خلال حملته الانتخابية الرئاسية، لم ينفك المرشح الجمهوري دونالد ترمب الذي وفت له الأقدار لاحقاً ليعود إلى البيت الأبيض، يَعِد بأنه لو كان في سدة الرئاسة لما تجرأ فلاديمير بوتين على الدخول في مواجهة عسكرية مع أوكرانيا.
وعطفاً على ذلك، أكد دونالد ترمب أنه سيعمل على وقف الحرب الروسية – الأوكرانية خلال أسرع وقت، منهياً ثلاثة أعوام من الحرب العبثية على حد تعبيره. وقبل أن ينصرم الشهر الأول وليس الـ100 يوم الأولى له في منصبه، فتح ترمب قنوات التواصل الدبلوماسي مع روسيا وذلك عبر لقاء الرياض، الذي شارك فيه وزير خارجيته ماركو روبيو ونظيره الروسي سيرغي لافروف ووفدان كبيران من كلا البلدين، كخطوة تمهيدية للقاء مرتقب بين بوتين وترمب داخل الرياض.
بدت عجلة الأحداث تمضي بسرعة في طريق عودة العلاقات الأميركية– الروسية، وإن غاب الطرف الأوكراني عن لقاء الرياض الأخير وغاب أيضاً الطرف الأوروبي، وكلاهما لا غنى عنه في حل الأزمة. فهل تنجح إدارة ترمب في الإشراف عليها والتوصل إلى حل مناسب يرضي كل الأطراف في شأنها، أم أن هناك تعقيدات لوجيستية وسياسية تجعل حل الأزمة على هذا النحو أمراً غير يسير.
تبدو واشنطن مهتمة للغاية بفتح صفحة جديدة مع موسكو، غير أن هذه الصفحة تتقاطع مع رؤى أوكرانيا ومصالحها، وفي الوقت نفسه لا تستشعر دول أوروبا أن هناك من يضحى بمصالحها بل وأمنها مقابل مرحلة جديدة من سياسات الوفاق الروسي – الأميركي الجديدة.
كيف لنا أن نفك الخيوط ونخلص الخطوط في هذه المتاهة السياسية المثيرة، ضمن لعبة الشطرنج الإدراكية على الخريطة الأوراسية؟ وهل من فرصة حقيقية للتوصل إلى تسوية جديدة تتيح لكل الأطراف الخروج من المأزق الحالي بأقل الخسائر، وفي ظل الحفاظ على ماء الوجه؟ أم أن الصدام بات أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة؟
ترمب ورؤيته لزيلينسكي وحربه
مساء الأربعاء الـ19 من فبراير (شباط) الجاري، بدا وكأن مرحلة جديدة من الرؤية الأميركية للأزمة الأوكرانية تتجلى في الواقع، بعيداً من الرؤى السابقة للإدارة الديمقراطية والرئيس الأميركي السابق جو بايدن التي دعمت المواجهة العسكرية لبوتين – روسيا لمدة ثلاثة أعوام، ولو قدر لها الفوز في الانتخابات الرئاسية الأخيرة من خلال كامالا هاريس لأكملت المسيرة.
وجه ترمب من منتجعه الفاخر في مارالاغو داخل فلوريدا تصريحات قاسية في حق زيلينسكي، فعبر شبكته الخاصة للتواصل الاجتماعي “تروث سوشيال” كتب ترمب يقول “من المثير للتفكير أن كوميديا متواضع النجاح فولوديمير زيلينسكي تمكن من إقناع الولايات المتحدة بإنفاق 350 مليار دولار في حرب لا يمكن كسبها، ولم يكن يجب أن تبدأ أصلاً، ولكنها حرب لن يستطيع زيلينسكي تسويقها من دون الولايات المتحدة وترمب”.
تصريحات ترمب جاءت بعد كلام كثير عن حتمية حصول واشنطن على تعويضات مالية من أوكرانيا، بمعنى أن الدعم الذي تلقته طوال الأعوام الثلاثة الماضية لا بد من استرداده، وبات واضحاً أن ترمب وإدارته يضعون أعينهم على المعادن النادرة الموجودة داخل الأراضي الأوكرانية، تلك التي تصل قيمتها إلى نحو 12 تريليون دولار، أي نحو ثلث الديون الأميركية.
ويقول المراقبون في الداخل الأميركي إن عقلية الرئيس ترمب أدت بداية إلى التفكير الجدي في إيقاف الحرب بين الجانبين، وأن المنافع الاقتصادية لا سيما على صعيد إشكالية الطاقة عجلت هذه الخطوات الأميركية للتواصل مع الروس وإنهاء الأزمة الأوكرانية، حتى وإن جاءت على حساب زيلينسكي وأوكرانيا من جهة، وبالاختصام من أمن وأمان أوروبا من جهة ثانية.
لم يتوقع أي من الملاحظين لإدارة ترمب توجهاً سياسياً آخر غير ما بدر من ترمب، ولاحت الإرهاصات بقوة خلال مؤتمر ميونيخ للأمن الدولي قبل أقل من أسبوعين، وذلك حين أعلن وزير الدفاع الأميركي الجديد بيت هيغسيث أن الولايات المتحدة الأميركية لن تشارك في أي وقت ضمن حفظ سلام في أوكرانيا، وأن “ناتو” لن يقوم بهذه المهمة، وأنه في حال قيام دول أوروبية بتشكيل قوات حفظ سلام وتعرض أي منها للاعتداء من جانب القوات الروسية، فإن واشنطن لن تبادر بالدفاع عن المعتدي عليهم مما يعني تعطيل البند الخامس من ميثاق “ناتو”.
هل يمكن أن تقبل أوكرانيا بطروحات وشروحات الرئيس ترمب وإدارته؟
زيلينسكي – واشنطن… بين القبول والرفض
وجاء ضمن تصريحات ترمب عبر “تروث سوشيال” أن زيلينسكي رئيس انتهت فترة ولايته، وأنه على الأوكرانيين انتخاب رئيس جديد يمكن التفاوض معه، وهو موقف يكاد يتطابق مع الموقف الرسمي الروسي من زيلينسكي.
فيما الأمر الآخر الذي بات جلياً ومن خلال تصريحات هيغسيث نفسه خلال مؤتمر ميونيخ، أن إدارة ترمب غير معنية بالمرة بفكرة الانسحاب الروسي من الأراضي الأوكرانية التي تقول كييف إن القيصر بوتين احتلها بالقوة، وفي مقدمها منطقة شبه جزيرة القرم عام 2014، ثم بقية الأقاليم الثلاثة التي ضُمت لاحقاً إلى روسيا.
وهنا من الواضح للغاية أن زيلينسكي فقد الدعم الأميركي الترمبي دفعة واحدة، وبخاصة في ظل قناعة لدى سيد البيت الأبيض بأن نصف الأموال التي أرسلت إلى أوكرانيا مفقودة، وأنه ديكتاتور من دون انتخابات شرعية وعليه أن يتحرك بسرعة أو لن يكون لديه بلد يحكمه.
“أنا أحب أوكرانيا، لكن زيلينسكي قام بعمل سيئ جداً وبلاده محطمة وملايين الأشخاص قتلوا دون داع، ولا تزال الحرب مستمرة”، هكذا تحدث ترمب وأظهرت لقاءات الرياض أن هناك نيات أميركية واضحة إن لم تكن لتهميش أوكرانيا في أية مفاوضات قائمة أو مقبلة في شأن إنهاء الأزمة، ففي الأقل لوضعها أمام واقع حال وخيارين أحلاهما مر، فإما أن تقبل بالتنازل عن بعض المساحات التي احتلها الروس أو مواصلة القتال من دون الدعم الأميركي، مما يفيد بأنها ستجد نفسها في مواجهة الدب الروسي منفردة، وهي التي ما كان لها أن تصمد طوال هذه الأعوام من دون الدعم الأميركي الواضح والصريح من جانب إدارة بايدن.
ويرى زيلينسكي أنه لن تكون هناك نهاية للحرب مع روسيا من غير شراكة جدية من جانب كييف وهو تصريح قد لا يهتم به كثيراً الرئيس ترمب، لكن ما يمكن أن يتسبب له في الإزعاج الجدي هو رفض زيلينسكي مطالب الرئيس الجمهوري بالحصول على ثروة معدنية بقيمة 500 مليار دولار من أوكرانيا، مقابل المساعدات المقدمة من واشنطن لبلاده خلال وقت الحرب.
زيلينسكي ينكر أن تكون بلاده تلقت مثل هذه الأموال، ويرى أن كل ما تحصلت عليه لا يزيد على 67 مليار دولار من الأسلحة ونحو 32 مليار دولار دعماً مباشراً لموازنتها، مما يعني أن الإجمالي في حدود 100 مليار دولار لا أكثر.
لوا يسعى ترمب في حقيقة الأمر إلى الحصول على مبلغ الـ350 مليار دولار التي يرى أن واشنطن أنفقتها ولا على الـ500 مليار، بل الأمر أبعد من ذلك بكثير.
وفقاً لزيلينسكي، فإن إدارة ترمب تقترح اتفاقاً لا يتضمن بنوداً أمنية تعد أوكرانيا في أمس الحاجة إليها لحمايتها من العدوان الروسي، وأن مسودة الاتفاق اقترحت أن تستحوذ الولايات المتحدة على 50 في المئة من ملكية معادن مهمة في أوكرانيا، أي ما قيمته عدة تريليونات من الدولارات وليس بضعة مليارات.
وهنا يبدو موقف زيلينسكي واضحاً وعبَّر عنه بتصريح أشد وقعاً وصراحة “أنا أدافع عن أوكرانيا ولا يمكنني أن أبيع بلادنا، قلت حسناً قدموا لنا نوعاً من الإيجابية، واكتبوا بعض الضمانات وسنكتب مذكرة بنسب مئوية”.
وتابع “قيل لي 50 في المئة فحسب، وأرفض، فلندع المحامين يؤدون مزيداً من العمل، فلم يقوموا بعد بكل ما هو ضروري وأنا صاحب القرار فحسب ولا أعمل على تفاصيل هذه الوثيقة، دعمهم يعملون عليها”.
على أن علامة الاستفهام “إلى أي مدى يمكن لزيلينسكي أن يستمر في معاندة الرغبات الأميركية ومواجهة إرادة ترمب، وهو يدري جيداً أن العلاقات الأميركية – الروسية أمر متقدم جداً على علاقات واشنطن بكييف؟ ثم ماذا لو مارست واشنطن ضغوطاً داخلية على زيلينسكي تتصل بفكرة الثورات الملونة، بمعنى إزاحة الممثل الكوميدي متواضع القدر بحسب ترمب، وتنصيب صديق للولايات المتحدة مكانه؟
أوروبا تخشى صفقة ترمب – بوتين
هل تخشى أوروبا من “صفقة قذرة” بين ترمب وبوتين؟ هكذا تساءلت كلير سباستيان من شبكة “CNN” الإخبارية الأميركية، معتبرة أن الاتصال الهاتفي الذي جرى بين ترمب وبوتين يفتح الطريق لصفقة تنهي الحرب الأوكرانية بشروط مواتية لموسكو دون مشاركة كييف، وهو ما بدأت إرهاصاته في التحقق أخيراً.
حديث الصفقة القذرة جاء بالفعل على لسان كايا كالاس مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، والتي حذرت من الحل السريع لإنهاء الحرب قائلة إن “أوروبا وأوكرانيا يجب أن تكونا على طاولة المحادثات، لأن أي اتفاق سلام لا يمكن تنفيذه دون مشاركتهما”.
ولعله من نافلة القول بالنسبة إلى الدول الأوروبية الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، يبدو المستقبل وعلى حين غرة أكثر غموضاً، فمنذ تأسيس الحلف اعتمدت أوروبا على المظلة النووية الأميركية ونشر قوات عسكرية أميركية ضخمة في أوروبا، والموازنة الدفاعية الأميركية الضخمة وخط أنابيب الأسلحة.
لقد فاجأت مكالمة ترمب مع بوتين وإعلانه اللاحق أن المفاوضات ستبدأ على الفور بعد التوصل إلى اتفاق في أوكرانيا الزعماء الأوروبيين، وهددت بتركهم للعمل الشاق المتمثل في تمويل والإشراف على أية تسوية.
وبعبارة أخرى، ستنفذ واشنطن الصفقة وقد تحصل على أموال من أوكرانيا في صورة معادن أرضية نادرة كما طالب ترمب، وسوف تتحمل أوروبا الكلفة.
وتبدو أوروبا في موقف صعب وكأنها بين المطرقة والسندان، مطرقة الرئيس الأميركي المنطلقة ببراغماتية مخيفة للأوروبيين، لا سيما في ظل التعريفات الجمركية المتوقع أن يفرضها عليهم وقد تصل إلى 25 في المئة لبعض السلع، ناهيك برؤيته لرفع قيمة الشراكة في حلف شمال الأطلسي التي يرى أنها يجب أن تصل إلى خمسة في المئة من الناتج القومي لكل دولة أوروبية، وسندان بوتين وشهيته لما وراء أوكرانيا حال عزم الأوروبيون على تأجيج نيران المعركة الأوكرانية وعلى غير هوى من ترمب، والأخير هذا لم يتورع أن يهدد الجانب الأوروبي بإطلاق يد بوتين في عموم أوروبا، وقالها تصريحاً لا تلميحاً.
على أنه وفي كل الأحوال يحاول الأوروبيون سواء في “ناتو” أو الاتحاد الأوروبي جاهدين أن يسمعوا أصواتهم خلال وقت يركز فيه ترمب على التوصل إلى اتفاق مع بوتين، لإنهاء ما سماه “إراقة الدماء بلا معنى في أوكرانيا”.
وقالت كالاس إن “أي اتفاق خلف ظهورنا لن ينجح، مضيفة أن “التهدئة تفشل دائماً، لذا فإن أوكرانيا ستواصل المقاومة وستواصل أوروبا دعم أوكرانيا”.
والثابت أن الحلفاء كانوا دوماً مولعين بشعار “لا تسوية في أوكرانيا من دون أوكرانيا”، وقد يُوسَّع هذا الشعار الآن ليشمل “من دون أوكرانيا وأوروبا”، فقد قالت ست حكومات أوروبية بما في ذلك فرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا في بيان مشترك، وهم مذعورون مساء الأربعاء الماضي “نحن نتطلع إلى مناقشة الطريق مع حلفائنا الأميركيين، ويجب أن تكون أوكرانيا وأوروبا جزءاً من أية مفاوضات”.
لكن السؤال، ما الذي تملكه أوروبا لإجبار ترمب على وضع كرسي متقدم حول مائدة المفاوضات لدول الاتحاد أو لأوكرانيا؟ ثم وهذا هو الأهم، هل يمكن للأوروبيين أن يقفوا منفردين في وجه بوتين حال رفض أوكرانيا الرؤية الأميركية لإنهاء هذه الحرب، وصولاً إلى مواجهة المخاوف من أن تمتد الأزمة إلى عدد آخر من دول القارة الأوروبية؟
هل إرسال قوات أوروبية هو الحل؟
ضمن تعقيدات المشهد الأوكراني وحال التخلي الأميركي عن الوساطة وترك الأوكرانيين بمفردهم في الميدان أمام توجهات ترمب يبقى التساؤل الأكثر إثارة، هل أوروبا قادرة أو راغبة في إرسال قوات مسلحة إلى الحدود الأوكرانية بمفردها؟
أفضل من قدم جواباً على علامة الاستفهام المتقدمة الزميلة البارزة في برنامج إعادة تصور الاستراتيجية الكبرى في مركز ستيمسون ومؤلفة الكتاب المنتظر “الأول بين المتساوين، السياسة الخارجية الأميركية لعالم متعدد الأقطاب” إيما أشفورد.
وتقول أشفورد إن “هناك أسباباً تدعو إلى الشك في إمكانية ضمان أوروبا لتوفير القوات وبخاصة من دون مشاركة أميركية كبيرة. ومع بدء مرحلة التفاوض في شأن حرب أوكرانيا خلال الأيام المقبلة، من المهم أن نفهم أن الضمانات الأمنية ليست السبيل الوحيد لمنع عودة روسيا إلى ارتكاب الجرائم، وبدلاً من ذلك ينبغي لصناع السياسات أن ينظروا في بدائل للضمانات الأمنية المباشرة، مثل تعزيز قدرات أوكرانيا الرادعة مع معالجة الأسباب الكامنة وراء الصراع”، وفي نهاية المطاف من المرجح أن تكون مثل هذه الخطوات أكثر صدقية وفعالية من قوة حفظ سلام أوروبية غير مدروسة، تعتمد بصورة مفرطة على الولايات المتحدة للحصول على دعم حاسم في مجالات مثل المراقبة واللوجيستيات العسكرية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولعل السبب وراء تركيز صناع السياسات الأوروبيين أخيراً على الضمانات الأمنية التي تنطوي على نشر القوات بسيط، ذلك أن أحد أكثر الأسئلة تحدياً في أية مفاوضات سلام هو كيفية منع تكرار الحرب بعد فترة توقف قصيرة.
وعلى رغم أن وقف إطلاق النار الموقت في أوكرانيا قد يكون مفيداً، فإن السلام الأطول والأكثر استدامة سيتطلب تمكين إعادة بناء اقتصاد أوكرانيا وازدهارها خلال المستقبل، وإذا ظلت احتمالات العودة إلى الحرب واردة فستتردد الحكومات في تقديم كثير من الدعم لإعادة البنية الأساس والاقتصاد داخل أوكرانيا، وسوف يصبح القطاع الخاص أقل ميلاً إلى الاستثمار.
هل الحل في انضمام أوكرانيا لـ”ناتو”؟
المعروف أن كييف أصرت ومنذ فترة طويلة على أن السبيل الوحيد لحل مشكلتها يتلخص في منح أوكرانيا عضوية حلف شمال الأطلسي كجزء من اتفاق سلام محتمل، وهذا أمر مثالي من وجهة نظر كييف لأنه يخفف العبء عن الولايات المتحدة في ما يتصل بمنع اندلاع حرب في المستقبل، ومن شأنه أيضاً أن يكون مفيداً للدول الأوروبية الفعالة من حيث الكلفة، على حد تعبير أحد زعماء الاتحاد الأوروبي أخيراً، لأنه سيعتمد بدرجة أقل على الإنفاق أو الأسلحة أو الانتشار العسكري، وبصورة أكبر على الضمان الورقي الذي توفره المادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي.
غير أن عضوية “ناتو” بالنسبة إلى أوكرانيا تظل غير مرجحة في الأمد البعيد وغير معقولة خلال الأمد القريب، والواقع أن الشكوك التي تسود بعض صناع السياسات الأوروبيين وبخاصة في ألمانيا، تعود إلى قمة بوخارست عام 2008 في الأقل، وذلك عندما سعت إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش إلى عرض مسار العضوية على أوكرانيا وجورجيا، وقاومت الحكومات الأوروبية.
وعطفاً على ذلك، أضافت الحرب نفسها مزيداً من العقبات أمام عضوية أوكرانيا، ومن شأن عضوية حلف شمال الأطلسي بالنسبة إلى أوكرانيا أن تلزم الولايات المتحدة والدول الأوروبية بالقيام بالشيء ذاته الذي قاومته لمدة أربعة أعوام، أي “مواجهة روسيا مباشرة نيابة عن أوكرانيا”.
هل في العبارة الأخيرة مفتاح فهم ما يجري بالنسبة إلى إدارة ترمب ويتيح للقارئ فهم لماذا يسعى ترمب إلى إنهاء هذه الحرب العبثية بأي ثمن، حتى ولو على حساب أوكرانيا وربما أوروبا بصورة أو بأخرى؟
حرب أوكرانيا النووية… كارثة لأميركا
من الواضح جداً أن إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن كادت تنزلق في طريق التصعيد من المواجهة التقليدية إلى الصراع النووي، الذي لا يبقي ولا يذر.
هذا ما أدركته العقول التي تفكر للرئيس ترمب وفي المقدمة منها العاملون والباحثون في معهد “هيرتاج فاونديشن” العقل المفكر لترمب، والذين أخرجوا إلى النور مشروع 2025 المغير لشكل وجوهر أميركا.
يكتب مدير مركز أليسون للأمن القومي روبرت جرينواي والزميل الباحث في مجال الردع النووي والدفاع الصاروخي روبرت بيترز، موضحين كيف أن الحرب النووية من جراء أوكرانيا أمر يمكن أن يمثل كارثة بالنسبة إلى أميركا.
الباحثان الأميركيان البارزان يوضحان في ورقتهما البحثية كيف أن سماح إدارة بايدن برفع القيود المفروضة على استخدام صواريخ ATACMS، كان من الممكن جداً أن يدفع فلاديمير بوتين في طريق استخدام الأسلحة النووية.
وبات واضحاً أن مستشاري ترمب أدركوا خطورة التهور الديمقراطي السابق والذي لم يكن له داع ولا طائل من ورائه سوى الخراب والموت والدمار.
عندما ضربت روسيا أوكرانيا بصاروخ باليستي متوسط المدى قادر على حمل رؤوس نووية ومسلح بمركبات إعادة دخول مستقلة تقليدية متعددة، كان ذلك بمثابة إشارة واضحة من موسكو… ما فحوى تلك الرسالة؟
باختصار غير مخل، فإن بوتين قد يكون مستعداً للمرة الأولى لاستخدام الأسلحة النووية في مواجهة الأسلحة الأميركية الصاروخية المتقدمة، التي يمكنها إحداث أضرار جسيمة في الداخل الروسي.
ودان الباحثون في مؤسسة التراث تلك الخطوة من جانب إدارة بايدن، انطلاقاً من خطورتها على حال الأمن والسلم العالميين وليس الأوكراني فحسب.
وتوقف الباحثون في “هيرتاج فاونديشن” عن تسلسل الأحداث الذي أعقب عملية إطلاق الأوكرانيين صواريخ “أتاكمز” على روسيا.
وفي غضون أيام من الهجوم أصدرت روسيا عقيدة محدثة للتوظيف، تنص على أن موسكو ستنظر إلى أي هجوم ضد روسيا من قبل قوة غير نووية “بمشاركة أو دعم من قوة نووية” باعتباره “هجوماً مشتركاً على الاتحاد الروسي”.
وأشارت العقيدة النووية الجديدة إلى أن روسيا ستنظر إلى العدوان ضدها من قبل عضو في تحالف عسكري باعتباره “عدواناً من قبل الكتلة بأكملها”، وذلك في إشارة واضحة إلى حلف شمال الأطلسي. وأكدت أن روسيا يمكن أن تستخدم الأسلحة النووية رداً على هجوم جوي ضخم بالصواريخ الباليستية والصواريخ المجنحة أو الطائرات من دون طيار.
وفي أعقاب إصدار مبدأ التوظيف النووي الجديد، صرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف علناً بأن روسيا لا تريد حرباً مع الغرب أو استخدام الأسلحة النووية في القتال، لكن واشنطن تجعل مثل هذه النتيجة أكثر ترجيحاً من خلال أفعالها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأدركت العقول المفكرة من العسكريين بنوع خاص، أن الهجوم الروسي على أوكرانيا بصاروخ باليستي من نوع RS-26 يعد بداية لمسيرة خطرة.
وبدلت روسيا الرؤوس النووية المركبة على الصاروخ بأخرى تقليدية، وكانت هذه المرة الأولى التي يحدث فيها مثل هذا الشيء الذي يعد حدثاً خطراً، فحتى خلال الحرب الباردة لم تضرب الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفياتي حلفاء كل منهما أو شركاءه برؤوس حربية تقليدية، تحملها صواريخ باليستية قادرة على حمل رؤوس نووية كجزء من حملة إرسال إشارات.
وبدت الخلاصة أنه ليس من مصلحة الولايات المتحدة المخاطرة حتى بحرب نووية محدودة مع روسيا بسبب أوكرانيا، وأن “أميركا العظيمة” التي يسعى ترمب في طريقها لا يمكن أن تمر أبداً من خلال المحرقة النووية، مما يجعل التعجيل بإنهاء هذه الحرب أمراً مطلوباً خلال أسرع وقت، حتى ولو كانت هناك خسائر جانبية لدى حلفاء واشنطن من الأوروبيين أو الأوكرانيين.
غير أن التساؤل الذي يبقى محل نقاش هو “كيف يمكن لترمب أن يقنع بوتين بإحلال السلام في أوكرانيا وبأي ثمن؟
حديث مع بوتين وشجار مع زيلينسكي
بعد مشاهد الخلافات الأميركية مع الأوروبيين، سواء في مؤتمر باريس للذكاء الاصطناعي أو عبر مؤتمر ميونيخ للأمن والتصريحات الفجة من جانب نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس، بدت التساؤلات المثيرة والقلقة في الداخل الأوروبي عن إلقاء ترمب لأوكرانيا على قارعة الطريق، والتضحية بها على مذبح العلاقات الأميركية – الروسية.
على سبيل المثال، كتبت سوزان غلاسر من مجلة “نيويوركر” تقول إن “ترمب باع أوكرانيا بعد مكالمة هاتفية واحدة مع بوتين”، بينما وصف بيتر بيكر من صحيفة “نيويورك تايمز” ما يحدث بأنه “تحول جذري” في السياسة الخارجية الأميركية، تحول يعيد ترتيب مواقف الأصدقاء والأعداء على حد سواء، لا سيما بعد أن بدا واضحاً تواصل ترمب وتحادثه بود مع بوتين، في حين أنه يتشاجر ويوبخ زيلينسكي”.
غير أن الحقيقة غالب الأمر ليست على هذا الوضع من السوء وبعيدة من العناوين الإخبارية، وهناك حاجة ماسة إلى النظر للقضية برؤية أوسع، فالادعاء بأن إدارة ترمب باعت أوكرانيا لروسيا أو قدمت تنازلات كبيرة لبوتين يتجاهل حقيقة أن الولايات المتحدة لم تتفاوض حتى الآن مع روسيا في شأن الحرب في أوكرانيا، ولم تتوصل إلى أية تسوية ستُفرض على كييف، وأن لقاء وزير الخارجية الأميركي روبيو مع نظيره الروسي لافروف داخل الرياض كان مجرد مقدمة لبدء هيكلة المحادثات الحقيقية، وتأسيس آلية لإدارة الخلافات والقضايا الجوهرية التي سيجري مناقشتها خلال الاجتماعات المقبلة.
وبحسب وزير الدفاع الأميركي هيغسيث فإن كل ما قدمته إدارة ترمب حتى الآن هو قائمة من النقاط الواضحة حول القضية، تتضمن أن أوكرانيا لن تكون عضواً في حلف شمال الأطلسي ولن تستعيد حدود ما قبل عام 2014 على الأرجح.
هل هناك حاجة إلى آلية أميركية أوروبية جديدة لإنهاء النزاع الأوكراني بأقل خسائر لكل الأطراف؟
عن الدبلوماسية القسرية
في مؤلفه المعنون “الإقناع بالقوة، الدبلوماسية القسرية كبديل للحرب” يخبرنا المتخصص السياسي ألكسندر أل جورج بأننا إذا ما طبقنا هذا الكتاب على أوكرانيا، فسنلقي الضوء على سبب صعوبة تسوية الصراع من خلال الدبلوماسية، ويكشف لنا كيف يمكن تحسين هذه الاحتمالات.
ومن الممكن أن يساعد هذا المنظور فريق ترمب في تحقيق أقصى استفادة من هذا الوضع السيئ وربما صفقة القرن.
وفي كتابه يُعرِّف جورج الدبلوماسية القسرية بأنها “التهديد باستخدام القوة كوسيلة لاستعادة السلام”، وهي “استراتيجية دفاعية تتخذ رداً على تعدي الخصم أو عمله العدواني”، ويرى جورج أن مثل هذه الاستراتيجية بديل لاستخدام القوة العسكرية لإجبار الخصم على الاستسلام، كما وصفها معاصروه مثل توماس شيلينج.
وعلى النقيض من ذلك، فإن الدبلوماسية القسرية “تسعى إلى إقناع الخصم بوقف عدوانه بدلاً من إجباره على التوقف”.
ويرى جورج أن “استخدام الجزرة” فضلاً عن “العصى” لتحقيق النتائج ينطوي على إمكانات أكبر من سيلينج، وذلك باستخدام “الإقناع والتكيف فضلاً عن التهديدات القسرية”.
هل يمكن أن ينجح ترمب في ربط كل المتناقضات القائمة ضمن الأزمة الأوكرانية، ليدخل التاريخ كأحد القياصرة الأميركيين عن حق؟
نقلاً عن : اندبندنت عربية