قد لا يكون القلم أقوى من السيف، لكنه لا يزال يمتلك القدرة على الإيذاء. فكيف يمكن تفسير التصريحات الاستثنائية للرئيس الروسي السابق ديميتري مدفيديف، هذا الأسبوع، التي كشف فيها عن مدى تأثره من مقال افتتاحي في صحيفة “التايمز”؟
قد يظن المرء أن لدى النخبة الروسية ما يكفي من المشاكل في الوقت الحالي، مثل التضخم الهادر وأسعار الفائدة، والعقوبات ونقص العمالة، والتكلفة المتصاعدة للحرب فضلاً عن الخسائر المتزايدة في أوكرانيا. ولكن، لا، كانت افتتاحية كُتبت من قبل شخص مجهول في لندن هي التي أزعجت حقاً حليف بوتين المقرب الذي يشغل الآن منصب نائب رئيس مجلس الأمن الروسي.
بيد أن ميدفيديف ربما لم يتمكن من قراءة الافتتاحية بالكامل، بل ألقى نظرة سريعة على العنوان الرئيس، الذي كُتب على سبيل التعليق على اغتيال الفريق إيغور كيريلوف في شوارع موسكو. وكان العنوان “القتل المستهدف هو عمل دفاعي مشروع من قِبَل دولة مهددة”.
ومهما يكن الأمر، فقد استفزه ذلك وأدى به إلى نوبة من الغضب فراح يصف محرري صحيفة “الـتايمز” بأنهم “أهداف عسكرية مشروعة”. واعتبر أن أعضاء فريق التحرير المجهولين في الصحيفة هم ” كلاب بائسون اختبأوا بجبن وراء افتتاحياتهم. وهذا يشمل قيادة الصحيفة بأكملها”.
وإذ أخذ يشد نفسه ليقف منتصب القامة بطوله الذي يبلغ 168سم، فقد حذر [المحررين] قائلاً “لذلك، كونوا حذرين. ففي النهاية، تحدث أشياء كثيرة في لندن”.
وهم يفعلون ذلك، في الواقع. ففي عام 2017، حقق موقع بازفيد الاستقصائي المؤثر حينذاك، في ما لا يقل عن 14 حالة وفاة مشبوهة لها علاقة بروسيا، إذ توفيت مجموعة منوعة من منتقدي الدولة بصورة مفاجئة من “نوبات قلبية” أو “انتحار”. كما سقط آخرون من النوافذ أو عانوا من عطل في المروحيات [التي كانوا على متنها]. وكان التسميم والخنق أيضاً من الخيارات الأخرى، في حين أننا قد لا نعرف أبداً حقيقة الرجل الذي مات داخل حقيبة رياضية حمراء كانت مغلقة بقفل من الخارج.
إذاً نعم، تحدث عديد من هذه “الأشياء” في لندن ولا شك أن الإدارة العليا لصحيفة “الـتايمز” تسعى للاستئناس بأفضل نصيحة أمنية بخصوص مدى الجدية الذي يجب التعامل به مع التهديد الذي يكاد يكون صريحاً وقد صدر عن الرجل الذي شغل منصب رئيس روسيا بين عامي 2008 و2012.
من هذه الناحية، يشترك ميدفيديف في بعض الصفات مع أدولف هتلر، الذي كان مهووساً بالصحافة البريطانية على نحو مماثل. وقد طلب اللورد هاليفاكس، وزير الخارجية آنذاك، من رسام الكاريكاتير ديفيد لو الذي كان يسخر بانتظام من الديكتاتور، أن يكون لطيفاً مع هتلر في عام 1937 لأنه كان يزعج الفتى الصغير. وجاء هذا الاقتراح أصلاً من الدكتور غوبلز.
إن التهديد بقتل الصحافيين البريطانيين بسبب كتابة أشياء مزعجة هو أمر جديد، كنه ليس خبراً غير مألوف أن قادة روسيا لم يكونوا يوماً متيمين بفكرة الصحافة الحرة. ولكن الجديد في الأمر هو أن أميركا التي كانت ذات يوم منارة متألقة لسلطة رابعة صاخبة وفوضوية ومزعجة، تتجه الآن ببطء نحو النظرة [الروسية] ذاتها إلى الصحافة.
صحيح أن دونالد ترمب وحلفاءه لم يقترحوا بشكل مباشر أن يتم تهميش الصحافيين الأميركيين. لكنه غالباً ما أهان الصحافة أو هاجمها أو هددها في خطابات عامة متنوعة. وشمل ذلك على ما يبدو الترحيب بفكرة إطلاق النار على الصحافيين، والإشادة بالعدوان الجسدي على المراسلين (“إنه مشهد جميل في الواقع”)، والمزاح بأن احتمال التعرض للاغتصاب في السجن من شأنه أن يشجع الصحافيين على فضح مصادرهم.
لقد قطعنا شوطاً طويلاً منذ أن فضل توماس جيفرسون “الصحف بلا حكومة” على “الحكومة بلا صحف”. وفي الواقع، صدر إلى الآن تحذير صريح عن كاش باتيل، مرشح ترمب لرئاسة مكتب التحقيقات الفيدرالي، جاء فيه “سنلاحق الأشخاص [العاملين] في وسائل الإعلام الذين كذبوا في شأن المواطنين الأميركيين الذين ساعدوا جو بايدن في تزوير الانتخابات الرئاسية. سنلاحقكم سواء كان ذلك جنائياً أو مدنياً”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
جاء هذا الاقتباس من مقابلة مع رفيق ترمب السابق ستيف بانون، الذي يبدو أنه عاد إلى دائرة الضوء ويصدر تهديدات مشابهة في شأن نوايا الإدارة القادمة تجاه وسائل الإعلام.
وفي حفل عشاء أقيم أخيراً، للمحافظين في وول ستريت في نيويورك، هدد بانون قائلاً “نريد الانتقام وسوف ننتقم. يجب أن تفعلوا ذلك. الأمر ليس شخصياً، إنه ليس شخصياً”، على حد تعبير بانون أمام جمهور مبتهج. وأضاف، “إنهم بحاجة إلى معرفة ما هي القوة الشعبوية والقومية التي ستحقق الانتقام”.
وتابع، “أنا بحاجة إلى تحقيقات ومحاكمات ثم سجن. وأتحدث فقط عن وسائل الإعلام. هل يجب إدراج وسائل الإعلام في المؤامرة الإجرامية الضخمة ضد الرئيس ترمب؟”. ثم ذكر بعض المعلقين والصحافيين الليبراليين، “أندرو فايسمان على قناة أم أس أن بي سي وراشيل مادو وجميعهم”.
وقدم بانون بعض الإشارات حول ما يمكن أن تواجهه وسائل الإعلام الأميركية “غير الودية” في المستقبل، عندما أعلن “نريد كل رسائل البريد الإلكتروني الخاصة بكم، وكل رسائلكم النصية، وكل ما فعلتموه”.
إذا كانت الفكرة هي إثارة قلق وسائل الإعلام الأميركية، فيبدو أنها تفعل فعلها، على رغم التحفيز الذي قدمه أستاذ جامعة ييل تيموثي سنيدير بقوله، “لا تنصاعوا للأوامر قبل أن تحدث فعلاً”. لقد التزمت الصحف الصمت بدلاً من إزعاج ترمب عدم تأييد رئاسته. وابتكر مالك إحدى هذه الصحف، وهي “لوس أنجلوس تايمز”، مقياساً سخيفاً يعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحديد التحيز السياسي المحتمل لكتابها بهدف تحذير القراء الحساسين.
في الأسبوع الماضي، رأينا قناة “ABC News” توافق على دفع 15 مليون دولار (نحو 12 مليون جنيه استرليني) لمكتبة دونالد ترمب الرئاسية من أجل تسوية دعوى تشهير أقيمت بسبب تأكيد مذيعها جورج ستيفانوبولوس أن الرئيس المنتخب قد دين بالمسؤولية المدنية عن اغتصاب الكاتبة إي جين كارول. في الواقع، كانت التهمة التي دين بها هي الاعتداء على كارول جنسياً وتشويه سمعتها.
في الماضي، كانت أي قناة بث ستتصدى لمثل هذه القضية على أساس افتراض [مسبق] هو أن من شأن التعديل الأول للولايات المتحدة، إلى جانب قوانين أخرى معنية بصون حرية التعبير، أن يحميها. ولكن مع وجود محكمة عليا مليئة بأتباع ترمب، فإن الأمر يتطلب أن تتسم المؤسسة الإخبارية بالشجاعة لكي تستطيع اختبار [صلاحية] الضمانات التاريخية لحرية التعبير.
لم يكن ترمب راضياً بإذلال “ABC” فقط، بل أعلن الآن أنه يقاضي صحيفة “Des Moines Register”، جنباً إلى جنب مع الشركة الأم ومحلل استطلاعات الرأي السابق لديها، بتهمة “التدخل الوقح في الانتخابات” في شأن استطلاع رأي أفاد بأن كامالا هاريس قد تفوز في ولاية أيوا وتبين [لاحقاً] أنه مريب، كما نُشر قبل أيام من الانتخابات.
يتوقع الخبراء القانونيون الآن أن قانون التجسس لعام 1917، أي السلاح الذي استخدمه المدعي العام السابق لترمب بيل بار، ضد جوليان أسانج، وسيتم الاعتماد عليه الآن بالطريقة التي اقترحها بانون، وذلك للوصول إلى كل عمليات الاتصال التي قام بها المراسلون وإلى مصادرهم.
ويحظر هذا القانون مشاركة “معلومات متعلقة بالدفاع الوطني” أو الاحتفاظ بها من دون أن يكون ذلك مصرحاً به. ويبدو من المرجح أن يزعم ترمب أن كل الاتصالات الرئاسية تقريباً تتمتع بالمواصفات اللازمة [لتصنيفها] معلومات دفاع وطني. لذلك قد يواجه الجسم الصحافي في البيت الأبيض ملاحقات قضائية بسبب إعداد تقارير حول ما يخطط له ترمب وفريقه.
وتمثل تهديدات ميدفيديف باستهداف صحافيي “التايمز” في لندن شيئاً جديداً وقبيحاً، حتى ولو كنا قد اعتدنا، بشكل يبعث على الضجر، على قيام الدولة الروسية باستعمال العنف مع أي شخص تعدونه عدواً.
لكن ما يجري الكشف عنه في أميركا في الوقت الحالي مثير للقلق بالقدر نفسه، ولو كان ذلك يعود فقط إلى أنه يهدد بتفكيك فكرة راسخة بشكل عميق حول ما كانت عليه الصحافة الحرة وما ينبغي لها أن تكون عليه. وسيكون هناك تغيير مثير للاهتمام في وقت وشيك في شأن من سينحني مستسلماً ومن سيقاوم.
نقلاً عن : اندبندنت عربية