مع أن تنظيم “داعش” جعل التمدد في العالم شعاره الأبرز، فإن ميلاده الأول في سوريا واتخاذه الرقة عاصمة له إلى جانب احتضانها فلوله وآلاف العائلات والسجناء، جميعها عوامل تظهر حجم علاقته الرمزية والعضوية بالأرض السورية التي شهدت “زلزالاً” جديداً بسقوط نظام الأسد لمصلحة قوى أخرى، يربطها ثأر عريض مع “داعش” التي لا تزال تصف تلك القوى بـ”الفصائل المرتدة”.

تلك العلاقة الجغرافية والتضاد الحركي بين الفريقين، لا تحجب هواجس التقارب الأيديولوجي مهما كان نسبياً بين الفصائل بقيادة أحمد الشرع و”داعش”، لكنه بالنظر إلى تجربة واشنطن مع “طالبان” قد توجد بين ثناياها فرصة للطرفين السوري والأميركي، على رغم ما يكتنف الأمر من عدم اليقين والتهديد.

تلتقي مصالح دمشق وواشنطن في محو “داعش” عسكرياً، لا سيما بعد التذكير الفج للتنظيم بنفسه عبر الهجوم الدامي الذي نفذه أحد ذئابه المنفردة في ولاية لويزيانا الأميركية.

 لكن الاتفاق على الطريق الأمثل لذلك شاق، إذ مع إظهار “طالبان” كفاءة نادرة في دحر “داعش خراسان” في أراضيها بمباركة أميركية، قد لا تجد واشنطن نفسها مضطرة إلى الاعتماد على “تحرير الشام” للقيام بمهمة مماثلة، وهي تملك تحالفاً دولياً في الموقع، وقوات كردية جربتها من قبل في إلحاق الهزيمة الأولية بالتنظيم، وحراسة سجنائه وعائلاتهم.

ورقة معسكر “الهول”

ويرى الباحث الأميركي مايكل روبين في هذا الصدد أن تذكير “داعش” المأسوي بنفسه مع بداية العام الجديد، ينبغي أن يعزز مسار التحالف مع الأكراد وليس العكس، فهو يرى أن محاربة التنظيم مرهون بمستقبل معسكر “الهول”، إذ يظل قدامى مقاتلي تنظيم “داعش” وعائلاتهم تحت الحراسة الكردية، في وضع خطر.

وأضاف، “قد تستهدف تركيا حراس السجن الأكراد، وتتهمهم بأنهم إرهابيون. كما أن هدفها هو تغيير نظام السجن، بأن تجعل هيئة تحرير الشام تتولى مهمة الحراسة”، متهماً إياها بأنها مثلما جعلت “ابتزاز أوروبا باللاجئين فناً من فنونها من خلال التهديد بالدفع بهم، سيرون سجناء تنظيم داعش على أنه فرصة وليس آفة”. وهو ما ترفضه أنقرة التي أكدت أنها ضد كل أشكال الإرهاب.

ومع أن الاتجاه الغربي ينساق خلف دعم الأكراد باعتبارهم أقلية وحلفاء تقليديين، ضد تركيا والعرب المجاورين، فإن هذا الموقف يعكس حجم المخاوف التي تتنازع المشهد الغربي من انقلاب المشهد في سوريا، لاعتبارات شتى ليس بالضرورة أن تكون محاربة “داعش” على رأس أولوياتها.

كان وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، انتقد رفض دول غربية استعادة مواطنيها المعتقلين من مقاتلي “داعش” السابقين في سجون الأكراد ومخيم الهول، باعتبارهم “قنبلة موقوتة”، ينبغي نزع فتيلها قبل أن تعود آثارها المدمرة بالتخريب على المنطقة.

سيناريوهات أميركية

ويحذر الباحث روبين من معهد “أميركان إي آي” من قيام تركيا وحلفائها في دمشق بلعب دور يهدد مكاسب بلاده، ويعرض السجناء الخطرين للهرب. ورجح أن تنتقم هيئة تحرير الشام من سجناء نظراً إلى حربها السابقة مع “داعش”، وتتسامح مع آخرين “من أجل تهدئة المتشددين تحت مظلتها أو حتى تلعب دور الشرطي الصالح والشرطي الشرير من خلال تعزيز أجندة الخلافة من دون المخاطرة بالمساءلة عن أفعالها”.
وأبدى المخاوف من سيناريو قاتم بعد ذلك بأن “يتوجه آخرون إلى الأردن والسعودية ومصر، حيث سينضمون إلى خلايا لزعزعة استقرار حلفاء أميركا العرب الرئيسين. وسوف يبيع آخرون مهاراتهم كمرتزقة للإسلاميين في الصومال وليبيا والسودان”.

بيد أن أعضاء التحالف بمن فيهم تركيا وبعض الدول العربية لا سيما الرياض، قد يدفعون إلى التعامل مع الملف بوصفه قضية بما لا يشكل تهديداً لوحدة سوريا، التي يرى أحمد الشرع في دمشق بدعم عربي متفاوت أنها لا تتم إلا بتوحيد جميع أراضيها تحت الحكم المركزي في دمشق، رافضاً أي أفكار تبحث الفيدرالية.

وسلط الهجوم المروع في أميركا الأضواء مجدداً على التهديد المستمر للإرهاب العالمي، إذ أودى بأكثر من 15 شخصاً وأصاب 35 آخرين، بواسطة سيارة يقودها عنصر سابق في الجيش الأميركي يدعى شمس الدين جبار، من ولاية تكساس، مما أثار تساؤلات حول استمرار قدرة التنظيم على تنفيذ هجمات خارج نطاق نفوذه التقليدي.

ووفقاً لتحليلات معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، تظهر الحادثة قدرة “داعش” على التأقلم مع تراجعه الجغرافي من خلال الاعتماد على “الذئاب المنفردة” في تنفيذ عمليات إرهابية. وأكد المعهد أن التنظيم يسعى إلى إثبات وجوده عبر استغلال الثغرات الأمنية في الدول الغربية. وقال الباحث مايكل نايتس من المعهد، إن “داعش لم ينته بعد، فالتنظيم يعيد تشكيل نفسه ويستغل الفرص لتحقيق أهدافه بطرق مبتكرة”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الخبراء في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) يبرزون الحاجة إلى تعزيز التنسيق الاستخباراتي بين الدول لمواجهة التهديد العابر للحدود، إذ أضاف المحلل أنتوني كوردسمان أن “هذه الهجمات هي رسالة مفادها أن التنظيم لا يزال قادراً على التأثير رغم انحسار نفوذه في الشرق الأوسط”. كما أشار إلى أهمية تطوير برامج محلية تهدف إلى مكافحة الفكر المتطرف من خلال إشراك المجتمع المحلي والمؤسسات التعليمية والدينية.

خريطة “داعش” لم تحرك ساكناً

في آخر شهر من عام 2024 وحده نفذ “داعش” نحو 119 عملية إرهابية موزعة على عدة قارات قتل وجرح من خلالها نحو 425 شخصاً وفقاً لخريطة انتشار التنظيم التي يحدثها باستمرار “معهد واشنطن”، وذلك مع تركيز كبير على مناطق النزاع في الشرق الأوسط وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.

خريطة انتشار التنظيم تظهر استمرار وجود خلايا نشطة في سوريا والعراق، إضافة إلى توسع واضح في مناطق الساحل الأفريقي وأفغانستان، مما يعكس طموح التنظيم لتعزيز حضوره على الساحة العالمية، إلا أن ذلك لم يحرك ساكناً لدى واشنطن والدول الكبرى قبل هجمات رأس السنة.

على صعيد المنطقة العربية، يرى مراقبون أن تكرار مثل هذه الهجمات يعيد تركيز الجهود الدولية على مكافحة الإرهاب في معاقله الأساسية، لا سيما في سوريا والعراق. ووفقاً لتحليل أصدره مركز الشرق الأدنى للدراسات، فإن الحادثة تعد تذكيراً للدول الإقليمية والدولية بأن تهديد “داعش” لا يزال قائماً، ويستدعي تعاوناً أمنياً واستخباراتياً أكبر.

أي شراكة بين الشرع وترمب ستكون معقدة

في هذا السياق، تثار تساؤلات حول إمكانية التعاون بين واشنطن والقيادة الجديدة في سوريا لمكافحة “داعش”. وفقاً لمحللين في مركز “راند” للأبحاث، فإن التعاون قد يكون ممكناً إذا تمحورت الجهود حول المصالح المشتركة مثل استقرار المنطقة والقضاء على التهديد الإرهابي. الباحثة جيسيكا ماكفيل من المركز علقت بأن “أي شراكة بين الولايات المتحدة في عهد ترمب والقيادة السورية الجديدة برئاسة الشرع ستكون معقدة ولكنها ضرورية إذا ما أريد القضاء على داعش بصورة نهائية”.

ويرجع الباحثون المهتمون برصد نشاط الحركات المتطرفة، عودة نشاط “داعش” بهذا الزخم إلى تركيز الجهود على الجانب الأمني وحده، من دون بذل عمل مضن في الشق الفكري والسياسي.

ويرى الكاتب السعودي المتخصص مشاري الذايدي أن هجمات التنظيم “النوعية المتزامنة، يجب أن تفتح نقاشاً وبحثاً متعمقاً عن مستقبل العودة الداعشية، وكل الجماعات الإرهابية، في هذه السنة الجديدة وما يتلوها… فهذه العودة التي ستكون أشرس من سوابقها، لأن الأجيال الجديدة من داعش، مثل صديقته القاعدة، تعلمت وتطورت”.

لم ينجح التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لهزيمة تنظيم “داعش” في القضاء على التهديد، بل احتواه فحسب. ولا يزال مستقبل أكثر من 40 ألفاً من قدامى مقاتلي تنظيم “داعش” وأفراد أسرهم في حال من الغموض في المخيم.

وأظهر التنظيم تصميمه على تجاوز ظروف التضييق الأمني عليه في مناطق مثل الخليج والعراق وأوروبا وأفغانستان وتعويضها بمناطق أبعد في أفريقيا وأميركا وآسيا، ليبلغ مجموع عملياته العام الماضي 1421 عملية متفاوتة الخطورة، خلفت نحو 6 آلاف قتيل وجريح، بحسب آخر الإحصاءات الموثقة.

نقلاً عن : اندبندنت عربية