يستكشف معرض جوزف حوراني في أكثر من ثلاثين عملاً نحتياً قدرة الخطوط العربية، بشتى أنواعها وقواعدها وأنظمتها، على التكيّف مع التجريب المفاهيمي في حقبة المعاصرة.
تبدو المنحوتات كنوافذ لرؤى متعددة الأوجه والمعاني، بين غائر ونافر ومُسنن ومسطح ومقوّس ومستقيم وهندسي قاسٍ وآخر لين، وفارغ وملآن وظاهر وباطن وجليّ وغامض، تعكس فكر ما بعد البنيوية، الذي يعتمد على مبدأ تأصيل علم اللغة الحديث وعلم العلامات وفق فلسفة العالم الألسني دوسوسير التي تقوم على تفكيك اللغة والفصل بين الدال والمدلول. ومنه تنبثق الرحلة الشيقة للفنان، في ليل المعاني على ضوء جمالية الحرف، وقراءته منفصلاً عن المعنى، كشكل جمالي، وكعمارة وبُنية سردية ذات مؤدى بصري. لعل أهم صفة تجمع بين الحروف هي العناق والتشابك والتعالق في توليف السياقات، والعلاقات بين مربعات الفراغ وحركة المستطيلات الناتجة من طريقة تفريغ الخشب يدوياً لكي تخرج الحروف والعلامات من إيحاءاتها اللغوية المباشرة إلى كينونتها الفنية في استلقائها الأفقي أو العمودي على السطوح الأربعة لكل منحوتة.
تحتمل قراءة منحوتات جوزف حوراني الكثير من التأويلات. قد يرى البعض أنها في عموديتها تشكل امتداداً معاصراً لتراكيب بيوت الشعر في منحوتات سلوى روضة شقير، لكنها تختلف عنها كلياً بسبب تقنية إنجازها على قطعة واحدة من الخشب في بنية غير قابلة للتفرقة أو التجزئة وإعادة التركيب. فهي تذهب في تشكيلها إلى ما هو أبعد من الأرابسك والزخرفة الحروفية والرقش، لكي تنبري للعيان كقامات طوطمية مبهرة، تعيد إلى الأذهان طلاسم كتابات سعيد أ. عقل ورشاقة حروفيات سمير الصايغ في فضاء ثلاثي البعد. لكن نحت حوراني يتخطى ذلك ليذهب إلى ما هو أكثر تعقيداً، إذ يرتكز في خطابه البصري على عمارة الشكل التي تبدأ بعمل الفنان على وضع رسومات تصميمية- هندسية للأوجه الأربعة للمنحوتة على الورق، قبل البدء باختيار نوع الخشب وطريقة تفصيله على قطعة واحدة من دون توصيل. إنها الفكر ثم التقنية المعتمِدة بشكل كليّ على عمل اليد، بعيداً من الآلة التي لا تراعي عند القص والقطع، عروق الحياة المتشعبة داخل الخشب، وما يمكن أن تُضفيه من جمال وأصالة وحيوية على سطح الخشب الذي لا يزال يحتفظ بلمسات ضربات المطرقة والإزميل.
التّناص بين الماضي والحاضر
لا يسعنا في التفاتة جوزف حوراني إلى التراث الحروفي القديم في الفنون الإسلامية كمصدر وحي إلا أن نعترف بأهمية المعطيات الجمالية التي استنبطها من ماضي التراث الإسلامي، وأن نتذكر أيضاً هؤلاء الذين ابتكروا في الغرب تيار التجريد الحروفي وهو “الفن الذي يقبل اختزال مادة الحروف لتصبح نفسها ببساطة – إضافة أو استبدال العناصر الشعرية والموسيقية بالكامل- والذي يتجاوزها ليشكل أعمالاً متماسكة في كتلتها، بحسب تعريف إيزودور إيسّو عام 1947″، وأن نتذكر أيضاً التفاتة البلجيكي ويم دلفوي الذي فاجأ النحت المعاصر، بآلاته ومُحرِّكاته التي لا تعمل ولا تتحرك، ولكنها تخلب النظر بِنَمنماتِ زخارفها الخشبية المستوحاة من واجهات الكنائس القوطية. إنه ليس التّماس بين نزعة التجديد التي تتقاطع بين الغرب والشرق، بقدر ما هو “التّناص” الذي يحمل شعار هذا المعرض في إشارة إلى الينبوع الأول الذي تدفقت منه أفكار حوراني، وتعود إلى تأثيرات رسوم أستاذه الفنان الأرمني اللبناني غوفدير، حين كان طالباً في الأكاديمية اللبنانية (ألبا) في بيروت.
يحيل التجوال بين رسوم الفنان الراحل غوفدير (حبر وسانغين) المعلقة في الجناح العلوي من الغاليري، إلى الكِتاب الذي وضعه حوراني عن أستاذه بالفرنسية، كما يشير إلى القرابة بين الأشكال الإنسانية الموزعة في الفراغ المحيط في رسوم غوفدير وبين التشكيل الغرافيكي في رسوم حوراني التي تعود لأواخر التسعينيات حين كان طالباً آنذاك. فهو بعد دراسته الرسم انصرف لدراسة العمارة وتابع دروساً في الفلسفة والموسيقى ثم تخصص في الهندسة المدنية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في أميركا (2010) لاستكشاف الحدود الجديدة للمبادئ المعمارية في عصر التفاعل السيبراني. من بعدها أخذه الشغف نحو تعلّم الكتابة الحروفية فعاش مثل البدوي في الصحاري وجالَ كالرحالة في المؤلفات متنقلاً في عدة دول عربية، مكث في المغرب يتعرف إلى أنواع الأقلام، ثم أخذ يشق دربه في الحروف بأقلام القصب التي يصنعُها كي يرنّ الحرف ويرقص في الفضاء طائراً مثل ريشة.
لئن كانت الكتابة هي ذاكرة الشعوب، فإن هذه الذاكرة هي على حدود ما بين الفن والتقنية والكتابة ومحيطها وانعكاس اللغة والموسيقى واللّعِب بقوافي الشعر، والحروف وعلاماتها، كشواهد على تجليات الحضارة الإنسانية. وفي هذا السياق تتراءى في التصاميم الخطية التي يقدمها حوراني الكثير من الحِكَم والأقوال المأثورة وأبيات من الشعر العربي فضلاً عن البسملة، لا سيما عبارات “الحب”، وهي بمثابة الشغف أو الإلهام الذي تنبعث منه رحلة تشكيل المنحوتة، بقوامها الفني والجمالي.
أمام هذا التناقض في مصادر الوحي اللغوي بين الجلاء والمحو يقول الفنان: “توقفتُ عند إشكالية الكتابة في درجة الصفر لرولان بارت وحاولتُ أن أزيل العوائق المرتبطة باللغة المرتبطة بالمقدس الديني فعملت على تفكيك العبارات. كان عليّ أن أمحو المعنى أي أعرّي اللغة، لكي يتجلى الحرف بأناقته في العمل الفني، وليس بالضرورة أن يُقرأ لغوياً، فأدخلتُ الحروف بعضها ببعض وفي كل الاتجاهات بطريقة المرآة وبالمقلوب أحياناً، في ذهاب إلى ما وراء اللغة على طريقة بارت. لذا أكتب على وجهيْ المنحوتة حروفاً وأدرس تقاطعاتها، أين تتلاقى وكيف تتفارق وكيف تتواصل وتتناغم. وقد جرّبتُ كلَ أنواع الخطوط من رقص الخط الديواني إلى هندسة الكوفي وانحناءات الثُلث والرقعي… لعل أصعب أنواع النقش الحروفي هو الخط السنبليّ لسبب تمدده وتفرعه. إنه عمل يشبه التطريز ويخبئ الكثير من المفاجآت التي تتظهر لي أثناء العمل. المنحوتة بالنسبة لي هي بنيانٌ يشبه العمارة المنضوية على الموسيقى، مع الخشب الذي يرن والحروف التي تتراقص”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
منحوتات جوزف حوراني بما تقدمه للعين من متعة شبيهة بالتنزه بين حدائق الحروف باستعاراتها وغصون عناقيدها وسحر وشوشاتها وتدفقاتها العمودية كشلالات، جديرة بالتقييم كتجارب تضيف إلى التجريد الحروفي المعاصر بعداً جديداً في الفضاء، بحيث أن كل قطعة منجزة بيد الفنان هي تحفة فريدة.
نقلاً عن : اندبندنت عربية