تجارب علمية غرائبية عن الكائن الاجتماعي وتوحشه وميوله الجنسية

تجارب علمية غرائبية؟ ماذا لو ابتدأنا بالتفكير بأن العلم مملوء بالغرابة، بل لعله، بحد ذاته، تجربة إنسانية غريبة. لماذا يريد هذا الكائن السائر على قدمين أن يصنع علماً بالأصل؟ هل أن اكتشاف الكون والسعي إلى ملامسة حدوده أمر عادي؟ هل نستغربه؟ ماذا نسمي إنساناً يتخيل أنه ينزلق على أشعة الضوء وبسرعة تكاد توازيه؟ غرائبي؟ ربما، لكنه ألبرت أينشتاين.

تشرق الشمس وتدور في كبد السماء، لكن يصر كوبرنيكوس وغاليليو على تجارب تثبت أنها ثابتة وأن الأرض المنبسطة سطحاً تحت أقدامنا، هي كرة تدور حولها، أكانت تلك التجارب غرائبية؟

الأرجح أنه ما لم يخالط العقل والتفكير شيئاً من الغرابة، بل الغرائبية، فستصعب مواكبة مسار العلم وتوثباته وآفاقه.

 

لقد أعجب البشر قروناً طويلة بالنمل ودأبه والانتظام في عمله وبيوته، وكذلك الحال بالنسبة إلى النحل، بل ضربت بهما الأمثال في الحضارات الإنسانية. لكن هناك تفكيراً علمياً منذ القرن الـ19، بأنه يجب التعمق في تطبيق مناهج التفكير العلمي لدراسة الحيوانات وذكائها وغرائزها وسلوكها وتصرفاتها ومجتمعاتها، مع مقارنة ذلك بما لدى البشر، سعياً إلى فهم ما الذي يميز الإنسان في عقله وحضارته؟ وما الذي يعطيه فرادته؟ وما معطيات وحدود تلك الأشياء كلها؟

وتندرج التجارب الحديثة على قدرة النحل في تمييز روائح الزهور وتعلم الأعداد والسلوك الجنسي لملكات النحل والتعاون بين أسرابها في صنع القفير الشمعي وغيرها، وتبدو تلك الكلمات فائقة اللطف والحلاوة بالمقارنة مع ما سيرد من تجارب علمية غرائبية.

الديدان الثملة تتمايل سكرى كالبشر

إذاً، لنخفف صرامة الحديث. الأرجح أننا لن نتعب كثيراً قبل التقاط الخيط المطلوب. لنجرب البدء من مسابقة “نوبل الساخرة”، اسمها الرسمي “إغ نوبل”  Ig Nobelولنلتقط منها بعض التجارب الغرائبية، مع الإشارة إلى أن تلك المسابقة تحرض أيضاً على تجاوز الحدود بين الغرائبية والعلوم، وتوضح أن ما ينتمي للأولى ظاهرياً ليس سوى جزء من وقود الثانية وتقدمها.

وفي مسار الخفة والعلم، من المستطاع الإشارة بسرعة إلى بعض غرائب “إغ نوبل”، كمجرد طبق خفيف قبل الانتقال إلى التجارب العلمية الأكثر غرائبية.

 

مثلاً في 2024 ذهبت إحدى جوائز تلك المسابقة إلى تجارب عن تنفس الفئران والخنازير للأوكسجين من طريق الشرج [ربما تطبق في العمليات الجراحية على البشر، كبديل من إدخال الأوكسجين عنوة من طريق الحلق والقصبة الهوائية]. وكذلك كرمت تجربة استخدم فيها سمك قوس قزح الميت لدراسة الطاقة اللازمة للسباحة في مياه مضطربة [قد تفيد مستقبلاً في تدريب الغواصين أو صنع قوارب إنقاذ غير تقليدية]. ومنحت جائزة لتجربة عن سلوك الديدان الثملة التي وجد أنها تتمايل سكرى تحت تأثير الكحول كالبشر [قد يفيد ذلك في علاج الإدمان الكحولي]. وأعطي تكريم خاص لتجربة استطاعت تدريب الحمامات على توجيه الصواريخ (هل يصعب فهم سبب اهتمام البنتاغون بها، قبل أن يوقف برنامجاً كاملاً عنها؟).

في عام 2023، كرمت “إغ نوبل” تجربة عن تنشيط عناكب ميتة، بهدف استخدام قوائمها ككماشات [قد يستفاد منها في صنع روبوتات تستخدم أعضاء بشرية أو حيوانية ميتة بدل الأجهزة الميكانيكية]. وكذلك أعطيت جائزة لمراحيض ذكية تحلل البراز أثناء التغوط، وتتعرف على “البصمة الشرجية” للمستخدم، على غرار تعرف الخليوي على “بصمة الوجه” لمالكه.

تجارب غرائبية لدراسة المجتمع البشري

لقد انتهت تمارين الإحماء على غرائب التجارب العلمية، إذاً لننتقل إلى العمل على مجموعتين من التجارب الغرائبية، تتعلق أولاهما بالمجتمع البشري، مع قياسه بمسطرة الحيوانات المختلفة، وتضم الثانية تجارب على الكائن البشري نفسه عند الحدود القصوى لاستباحته تجريبياً، وأحياناً تبدو الحدود متلاعبة بين المجموعتين.

ضمن المجموعة الأولى تظهر التجارب التالية:

-تجربة الإخضاع والطاعة، ففي ستينيات القرن الـ20، درس العالم ستانلي ميلغرام مدى طاعة الناس لآخرين متسلطين عليهم ويصيبونهم بالأذى عبر ضربهم بصدمات كهربائية. واستمرت علاقة الطاعة حتى مع الوصول إلى صدمات كهربائية عالية الفولتية، وهناك أشياء مماثلة تعرف لدى أصحاب الميول السادية في ممارسة الجنس مثلاً.

-أجرى هاري هارلو تجارب في خمسينيات القرن الـ20، على صغار للقردة عزلت عن أمهاتها، ثم خيرت بين مجسم أم بثياب دافئة، وأخرى من أسلاك. اختار معظم أطفال القردة “الأم الدافئة”، واعتبر ذلك جزءاً من تعلق الطفل بأمه في المجتمعات البشرية.

-في سبعينات القرن الـ20، استخدم بروس ألكسندر، الفئران في دراسة السلوك الإدماني عند البشر. وأنشأ “منتزة الفئران” الذي تتوفر فيه شروط عيش اجتماعي يتسم بالنشاط والرخاء والتعاون، فصار أعضاؤه أقل ميلاً للإدمان على شرب مياه تحتوي المورفين. اندرج ذلك في دراسة تأثير الأوضاع الاجتماعية في سلوك الإدمان الفردي.

 

-النمل وطعام الزمن الآتي: في سلسلة تجارب مستمرة منذ عقود، استخدم علماء الاجتماع مجتمعات النمل لدراسة تأثير التقلب في توفر المصادر الحيوية للحياة كالطعام، على تصرفاتها. ووجدوا أن التقلب بين الوفرة والندرة أدت إلى سلوك مركب لدى النمل [ضمنه التخزين] يشبه ما يحدث لدى البشر. وجرت تجارب مماثلة وواسعة حول تبدل تفضيلات الطعام لدى الصراصير ضمن ظروف جماعية محددة.

-القردة تقلد والصراصير ترقص: في سلسلة تجارب، تبين إن القردة تلاحظ السلوك المتكرر عند مخالطيها من البشر، ثم تقلده. وظهر ذلك في محاكاة فتح علب الطعام للحصول عليه. أظهر ذلك أن جزءاً من تعلم التقليد الاجتماعي عند البشر، يملك جذوراً له لدى الحيوانات. في تجارب مماثلة، جرى تعليم الصراصير على الرقص وفق إيقاعات محددة.

-الفئران ومشكلة الأوتوبيس :Trolley Problem يتعلق الأمر بالمزاوجة بين الفردية والغيرية (إتاحة المجال للآخر على حساب الذات). وصنع العلماء أجواء تجريبية تحاكي التعامل مع الأوتوبيس، وراقبوا سلوك الفئران فيها، خصوصاً في الحالات التي يتوجب عليها أن تحاول إنقاذ فأر ما أو التصرف حيال إمكان دوس المركبة لمجموعة منها. ويتعلق الأمر بمدى وجود سلوك اجتماعي للفأر الواحد يستند إلى بعد “أخلاقي” متأت من الانتماء إلى جماعة.

-مدينة الفئران الفاضلة: اختار العالم جون كالهون ذلك العنوان لسلسلة تجارب على الفئران أجريت بين ستينات القرن الـ20 وثمانينياته، وسعت إلى دراسة تأثير التكاثر السكاني الفائض على التفكك المجتمعي. وبصورة ثابتة، ظهر أن الاكتظاظ الدائم وتقلص المساحات المتاحة للكائن الواحد والتصارع المستمر على الموارد، تؤدي إلى سلوكيات مضطربة وعنف وانحراف جنسي، وتهافت الأمومة والأبوة، مما يفضي إلى انهيار مجتمعي. وظهرت نتائج مماثلة حينما درسها العالم نفسه لدى مجتمعات النمل، على رغم ما عرف عنها من تنظيم وتعاون متبادل.

-الخنازير والتراتبية الاجتماعية: في سلسلة تجارب، لوحظ أن الخنازير المدجنة تظهر ميلاً لاتباع تراتبية معينة في مسألة اتخاذ القرار الجماعي، كأن يكون ذلك متعلقاً بمصادر الغذاء. وتشابه سلوك الخنازير مع سلوكيات في مجتمعات القردة العليا التي ينسب البشر إليها. في جائحة كورونا، سرى تعبير “مناعة القطيع” في النقاش عن أخذ اللقاحات أو الامتناع عنها. ولوحظ انخراط قادة ورموز بارزة في الرفض والقبول، مع تأثر أعداد كبيرة بهم.

-في تجارب حديثة، ربطت أدمغة قردة بأذرع روبوتية، مع وضع شاشات تظهر حركتها لتلك الحيوانات، ولوحظ أن القردة أظهرت درجات متفاوتة من التمرس في التحكم بأذرع الروبوت، مما اعتبر أنه يفيد في التجارب على العلاقة بين الآلات الروبوتية والبشر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تجارب ترسم حدود الكائن البشري

يظهر في هذه التجارب تلك التي طبقها البحاثة على أنفسهم، والأخرى التي طبقت على آخرين.

-في 2023، كرمت “إغ نوبل” تجربة عن تكرار الكلمة نفسها مرات لا تحصى [تصبح كأنها من الأشياء العادية] لكن المفاجأة أن كثرة التكرار أوصلتها إلى أن تندرج ضمن المألوف، ثم أعطتها نقلة نوعية أدت إلى اكتسابها معاني غير معتادة، فصارت متجددة وفريدة في نوعها. [استنتاج بضرورة تغيير المفاهيم بين “المألوف” و”غير المعروف بالفعل”. ألا ينطبق ذلك على الانتقال من عادية شروق الشمس وغروبها إلى اكتشاف معنى جديد فيها: نحن ندور حولها؟]. وكذلك كرم بحث عن الأشخاص المتمكنين من نطق الكلمات بالمقلوب. (تفيد في بحوث الدماغ عن المناطق المتخصصة بالتعرف إلى شكل الكلمات ونسقها، وعلاقتها مع المنطقة التي تعطي تلك الأشكال معانيها، وربما تقليدها في أدمغة الروبوت).

-الديدان كنظام للأكل: في القرن الـ 19، عمد الباحث جيوفاني باتيستا غراسي إلى نقل عدوى الديدان إلى جسده عبر أكل بيوضها.

 

-تجارب مارينا إبراهاموفيتش والجوانب المظلمة للنفس البشرية. في منتصف سبعينيات القرن الـ20، انخرطت إبراهاموفيتش في سلسلة تجارب طبقتها على نفسها. لعل أشهرها “الإيقاع 0” التي استباحت فيها نفسها على منصة مسرح، داعية الجمهور إلى فعل ما يريدونه بها، بما في ذلك أذيتها جسدياً بأشكال مختلفة. رمت التجربة إلى إظهار الجانب المظلم للبشر حينما يكون الآخرون في وضعية الهشاشة والانكشاف أمامهم. وكذلك درست التفاعلات الاجتماعية في تلك الأوضاع، وحدود القدرة على التحمل والتضحية. في العام نفسه ضمن تجربة أخرى، تمددت إبراهاموفيتش داخل حلقة من نار وبقيت داخلة حتى مع وصولها إلى حالة قريبة من الإغماء بسبب تنشق الأدخنة. وفي 1996، خاضت إبراهاموفيتش تجربة أخرى، استعملت فيها دماء خنازير كي تكتب على جدران أحد المعارض عبارات محرضة على العنف. وفي 2020 جلست بين جمهور مسرح “موما” النيويوركي الشهير، ولم تنبس ببنت شفه. وأدخلت الحاضرين في تأمل ذاتي مكثف عن الحضور والتواصل.

-يوكو أونو “مزق قطعة”: في أواسط الستينيات من القرن الـ20، أباحت الفنانة يوكو أونو لجمهور في مسرح اقتطاع أجزاء من ثيابها، فيما وقفت ساكنة. واعتبر أن ذلك أدى إلى مواجهة ذاتية لدى أفراد الجمهور في شأن العنف.

-كريس بوردن وتجربة “أطلق النار”: في عام 1971، طلب الفنان بوردن من مساعده إطلاق النار على ذراعه مباشرة على الهواء، أثناء تقديم عن مشاهد العنف وقدرتها على جعل الجمهور فاقد الحساسية تجاه أعمال العنف، مما اعتبر موازياً لتأثير المشاهدة البصرية للمشهديات العنيفة.

-اختبار القدرات البشرية: في عام 2003، جلس محترف الأداءات السحرية ديفيد بلاين، في مكعب زجاجي معلق في الهواء بواسطة حبال حديد، لمدة 44 يوماً من دون أكل مع شرب أقل من خمسة ليترات من الماء. إنها تجربة عن الحد الأقصى للتحمل في الجسد البشري.

-التنفير الجنسي: في ستينيات القرن الـ20، جرب متخصصون علاج المثلية الجنسية عبر “ربط” تلك الممارسة بتلقي صعقة كهربائية.

-في ستينيات القرن الـ20، جرت تلك التجارب الذائعة الصيت للزوجين ماسترز وجونز، واعتبرت بحوثهما رائدة لأنها أخضعت الممارسة الجنسية بين الرجل والمرأة للمراقبة المباشرة، مع قياس المؤشرات الجسدية في أسرة اختبارية.

-التحول الجنسي وسلوك “زواج” بين توائم: لعلها من أكثر التجارب الجنسية إثارة للجدال، وجرت على يد المتخصص النفسي جون موني. وتضمنت الاستفادة من تغيير الهوية الجنسية بالجراحة لأحد التوأمين، ودفع الآخر إلى ممارسة الجنس مع الأخ المتحول إلى أنثى.

وهناك سلسلة من التجارب التي لا يتسع المجال لتفاصيلها، كتلك التي طبقها بحاثة ومتطوعون على أنفسهم لوضعيات الشنق والصلب والنوم في السرير طوال عام كامل وغيرها. وينسب إلى علماء الاتحاد السوفياتي السابق إجراء تجارب على صنع جسد هجين يجمع الإنسان مع الشمبانزي، وتجربة أخرى عن إبقاء رأس كلب قيد “الحياة” بعد فصله عن بقية جسده. والأرجح أن القائمة طويلة.

نقلاً عن : اندبندنت عربية