصعيدين الإقليمي أو الدولي. وعندما زار سوبيانتو الولايات المتحدة في نوفمبر (تشرين الثاني) بعد الانتخابات، تحدث مع ترمب عبر الهاتف قائلاً بحماسة: “أينما كنت، أنا على استعداد للسفر وتهنئتك شخصياً، سيدي”. وردّ ترمب بصورة إيجابية على إبداء هذا الاحترام، ولكن لم يُعقد أي اجتماع بينهما. ومن الواضح أن المنطقة تحتاج إلى شخص ما يتولى زمام الأمور مثلما فعل آبي الراحل، ولكن لا يوجد مرشح واضح لهذا الدور.
كثيراً ما كانت أميركا أولاً
تشير تجربة آسيا الطويلة مع واشنطن إلى أن ترمب ليس حالاً استثنائية فريدة. فالدول الكبيرة بحجم قارة، مثل الولايات المتحدة، تميل إلى التركيز على شؤونها الداخلية أكثر من الشؤون الخارجية. وإن تردد ترمب في إشراك البلاد في التزامات خارجية يمثل توجهاً كان حاضراً في السياسة الخارجية الأميركية منذ أن حذر جورج واشنطن من التحالفات الدائمة في خطاب الوداع الذي ألقاه عام 1796. وقبل الحرب العالمية الثانية، دخلت الولايات المتحدة في الشؤون الخارجية بصورة متقطعة، ولم تدُم أي من تلك الفترات طويلاً. ولم تُجبَر واشنطن على مواجهة التهديدات التي شكلتها الفاشية في أوروبا والنزعة العسكرية في اليابان إلا بعد الهجوم المباشر على الأراضي الأميركية في بيرل هاربور عام 1941، وبعد الحرب العالمية الثانية، أدى التهديد الوجودي الذي شكله الاتحاد السوفياتي إلى دخول الولايات المتحدة في الحرب الباردة. وكانت السنوات الـ50 الممتدة بين عامي 1941 و1991، عندما انهار الاتحاد السوفياتي من الداخل، هي أطول فترة من الانتظام الخارجي المتواصل في تاريخ الولايات المتحدة.
منذ انهيار الإمبراطورية السوفياتية، لم تواجه الولايات المتحدة تهديداً وجودياً مماثلاً. فصحيح أن الصين منافس قوي، وروسيا بقيادة بوتين تشكل خطراً كبيراً، ولكن أياً منهما لا يمثل نوع التهديد نفسه الذي شكله الاتحاد السوفياتي. إذاً، لماذا يجب على الأميركيين، وفقاً للتعبير الشهير للرئيس جون أف. كينيدي، “تحمل أي عبء أو دفع أي ثمن” للحفاظ على النظام الدولي؟. وعلى رغم تأثيرها الكبير، قد تكون فترة النصف قرن التي اضطرت خلالها الولايات المتحدة إلى الدخول بصورة ثابتة ومتواصلة في الشؤون الخارجية، ومرحلة “الحرب على الإرهاب” في الأعوام الأولى من القرن الحالي، استثناءً وليس القاعدة. في الواقع، مع عقيدة نيكسون، كانت السياسة الأميركية تجاه معظم آسيا عادت بالفعل لموقف أقل تدخلاً حتى خلال العقود الأخيرة من الحرب الباردة.
لذا، بدلاً من التوق إلى القيم المشتركة المتخيلة التي كانت سائدة منذ عصر مضى، سيكون من الحكمة أن يتعامل حلفاء الولايات المتحدة وشركاؤها مع السياسة الخارجية لإدارة ترمب الثانية على أنها عودة للوضع الطبيعي للولايات المتحدة. وعلى غرار نظيراتها في آسيا، يجب على الدول الغربية أن تتعلم التعامل مع واشنطن ليس كقوة عظمى ذات استعداد يكاد يكون غير محدود للدفاع عنها، بل كقوة موازنة خارجية تستخدم قواتها بانتقائية لتعزيز المصالح الأميركية أولاً.
بيلاهاري كاوسيكان هو السكرتير الدائم السابق لوزارة الخارجية في سنغافورة.
مترجم عن “فورين أفيرز”، 7 يناير (كانون الثاني) 2025
نقلاً عن : اندبندنت عربية