طغت صورة ترمب المتلفزة على الحضور في قاعة المؤتمرات في منتجع التزلج في دافوس، أول من أمس الخميس، لتجسد التأثير الكبير الذي أحدثه الرئيس الجديد بعد أيام قليلة من بداية ولايته الثانية في المكتب البيضاوي.

وجاءت مطالب ترمب في خضم أول أسبوع محموم له في منصبه، إذ أطلق سلسلة من الأوامر التنفيذية والإعلانات التي تهدف ليس فقط لإعادة تشكيل الدولة لكن لتأكيد الهيمنة الاقتصادية والتجارية لأميركا. قد تفرض رسوم تصل إلى 25 في المئة على كندا والمكسيك في الأول من فبراير (شباط) الثاني، متجاهلة الاتفاق التجاري الذي تفاوض عليه ترمب نفسه في ولايته الأولى، وقد تواجه الصين رسوماً تصل إلى 100 في المئة إذا فشلت بكين في التوصل إلى اتفاق لبيع ما لا يقل عن 50 في المئة من تطبيق “تيك توك” لشركة أميركية، بينما جرى إخبار الاتحاد الأوروبي بشراء مزيد من النفط الأميركي إذا أراد تجنب الرسوم.

وفي تأكيد للأنانية الأميركية الجديدة، سحب ترمب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، وكذلك من اتفاقية باريس للمناخ للمرة الثانية، ومن اللافت للنظر، أن ترمب لجأ إلى بند غامض يعود إلى 90 عاماً في قانون الضرائب الأميركي ليهدد بمضاعفة معدلات الضرائب على الأجانب والشركات إذا كانت دولهم تفرض ضرائب “تمييزية” على الشركات الأميركية متعددة الجنسيات.

ويقول مدير مركز الضرائب التجارية في جامعة أكسفورد، نيلس يوهانيسن، لصحيفة “فايننشال تايمز”، إن هذا الاقتراح “يرمي قنبلة يدوية” في مجال صنع السياسات الضريبية الدولية. ويوضح أن هذه الخطوة تشير إلى عزيمة على “تشكيل سياسات الضرائب في البلدان الأخرى من خلال الإكراه بدلاً من التعاون”.

وتثير الخطط التي كشف عنها الرئيس الجديد هذا الأسبوع شبح حرب اقتصادية متعددة الجبهات، إذ يستخدم ترمب قوة الاقتصاد الأميركي المتجدد لإعادة توازن النظام الدولي لصالحه.

وتقول الصحيفة إن السؤال الأساس، كما يقول المستثمرون وصانعو السياسات، هو ما إذا كان هذا يمثل نسخة أكثر حدة من النهج القائم على الصفقات والمعاملات الذي شوهد في الولاية الأولى لترمب، أم إنه يمثل تحولاً نحو الأحادية المطلقة، إذ يضغط البيت الأبيض، غير مقيد بقيود القانون الدولي، لإجبار وترهيب الحكومات والشركات الأجنبية.

في حين يقول رئيس أحد أكبر صناديق الثروة السيادية في العالم، للصحيفة، “إنه يسعى لتسليح كل شيء: التجارة، الضرائب، والطاقة، وأنا قلق من تسليح التمويل أيضاً… يراهن معظم الناس على أنه يهتم بسوق الأسهم، وهذا هو الرادع الوحيد، إضافة إلى أنه قال إنه يريد أن يكون صانع سلام”.

تقويض النظام العالمي القائم على القواعد

وفي دافوس، كان كبار التنفيذيين الأميركيين متحمسين لدعم أجندة ترمب، مما يشير إلى أن هناك قلقاً ضئيلاً داخل القطاع التجاري في شأن احتمال أن تقوض الولايات المتحدة النظام العالمي القائم على القواعد.

وقال الرئيس التنفيذي لشركة “جيه بي مورغان تشيس”، في مقابلة مع قناة “سي أن بي سي” في دافوس هذا الأسبوع، “التعريفات الجمركية هي أداة اقتصادية، هذا كل ما في الأمر. إذا كانت تسبب تضخماً طفيفاً، لكنها تخدم الأمن القومي، فلا بأس. تجاوزوا الأمر.”

وشهدت سوق الأسهم الأميركي ارتفاعاً هذا الأسبوع مع استيعاب المستثمرين لاحتمالية تخفيف القيود المفروضة على البنوك وشركات التكنولوجيا الفائقة، إلى جانب إعلان عن مشروع ضخم بقيمة 100 مليار دولار لتطوير البنية التحتية للذكاء الاصطناعي بقيادة “سوفت بانك” و”أوبن أي آي”.

بحلول نهاية الأسبوع (حتى مساء الجمعة في نيويورك)، ارتفع مؤشر (أس أند بي 500) بنسبة 1.8 في المئة.

ويقول رئيس قسم الاقتصاد الكلي العالمي في معهد “أموندي للاستثمار”، محمود برادان للصحيفة، “يتحدث الناس مع الرؤساء التنفيذيين ويقولون إنهم يشعرون بإيجابية مفرطة. إذا سألت نفسي ما الذي يبرر هذه الروح، فإن تخفيف القيود المصرفية أمر حقيقي واحتمالية خفض الضرائب على الشركات أمر حقيقي.”

تفكك التجارة العالمية

مع ذلك خارج الولايات المتحدة، يشكل تهديد توسيع نطاق الحواجز التجارية والنزاعات في شأن السياسات الضريبية عبئاً على التوقعات الاقتصادية.

ويقول مفوض الاقتصاد في الاتحاد الأوروبي فالديس دومبروفسكيس، إن “تفكك التجارة العالمية سيكون مقلقاً بصورة خاصة لاقتصادات مثل أوروبا، إذ تمثل التجارة أكثر من خمس الناتج المحلي الإجمالي.”

ويشير إلى تقديرات صندوق النقد الدولي التي تفيد بأن “التفكك الجيواقتصادي الشديد في التجارة يمكن أن يؤدي إلى خسارة بنسبة سبعة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي على المدى المتوسط.”

ويضيف، “إذا استقر هذا التفكك الاقتصادي العالمي، وهناك خطر لذلك، فسيكون له عواقب اقتصادية سلبية كبيرة.”

ورغم الاستعداد لمواجهة تصعيد التعريفات الجمركية، يرى بعض صناع السياسات الأوروبيين فرصاً محتملة، إذ يقول رئيس وزراء بلجيكا ألكسندر دي كرو، “إنها بيئة جديدة أقل راحة بالتأكيد لأوروبا، لكنها تقدم كثيراً من الفرص، كما يمكن لأوروبا أن تظهر هنا أننا نقدم الاستقرار وأنكم في بيئة يمكن فيها الاستثمار بثقة.”

يشير المسؤولون الأوروبيون إلى أنهم قد يستفيدون من تعزيز العلاقات التجارية مع دول أخرى قد تستبعد من الأسواق الأميركية، ويقول مسؤول كبير في الاتحاد الأوروبي، “تأتي الدول إلينا لأنها تريد تنويع علاقاتها بعيداً من الولايات المتحدة.”

ويقول وزير الاقتصاد الإسباني كارلوس كويربو، “علينا أن نستمر في الانفتاح من دون أن نكون ساذجين، نحتاج إلى أن تكون شركاتنا قادرة على المنافسة في ظل ظروف متكافئة وملعب متساو مقارنة بالآخرين. كانت هذه هي الحال مع الصين، ويجب أن تكون كذلك مع الولايات المتحدة.”

وفي حين أن الولايات المتحدة وأوروبا طالما انتقدتا الممارسات التجارية الصينية، سارعت بكين هذا الأسبوع لتقديم نفسها مدافعاً عن النظام العالمي القائم على القواعد بدلاً من كونه خصماً له.

وتحدث نائب رئيس الوزراء الصيني دينغ شيوشيانغ بعد يوم من تنصيب ترمب، مشدداً على أن العولمة الاقتصادية “ليست لعبة صفرية يخسر فيها طرف ليربح الآخر.”

وقال، إن أكبر دول العالم في حاجة إلى “القيادة بالقدوة”، مشيداً بالهيئات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية والأمم المتحدة.

في حين لم تغب المفارقة عن الحاضرين في دافوس وهم يشاهدون خطاب شيوشيانغ، إذ تقدم الصين نفسها رمزاً للتجارة الحرة في وقت يسعى ترمب لانتزاع تنازلات من أقرب حلفائه باستخدام القوة الاقتصادية المباشرة.

صانعو السياسات ونهج الانتظار والترقب

ورغم سيل الإجراءات والتصريحات الصادرة عن البيت الأبيض هذا الأسبوع، يتخذ معظم صانعي السياسات العالميين نهج الانتظار والترقب تجاه التعاملات العدوانية التي ينتهجها ترمب، بدلاً من التسرع في استخلاص استنتاجات حول الآثار طويلة الأجل على النظام الاقتصادي العالمي.

ويقول مسؤول أوروبي رفيع المستوى، “لماذا أضع أوراقي على الطاولة قبل أن يضع هو أوراقه؟” .

في حين يقر وزير الأعمال البريطاني جوناثان رينولدز، بأن هناك “كثيراً من التساؤلات” حول نهج الرئيس وتساءل، “هل يتعلق الأمر بالضغط في المفاوضات، أم بجمع الإيرادات من خلال الرسوم الجمركية؟”.

وأكد أن بريطانيا ستواصل الدعوة إلى “اقتصاد تجاري عالمي أكثر انفتاحاً بكثير.”

وتقول الصحيفة، “لا شك أن ترمب يبعث بإشارات واضحة لتصعيد كبير في كيفية استخدامه التجارة كسلاح مقارنة بفترته الرئاسية الأولى”.

وتقول المسؤولة السابقة في وزارة التجارة البريطانية، التي تعمل الآن في شركة الاستشارات “أس أي سي نيوغيت”، إلى رينيسون، “أتيحت الفرصة لمن حول ترمب لبناء نهج منهجي ومنظم للسياسة التجارية الحمائية، وهذا واضح الآن”.

وتشير رينيسون إلى أن النهج الحالي يتمثل في إعداد ملفات “أدلة” ضد الدول، ثم استخدامها لانتزاع تنازلات في مجالات السياسة الاقتصادية والخارجية على حد سواء. وتضيف، “لكن يبقى السؤال: إلى أي مدى يمكن أن يمضي ترمب في هذا الاتجاه؟”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من جانبه يحذر رئيس مركز “الأبحاث بروغيل” يروماين زيتلمير، من أن خطر انتهاك النظام القائم على القواعد يكمن في انهيار كامل للقنوات الدبلوماسية والقانونية لتسوية النزاعات الدولية.

ويضيف، أنه إذا قرر ترمب الانسحاب من مجموعة أوسع من الأطر الدولية، مثل منظمة التجارة العالمية أو صندوق النقد الدولي، فإن ذلك قد يؤدي إلى “تدمير فعلي” للترتيبات التي تحكم الاقتصاد العالمي.

في السيناريو الأكثر تطرفاً يقول يروماين زيتلمير، “قد يفعلون ما يشبه بوتين”، أي انتهاك قدسية الحدود الدولية.

من جانبه يتساءل مدير دراسات السياسة الاقتصادية في مركز أبحاث المعهد الأميركي للمشاريع مايكل سترين، عما إذا كان ترمب سيعمل على عكس “القوى الأساسية” التي تقود التكامل الاقتصادي العالمي أو حتى ما إذا كان الرئيس يرغب فعلياً في ذلك.

لكنه يضيف، أنه بغض النظر عن النيات الحقيقية لترمب، فإن حال عدم اليقين في شأن أهدافه “تجعل من الصعب على الشركات وضع خطط، وتخلق تأثيراً محبطاً على الاستثمار، وتزيد التوترات مع حلفائنا.”

نقلاً عن : اندبندنت عربية