يريد نصف أبناء الجيل “زد” – الذين تراوح أعمارهم ما بين 13 و27 سنة – أن تسلم بريطانيا إلى قبضة ديكتاتور. وليست هذه سوى إحدى الخلاصات “المثيرة للقلق الشديد” التي خلصت إليها دراسة كشفت عن وجود تباين كبير بين الآراء التي يتبناها شبابنا في الواقع، وتصور معظم الناس عنها.
تأتي هذه النتائج من شركة كرافت للاستطلاعات ومن المزمع نشرها خلال فعالية تقيمها الجمعية البريطانية الملكية للتلفزيون الخميس. وجدت الشركة أن ربع الشباب يعتقدون أن الوضع في بريطانيا سيكون أفضل “إن تسلم الجيش زمام الأمور”، بينما أيد نصفهم تقريباً “ضرورة إحداث تغيير جذري في طريقة تنظيم مجتمعنا كاملة من طريق الثورة”.
لكن قبل أن يتملكنا الذعر ونهرع لصب كأس جين وتونيك، يجب أن نلتفت إلى أن ثلث الأشخاص من الشريحة العمرية 45 إلى 65 يشاطرونهم الرأي على ما يبدو. وأقول “على ما يبدو” لأنني أعتقد أنه أمام كل استطلاعات الآراء، علينا معاملة النتائج باحترام لا يخلو من بعض الحذر. وبالمناسبة، يكشف استطلاع الرأي هذا عن أن أعداداً كبيرة من الجيل “زد” تعزف عن شرب الكحول، بعد الانطباع السيئ الذي تشكل لديها إثر مراقبة محتسي الكحول من الأجيال الأكبر.
لكن أكثر ما يقلقني في الاستطلاع بصفتي مدرساً قضى عمره في تعليم مادتي التاريخ والسياسة، وقضى ما يربو على 20 عاماً مديراً لمدرسة، هو الاستنتاج بأن “المملكة المتحدة ستكون أفضل حالاً إذا تسلم قائد قوي زمام الأمور من دون أن يضطر إلى التعامل مع إزعاج البرلمان والانتخابات”.
سعيت جاهداً على مدى 40 عاماً كي أدخل عالم السياسة ومواضيع الساعة إلى الصف ومن موقع مدير المدرسة، دأبت على دعوة السياسيين والناشطين من مختلف المجالات لتحفيز طلابي. لم أكترث يوماً للآراء السياسية التي يتبنوها، ما دامت غير متطرفة، بيد أنني كنت شديد الحرص على أن يشكلوا آراء شخصية حول أبرز القضايا الراهنة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فهل يعتد بهذا المنعطف الكبير بعيداً من الديمقراطية؟ إياكم والشك بذلك لحظة واحدة- وإليكم السبب.
تشهد الأنظمة الديمقراطية انحساراً في العالم أجمع، مفسحة المجال لقادة استبداديين. لكن الهشاشة مرافقة دوماً للديمقراطية، وما لم تنتشر قيم هذا النظام ويعمل بها ويعيش في إطارها الناس [يحتكمون إليها]، فسيذوي النظام الديمقراطي.
وربما لا بأس في الاستبداد ما دام لصالحك: لكن على الجميع أن يدركوا جانبه المظلم، وما فيه من قمع لحرية التعبير وسجن تعسفي ودوس على حقوق الأقليات. عبر التاريخ، أزهقت أرواح بالملايين على درب الديمقراطية: لكن يندر أن تجد من لقي مصرعه أثناء سعيه إلى استبدال الديمقراطية بالديكتاتورية.
أما عن سبب بروز هذه الآراء في أذهان الجيل “زد”، فقد أوضحتها إليزا فيلبي، مؤلفة كتاب تحول الأجيال Generation Shift وهو من أفضل الكتب مبيعاً، بأسلوبها البليغ. فقالت لي إن الجيل “زد” لم يترعرع “وسط الاضطرابات التي عصفت بالقرن الـ20 وما نتج منها من توافق على الديمقراطية تأصل في كل جيل ولد في النصف الثاني من القرن الـ20”. ولم يختبر أبناء هذا الجيل الظلال القاتمة التي أرخاها هتلر والحرب العالمية الثانية ولا حتى روسيا السوفياتية والحرب الباردة. لم يعيشوا زماناً كشرت فيه الديكتاتورية عن شرورها.
وإلى ذلك تضيف “لقد نشأوا وسط فردانية شديدة وتفاعلات آنية وتواصل فوري ونتائج فورية وديون تخلو من التفاعل البشري ومعاملات خوارزمية ومساحة عامة تعلي صوت التطرف وتضخم الفردية. فما الذي قد يدفعهم إلى الإيمان ببطء الإجماع الديمقراطي التوافقي؟”.
“كما شهدوا ركود الأجور… وتعاظم صعوبة إيجاد الشباب فرص عمل”.
وتختم فيلبي بقولها “فهل من المستغرب حقاً أن يشككوا في فاعلية الديمقراطية؟”.
وأضيف إلى كلامها أن هذا الجيل بلغ مرحلة الوعي السياسي خلال الحقبة التالية للأزمة المالية العالمية في 2007-2008. منذ تلك الفترة، شهدنا ركوداً اقتصادياً وسط عجز رؤساء الوزراء المتعاقبين عن بث أي أمل واقعي وتقديم أي تحسن ملموس في المجال العام. وعلاوة على ضعف أدائهم المخيب للآمال، جاء تدهور الثقة بالسياسيين وبقدرتهم على الوفاء بوعودهم. أما السياسي الوحيد الذي تمكن من التواصل بفعالية مع الجمهور بشكل عام منذ توني بلير (الذي لا يذكر أي من أبناء الجيل “زد” عهده) فهو بوريس جونسون، الرجل الذي يتحمل أكثر من أي سياسي آخر المسؤولية عن تقويض الثقة وتعزيز ثقافة الشك بالنيات.
ويدخل في هذا المزيج أيضاً تدهور مصدر المعلومات العام الوحيد الذي سعى طوال 100 عام لتقديم المعلومات بطريقة متوازنة وموضوعية ويمكن التثبت من صحتها – أي شبكة “بي بي سي” – وتلكؤ المدارس عن تخصيص وقت لتعليم المواطنة والسياسة في ظل منهاج مثقل بضغوط الاختبارات. وبعد كل هذا، ليس من المستغرب أن يخرج استطلاع الرأي بهذه النتيجة.
لن يكون من السهل أن نشق طريق العودة [إلى الديمقراطية]. لكنه عناء لا بد منه إن كنا ننشد ازدهار الديمقراطية.
دعوني أطرح بداية خطة من ثلاث نقاط: التعامل بمزيد من الحزم والصرامة مع السياسيين الذين لا يدلون بالحقيقة ولا يوفون بتعهداتهم، وتخصيص التمويل الكافي لهيئة “بي بي سي” والحرص على أن تكون محايدة كما يجب، في سبيل التصدي للمعلومات المغلوطة والأكاذيب المنتشرة في الفضاء الرقمي والتي لا يمكن ضبطها بصورة كاملة أبداً، وتقديم دروس في المواطنة والديمقراطية لجميع طلاب المدارس، مع مراعاة ثقافة بريطانيا وتاريخها بصورة خاصة، هذا البلد الذي قدم كثيراً من الأمور الجيدة لسائر العالم، ومنها الديمقراطية البرلمانية.
أنتوني سيلدون أحد المديرين المؤسسين لشبكة كلية ولينغتون التربوية
نقلاً عن : اندبندنت عربية