للوهلة الأولى، لا يبدو ذاك البيت التراثي الذي ينتصب في منطقة زقاق البلاط وسط العاصمة اللبنانية بيروت، أكثر من عقار مهجور يشبه بيوتاً بيروتية تراثية كثيرة تحيط به في الشوارع القديمة.

لكن في الواقع، ذاك المنزل القديم الذي انهار جزئياً، له قيمة ثقافية وتراثية لا تقدر بثمن لأنه بيت السيدة فيروز، وفيه عاشت من كانت دوماً الحدث بصوتها وحضورها سنوات طويلة.

شهد هذا المنزل بجدرانه المتواضعة محطات مهمة من سنوات عمرها الأولى، ومنه خرجت عروساً في الخمسينيات، لتتزوج من المؤلف الموسيقي والمسرحي عاصي الرحباني الذي أنجبت منه أربعة أولاد، وقد عاشت معه حياة مليئة بالنجاحات الفنية التي طبعت عقوداً من التاريخ اللبناني.

اتُخذ بشأن هذا البيت التراثي الذي بقي صامداً في العاصمة على رغم المحطات الصعبة التي مرت بها بدءاً من الحرب الأهلية (1975 – 1990)، مروراً بكوارث طبيعية منها الزلزال الأخير قبل سنتين، وصولاً إلى انفجار مرفأ بيروت عام 2020 والذي وصف بأنه أكبر انفجار غير نووي في تاريخ البشرية، قرار في غاية الأهمية لمحبي الأيقونة الفنية.

إذ أطلقت وزارة الثقافة اللبنانية مشروع تحويل البيت التراثي الذي عاشت فيه فيروز إلى متحف يزوره عشاقها من لبنان والعالم. فيه، يمكن أن يطلعوا فيه على تفاصيل كثيرة يجهلونها عن مراحل محورية ومحطات أساسية في حياة الفنانة التي لها مكانة خاصة لا في قلوب اللبنانيين فحسب، إنما أيضاً في قلوب محبيها في مختلف أنحاء العالم. فهل تحقق الدولة اللبنانية أخيراً هذه المبادرة التي تكرم من خلالها فيروز التي تشكل علماً من أعلام لبنان، لما قدمته في عالم الموسيقى والغناء؟ 

شاهد على أولى بوادر موهبة فيروز

ولدت السيدة فيروز في عام 1935 في بلدة الدبية في قضاء الشوف. إلا أنها نشأت وترعرعت في بيت زقاق البلاط البيروتي الذي تحيط به حديقة صغيرة. انتقلت إليه في منتصف الثلاثينيات العائلة المتواضعة المؤلفة من الوالد وديع حداد الذي كان يعمل في مطبعة، والأم ليزا البستاني، والإبنة البكر فيروز التي تحمل في الأصل اسم نهاد، وشقيقتها هدى وشقيقها جوزف.

وهذا المنزل في الأصل كان مخفراً للشرطة في أيام الحكم العثماني للبنان، وقد تحول إلى منزل استأجره والدها في منتصف الثلاثينيات. شهدت جدران هذا البيت أولى بشائر موهبة السيدة فيروز صاحبة الصوت الماسي، وكان عمرها آنذاك لا يتجاوز الخمس سنوات. وفق ما أعلنت في إحدى المقابلات القليلة التي تحدثت فيها عن حياتها الشخصية، وخلالها كشفت أنها كانت تجلس عند إحدى نوافذ بيتها المطلة على الحديقة المحيطة به لتستمع إلى أغان لأم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، وأسمهان، وليلى مراد، من عند الجيران، فترافقها بالدندنة بصوتها العذب. في حديقة هذا المنزل كانت تلعب، وقد عرف أولى بوادر موهبتها الغنائية في سن مبكرة، إلى أن اكتشفها الملحن اللبناني أحمد فليفل في إحدى الحفلات المدرسية.

كانت فيروز تسكن في الطابق الأرضي من المبنى المؤلف من طبقتين، وقد أضيفت إليه طبقة علوية في العشرينيات. وبعد أن تركت العائلة البيت أُهمل وانهار جزء منه قبل أن يُتخذ قرار تحويله إلى متحف تقديراً للفنانة التي رسمت بصوتها الماسي وجدان كل لبناني.

وتجدر الإشارة إلى أن تاريخ بناء هذا المنزل ذات مساحة 100 متر والطابع الهندسي الذي يراوح بين اللبناني والعثماني، تعود إلى أوائل القرن 19.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

موعد تحويل منزل فيروز إلى متحف

مما لا شك فيه أن خبر تحويل منزل فيروز إلى متحف، أسعد قلوب اللبنانيين بشكل خاص وعشاق الأيقونة الفنية عموماً، بخاصة مع تسارع الخطوات التي يمكن أن تنتهي بتطبيق المشروع، وتعتبر هذه الخطوة منتظرة من سنوات عدة.

فيما كانت أطلقت هذه المبادرة منذ سنوات طويلة من خلال جمعيات أهلية وشخصيات مجتمعية في بيروت.

يكشف وزير الثقافة السابق محمد مرتضى في حديثه لـ “اندبندنت عربية” أن هذه الخطوة تأتي تكريماً لمشوار فيروز الفني الحافل بالعطاء والإبداع، واحتفاء بتاريخها الموسيقي. إذ تلامس أغانيها التي تؤديها بصوتها الذهبي قلوب الأجيال كافة من عقود. وتنطلق الوزارة جدياً بهذا المشروع بالتنسيق مع “المؤسسة الوطنية للتراث اللبناني” لتحويل المنزل إلى متحف يحتفي بتاريخ فيروز الفني العريق ومسيرتها الاستثنائية.

علماً أن المساعي لتطبيق هذا المشروع كانت قد بدأت في عام 2022، إلا أن ظروف الحرب حالت دون استكمال تنفيذه، تماماً كما شكلت عائقاً أمام خطوات كثيرة ومشاريع كانت لتنفذ في البلاد. 

ويقول مرتضى إنه من المفترض بالمتحف أن يصبح جاهزاً قريباً جداً، من دون أي يقدم موعداً محدداً، لاستقبال زواره من محبي فيروز ليطلعوا على تذكارات، وصور، ومقتنيات، وتفاصيل من المسيرة الفنية العريقة لـ “جارة القمر”، كما يحلو للبنانيين أن يطلقوا عليها، إضافة إلى كل ما ينقل مراحل من حياتها الشخصية والفنية.

وتترافق الزيارة إلى المتحف مع تسجيل صوتي وموسيقى لنقل الزوار إلى أجواء موسيقى فيروز العذبة ذات الألحان الجذابة.  

خطوات وسنوات مضت قبل التنفيذ 

هذا المشروع منتظر من سنوات طويلة ويترقبه الكل، إلا أن إنجازه الفعلي بات قريباً بعد أن تبلورت الأفكار المتعلقة بالتنفيذ، مع كل التفاصيل المرتبطة بالديكور والتنسيق بالتعاون مع الخبراء المعنيين. بهذه الطريقة سيتم تحويل هذا البيت الذي كان مهملاً طوال سنوات إلى متحف”، يقول وزير الثقافة السابق، ويضيف “تكمن أهميته الخاصة في أنه شهد سنوات طويلة من طفولة فيروز، وقد أمضت بين جدرانه مع عائلتها سنوات من حياتها. وبهذه الخطوة يمكن تعريف الأجيال الجديدة إلى تاريخها العريق، ويمكن الحفاظ على إرثها الثقافي والفني. في الوقت نفسه، من المفترض أن يكون هذا المتحف عبارة عن ملتقى ثقافي تقام فيه لقاءات ثقافية، مع مكتبة عامة صغيرة ومقهى. نحن الآن في المراحل النهائية وبدأت الأفكار تتبلور، وبدأت تثمر المساعي لتوفير التمويل، ومن المتوقع أن ينجز المشروع قريباً”.

كانت وزارة الثقافة قد تعاونت مع “المؤسسة الوطنية للتراث” لإنجاز مشروع آخر مماثل قريب من موقع المنزل. وكان النجاح في هذا التعاون حافزاً للمضي بمشروع ترميمه وتحويله إلى متحف يروي قصة مسيرة فيروز ويحتفي بتراثها الكبير في عالم الموسيقى والفن.

ويوضح مرتضى أنه على تواصل مع السيدة فيروز من خلال صديقة مشتركة، وهناك تنسيق معها من أجل إنجاز المشروع. ويشدد على الهدف الأساسي من هذا المشروع كمبادرة تكريمية تقوم بها وزارة الثقافة والدولة اللبنانية من أجل فيروز التي يصفها بالعمود للثقافة اللبنانية.

فهي تحظى بتقدير في لبنان والعالم لا على المستوى الشعبي، فحسب إنما أيضاً على مستوى رؤساء الدول.

كان قد صدر مرسوم لتحويل المبنى إلى متحف في عام 2015 بعد أن وضع على لائحة الأبنية التاريخية في بيروت من قبل وزارة الثقافة، ما يحميه من الهدم. أجاز القرار لبلدية العاصمة باستملاك المبنى وتحويله. هذا إلى أن انتقلت الملكية إلى وزارة الثقافة لإنجاز هذا المشروع بشكل يليق بمسيرة فيروز الغنية بمحطات تاريخية، وبموقعها الفني المرموق في لبنان والعالم.

نقلاً عن : اندبندنت عربية