في كل مرة تتوتر فيها العلاقات بين الجزائر وباريس يطفو على السطح اتفاق الهجرة الموقع في عام 1968 بين البلدين، إذ تدعو جهات فرنسية إلى إلغائه بعدما كان المطلب هو مراجعته بمبرر أنه بات غير صالح، لكن ما يثير الانتباه هو أن ذلك الاتفاق يسيطر على مشهد الخلافات بين الطرفين أكثر من أي ملف آخر، فما القصة؟
شد وجذب والسبب اتفاق
ويعرف اتفاق الهجرة الموقع بين الجزائر وفرنسا شداً وجذباً منقطع النظير، لدرجة أن أطرافاً عدة تتساءل حول أهميته مقارنة بملفات اقتصادية واجتماعية تربط البلدين، وبات الاتفاق الثنائي ورقة تلوح بها فئات واسعة من الفرنسيين عندما يتعلق الأمر بـ”الضغط” على الجزائر أو بغية تحقيق مصالح.
وأمام تضارب الآراء الفرنسي بين مؤيد ورافض للنبش في الملف على جميع المستويات، من السياسة إلى الإعلام، تتجاهل الجزائر الاتفاق وتدير ظهرها للمطالب الفرنسية، بل وتواجهها بالكشف عن حقائق عما تقول إنه “لا إنسانية” فرنسا الاستعمارية ومجازرها التي ارتكبتها في حق الشعب الجزائري خلال فترة الاحتلال الممتدة من عام 1830 وحتى 1962.
وفي ظل التوترات الحادة التي تشهدها علاقات البلدين، التي تصاعد لهيبها مع اعتقال الجزائر الكاتب بوعلام صنصال ومحاولة فرنسا ترحيل “مؤثر” من دون محاكمته، دعا وزير الداخلية الفرنسي برونو روتايو الأحد الماضي، في مقابلة مع محطة “بي أف أم تي في” الإخبارية، إلى إنهاء العمل باتفاق 1968 الذي “يمنح الجزائريين امتيازات خاصة في ما يتعلق بالسفر إلى فرنسا والإقامة فيها والعمل على أراضيها”.
دعوات إلى إلغائه والبرلمان يرفض
واعتبر روتايو أن الاتفاق “عفا عليه الزمن وشوه الهجرة الجزائرية”، مطالباً بإعادة طرحه للنقاش مجدداً على الطاولة، وختم بتجديد دعوته إلى إعادة النظر في اتفاق عام 1968 كجزء من استراتيجية أوسع للتعامل مع التحديات التي تواجه العلاقات بين البلدين.
وقبله أعلن رئيس الوزراء الفرنسي السابق إدوار فيليب عزمه إلغاء الاتفاق، مؤكداً أنه “لم يعد صالحاً”، بينما أشار السياسي اليميني الفرنسي إريك زمور إلى أنه في حال وصوله إلى السلطة فسيعمل على إلغاء الاتفاق، في حين دعا السفير الفرنسي السابق لدى الجزائر كزافييه درينكور إلى ضرورة مراجعة الاتفاق، معتبراً أن “أحكام الاتفاق باهظة، ولا يمكن التحايل عليها ما دامت الاتفاقات الدولية لها الأسبقية على القانون”، وقال إن “الأمر يبدو كأن قوانين الهجرة الفرنسية لا تنطبق على الجزائريين”.
كما قدم وزر الداخلية برونو ريتايو، عندما كان يترأس رئيس مجموعة حزب الجمهوريين اليميني في مجلس الشيوخ، مع عدد من زملائه، اقتراح قانون يطالب بإلغاء الاتفاق.
وطرحت مجموعة نواب “الجمهوريين” في البرلمان مشروع قانون من أجل إنهاء اتفاق 1968، إلا أن البرلمان الفرنسي رفض إقراره بغالبية 151 صوتاً أمام تأييد 114 نائباً.
ماذا في الاتفاق؟
اتفاق 1968 هو معاهدة لتنظيم الهجرة بين الجزائر وفرنسا، جاء بعد استقلال الجزائر في عام 1962، وعلى خلفية اتفاقات “إيفيان” التي نصت على أن “أي جزائري يحمل بطاقة هوية يحق له التنقل بين الجزائر وفرنسا ما لم يصدر حكم قضائي يمنعه”، وتسبت في هجرة جماعية للجزائريين في صيف 1962، مما دفع باريس مع بداية 1963 إلى فرض قيود على الجزائريين ووضع إجراءات جديدة بحسب تغير الأوضاع في البلدين، واستمر الحال إلى غاية 1968 التي شهدت توقيع اتفاق نهائي يعرف باتفاق الهجرة لعام 1968.
ووقع كل من وزير خارجية الجزائر آنذاك عبد العزيز بوتفليقة، وسفير فرنسا لدى الجزائر جان باديفان، في الـ27 من ديسمبر (كانون الأول) 1968، على الاتفاق الذي يسمح بدخول 35 ألف عامل جزائري إلى الأراضي الفرنسية سنوياً، كما يسمح لهم هذا النص بالبقاء مدة تسعة أشهر للعثور على عمل، وفي حال نجاحهم في الحصول على فرصة عمل، يحصل طالبو الهجرة على تصريح إقامة صالح لمدة خمس سنوات لهم ولأسرهم.
وكان يمكن للسياح الجزائريين الحاملين لجواز سفر أن يدخلوا فرنسا بصفة حرة والبقاء فيها لمدة ثلاثة أشهر بموجب الاتفاق نفسه، وتلتزم باريس من جهتها بتحسين التكوين المهني وظروف سكن المهاجرين الذين غالباً ما كان يقتصر تشغيلهم على الوظائف الأكثر صعوبة، ويتم إيواؤهم في أحياء قصديرية.
كما يحصل الجزائريون على إقامة مدتها 10 سنوات بعد ثلاث سنوات من الإقامة القانونية، مقارنة بمدة خمس سنوات المدرجة في القانون العام الفرنسي، ويمكن للمقيمين منهم بصورة غير قانونية الحصول على وثائق إقامة تلقائياً إذا استطاعوا إثبات إقامتهم مدة 10 سنوات، ويتحصلون على تسهيلات في تأسيس الأعمال أو ممارسة المهن الحرة، من دون اشتراط إثبات جدوى النشاط قبل الحصول على تصريح الإقامة.
3 تعديلات وفشل الرابع
وخضعت الاتفاقية لثلاثة تعديلات رئيسة، الأول في عام 1985، ومن خلاله فرضت باريس تأشيرات الدخول على الجزائريين، بعدما كانت حرية التنقل مضمونة، والثاني حدث في عام 1994 ونص على ألا تتعدى مدة الغياب عن فرنسا ثلاث سنوات لتجنب إلغاء شهادة الإقامة، بينما التعديل الثالث الموقع في 2001 كان الهدف منه أن يتوافق مع القوانين الفرنسية المحدثة، بهدف تقليل التباين بين حقوق الجزائريين وبقية الأجانب، مع الاحتفاظ ببعض الامتيازات الخاصة بهم.
وقبل نهاية عام 2022، قالت رئيسة الوزراء الفرنسية السابقة إليزابيت بورن، خلال زيارة رسمية للجزائر، إنها تحضر لمراجعة الاتفاق، في صورة مراجعة أو تعديل رابع، لكن الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون رد في مقابلة مع جريدة “لو فيغارو” الفرنسية في ديسمبر (كانون الأول) 2022، قائلاً “لقد تم التفاوض على حرية تنقل الجزائريين في فرنسا ويتعين احترامه، هناك خصوصية جزائرية حتى بالمقارنة مع البلدان المغاربية الأخرى”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الاتفاق استجابة للحاجة إلى العمالة؟
وترفض جهات فرنسية ذات وزن سياسي ومجتمعي التعامل “السلبي” مع الجزائر، وتندد بالدعوات إلى إبطال بنود اتفاق الهجرة، إذ أعرب رئيس الحكومة الفرنسية السابق دومينيك دوفيليبان عن استيائه من طريقة تعامل السياسيين الفرنسيين مع الملفات الدبلوماسية. وقال “بعضهم يتعامل مع الدبلوماسية على منصة إكس”، مشيراً إلى حديث بعضهم عن ضرورة وقف العمل باتفاق الهجرة لـ1968، وتساءل دوفيليبان “هل من المعقول أن نطالب بهذا الأمر بالنظر إلى التاريخ الذي نملكه مع الجزائر؟”.
كما اعترف الصحافي الفرنسي المدير السابق لمجلة “لو نوفيل إيكونوميس” جان بيار سيريني، أن الاتفاق “صمم لتسهيل الهجرة الاقتصادية واستجابة للحاجة إلى العمالة المهاجرة خلال فترة الثلاثينيات المجيدة”، مشيراً إلى أن “النص الذي يتحدث عن حرية التنقل بين البلدين للمواطنين الجزائريين أفرغ من محتواه على مر السنين، ولم يعد له أي تأثير في تدفقات الهجرة”، وأوضح سيريني أن “معارضي هذا الاتفاق يطلقون النار ولا يصيبون، إذ إن بطاقة الإقامة التي استبدلت بشهادة الإقامة يستفيد منها 600 ألف جزائري مقيمين عموماً منذ مدة طويلة”.
“جعجة بلا طحين”
ويصف الجزائريين المطالب والدعوات الفرنسية إلى إلغاء الاتفاق بـ”الجعجة بلا طحين”، كونها في الأصل تخدم فرنسا التي كانت تبحث عن العمالة لإعادة إعمار ما دمرته الحرب العالمية الثانية، وبالنظر إلى الإحصاءات الرسمية الفرنسية فإن حصة الجزائريين من وعاء المغتربين الأجانب لا تتجاوز 12.2 في المئة، في حين يشكل المغاربة الذين لا يجمعهم بفرنسا اتفاق خاص بحرية التنقل نحو 11.7 في المئة، يليهم التونسيون بنسبة 4.8 في المئة.
وفي عام 2023 أصدرت مصالح الهجرة في فرنسا ما يعادل 326 ألفاً و954 تصريح إقامة لصالح المهاجرين، مقارنة بـ318 ألف تصريح في عام 2022، و287 ألفاً في 2021. وحصل الجزائريون على 31 ألفاً و943 تصريح إقامة، في مقابل ما يناهز 36 ألفاً و648 تصريح إقامة للمغربيين، أي أن تصاريح الجزائريين كانت أقل بنحو 5 آلاف تصريح، فيما حل التونسيون في المرتبة الثالثة بنحو 22 ألفاً و639 تصريح إقامة.
محاولة للضغط
في السياق يعتبر الباحث في الشؤون الدولية عبدالرحمن بوثلجة أن التلويح بورقة اتفاق الهجرة لعام 1968، هو محاولة للضغط على الجزائر بعد فشل كل سبل ترويضها بفرض الإملاءات، مضيفاً أنها “جاءت في سياق تاريخي حساس يتعلق باستقلال الجزائر، وما رافقه من أوضاع اجتماعية مزرية صعبة واقتصادية متأزمة”. وأشار بوثلجة إلى أن “الاتفاق أعطى بعض المزايا للمهاجرين الجزائريين بخصوص التنقل والعمل والإقامة، على اعتبار أن فرنسا كانت بحاجة إلى أيدي عاملة في سياق إعادة إعمار ما هدمته الحرب العالمية الثانية وكذلك مسايرة الثورة الصناعية”.
ويرى بوثلجة أن “الأوضاع تغيرت ولم تعد الجزائر بحاجة إلى أن ترسل مواطنيها كعمال إلى فرنسا أو غيرها، بل على العكس تماماً تحاول فرنسا استنزاف النخبة مثل الأطباء والمهندسين والباحثين بغرض الاستفادة منهم لصالح اقتصادها ومجتمعها”، مشدداً على أن “المستفيد من هذا الاتفاق هو فرنسا بعد أن غيرت في طريقة تطبيق نصوصها من دون ضجيج، باعتمادها على الهجرة الانتقائية واستقبالها الفئات العلمية، بدليل تفضيل منح التأشيرات لهذا النوع من الطالبين”.
الرغبة في التبعية والارتباط العضوي
من جانبه يرى الإعلامي المهتم بالشؤون الدولية حكيم مسعودي أنه “لا يمكن فهم انزعاج فرنسا ورغبتها في التخلص من الالتزام الذي تورطت فيه عبر اتفاق 1968، إلا من خلال فهم السياق الذي جاءت فيه والدوافع التي جعلت باريس تمنح هذا الامتياز، وهي الرغبة في أن تبقى الجزائر في تبعية وارتباط عضوي بفرنسا حتى بعد استقلالها سياسياً”، وقال إن “هذه السياسة لم تطبق مع الجزائر فقط، لكن مع كل المستعمرات، الاختلاف أن الأمر تم بدرجات متفاوتة، والجزائر هي التي كانت تحظى باهتمام بالغ نظراً إلى طبيعة احتلالها وعدم تقبل ضياعها”.
ويواصل مسعودي أنه “مع مرور الوقت تحول هذا الاتفاق إلى فتحة نفوذ جزائري في فرنسا من خلال الأعداد المتزايدة من المهاجرين، واتضح هذا الإشكال أكثر فأكثر مع أزمة الهوية المعلنة داخل فرنسا التي تعود في كل مرة للواجهة، مشيراً إلى أن باريس باتت تنظر إلى عدم جدوى الاتفاق بعد سقوط أسباب توقيعه، فهي اليوم تمثل صفقة خاسرة بالنسبة إلى فرنسا وعبئاً قانونياً تحاول بكل الطرق وفي كل موعد التخلص منه عبر طلب مراجعتها”. وأضاف أنه “مع فقدانها أوراق الضغط تلو الأخرى، لا تملك فرنسا أفضل من هذه الورقة لطرحها، إما بالمساومة لمصالح أخرى أو التخلص منها في حد ذاتها”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية