على رغم أن العالم يبدو للناظر إليه الآن، أو في أي عصر في الحقيقة خرباً قاسياً مبادراً بالأذى طارداً، فإننا لا نكاد نفكر في طريقة لتحسينه إلا ونختلف ونيأس، ويبدو لنا – أو لبعض منا في الأقل – أن النسخة المطروحة من هذا العالم هي في الغالب الأقل ضرراً أو الأنسب لطبيعتنا. ومهما حاول فلاسفة ومفكرون أن يثنونا عن ذلك الظن ويقنعونا بغيره نظل نصفهم بالحالمين والخيالين أو حتى المجانين منقطعي الصلة بحقائق الواقع، وذلك لكي نبقى مكتفين بعلف الواقع الذي نألف سبل الحصول عليه، ونألف ما يرافقها من مصاعب ومذلات، مؤثرين ذلك في أي وعد بترتيب مجهول.

مع ذلك يظل الفلاسفة والمفكرون يحلمون، ويقيمون علينا الحجة بأحلامهم. يكتبون لنا العالم كما يمكن وكما ينبغي أن يكون، ويتركون كتاباتهم هذه رسائل في زجاجات عسى أن يحملها موج الزمن لتجد يوماً قراء يؤمنون بها ويحولونها من حبر على ورق إلى واقع معيش.

لعل من هؤلاء الحالمين ديفيد غريبر، أستاذ الأنثروبولوجيا الأميركي، الذي رحل عن عالمنا قبل أربع سنوات من صدور أحدث أعماله أخيراً بعنوان “حقيقة العالم النهائية المخبأة”. وكان ديفيد غريبر دائماً، في قرارة نفسه، فيلسوفاً أناركياً اشتهر بكتبه التأملية في الديمقراطية بحسب ما عرفتها ومارستها الشعوب الأصلية والقراصنة والمتمردون، واشتهر كذلك بنبذه للرأسمالية و”وظائفها الهرائية” على حد تعبيره في عنوان كتاب له. كما اشتهر باختلافه مع قول صمويل هنتنغتن بأن الديمقراطية مفهوم غربي حصراً، بل وذهابه في مخالفة هذا الرأي إلى حد اعتبار أن الحضارة الغربية، “وهي مفهوم يفتقر إلى التماسك”، في عدائها لأي شيء نعده من قبيل الديمقراطية “مماثلة لغيرها من الحضارات في الهند أو الصين أو أميركا الوسطى”، وقوله إن الحضارات في أماكن قصية من العالم كانت أكثر احتراماً للتعدد من الغرب.

براءة بدائية

تكتب ريبيكا سولنيت في تمهيدها للكتاب أن ديفيد غريبر كان شخصاً مرحاً احتفالياً حماسياً ثرثاراً، عظيم الانفعال بإمكانات الأفكار والأيديولوجيات التي يعالجها، “لكنه في الوقت نفسه كان يحظى باحترام عظيم في أوساط الناشطين لحسن إصغائه ولشدة إيمانه بالمساواة في التعامل مع المحيطين به. وكان دائماً وأبداً عالم أنثروبولوجيا، فبعد إجرائه دراسته الميدانية للشعوب التقليدية في مدغشقر لم يتوقف مطلقاً، لكنه حول تركيزه إلى مجتمعه، فاستعمل أدوات عالم الأنثروبولوجيا في أمور تعد عادة مثيرة للضجر أو لا يقام لها وزن أصلاً، من قبيل وظيفة البيروقراطية وأثرها. كما كان كتابه الرائج الصادر عام 2011 بعنوان ’الدّين: في أعوامه الخمسة آلاف الأولى‘ تذكرة لنا بأن النقود والتمويل محض ترتيبات اجتماعية يمكن أن يعاد النظر فيها على نحو أفضل”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

“كما أكد أن الحضارة الصناعية الأوروأميركية هي – شأن مجتمعات أخرى ماضية وراهنة – محض طريقة في الحياة من طرق لا حصر لها، واستشهد بأزمنة رفضت فيها بعض المجتمعات الزراعة أو التكنولوجيا أو الهيراركية الاجتماعية، أو اختارت فيها جماعات ما كان يعد خيارات بدائية، لكنها اختارتها لأنها أكثر حرية. ورفض غريبر كل السرديات الخطية التي تقدم الإنسان المعاصر باعتباره منحدراً من براءة بدائية أو من همجية بدائية، وقدم بدلاً من هذه السردية الأحادية نسخاً وتنويعات كثيرة، ورؤية للمجتمعات باعتبارها في حال تجريب مستمر، ورؤية للبشر باعتبارهم مبدعين إلى ما لا نهاية. وتلك التنويعة كانت مصدر أمل له، وأساساً لإصراره الدائم على أن بالإمكان أفضل مما هو كائن”.

كتب داني دورلنغ أستاذ الجغرافيا البشرية بجامعة “أكسفورد” مستعرضاً الكتاب في موقعه الإلكتروني الشخصي فقال إن فلسفة غريبر “هي أن كل إنسان في جوهره أناركي، فليس منا من يحب ترؤس الناس عليه. وعلى رغم وجاهة رأيه، فهذه الفكرة تخاطر بالتقليل من مدى تباين الناس، ومدى قدرتنا على التكيف مع ظروفنا. ومع ذلك فإنني أجد متعة دائماً في ما يقول غريبر لأنه كثيراً ما يطرح الجديد، ويعرض أفكاراً نادراً ما تجري مناقشتها في الوسط الأكاديمي، ولأن تأثير غريبر يتجاوز أي أناركي حديث آخر.

“أما عن لب الكتاب، فهو مجموعة مقالات في مواضيع من قبيل التفاوت والتكنولوجيا والديمقراطية والمظاهرات. ويبدأ الكتاب بمناقشة تضم مواضيع التسامح والتكيف المتبادل والطيبة وينتقل ليلقي نظرة على المركزية الأوروبية وبخاصة تنويعة المركزية الأوروبية كما يمثلها كانط أو جيجيك. ونجد كذلك تفاصيل عن حياته، من قبيل الدرجة الجامعية التي حصل عليها جده، وبعض التفاصيل السيرية الأمينة. ومن المثير أننا نجده يقدم نفسه في بعض المواضع باعتباره ابناً لأسرة من الطبقة العاملة، فنشعر من مجمل المقالات أن غريبر كان ينظر إلى نفسه نظرة منقسمة، فهو ابن الطبقة العاملة أحياناً، وابن النخبة أحياناً أخرى”.

 

يشير غريبر في الكتاب إلى أنه كان في طفولته عرضة للتنمر، لكنه يحيل هذه التفصيلة – شأن تفصيلات أخرى من حياته – إلى ما هو أكبر منها فـ”تصف فلسفته الأعم عالماً يغلب عليه الأخيار من الناس العاديين الخاضعين لحفنة متنمرين ليتنا ننفذ إليهم، فنرى أن قوتهم تكمن في تواطؤنا وخنوعنا فنفضح بذلك حقيقة تكون في العادة مخبأة عنا”.

“يطرح غريبر تعريفاً عريضاً للأناركية. إذ يعرف الأناركيين بأنهم (ببساطة من يؤمنون بأن البشر قادرون على التصرف العقلاني دونما إرغام على ذلك)، وهم البشر العاديون القادرون على تنظيم أنفسهم ومجتمعاتهم دونما احتياج إلى من يعلمهم طريقة القيام بذلك أو إلى سلطة تفسدهم. وثمة حس تبشيري في أناركية غريبر، ولا تخلو كذلك من سذاجة. ففي تعريف آخر للأناركي يشبهه بمن يحجم عن شق طريقه إلى الحافلة بدفع الآخرين بمنكبة، مع أنه لا وجود لشرطة ترغمه على احترام الصف، لكن ماذا يحدث حينما يتلقى شخص مرفقاً في وجهه، أو يدفعه أحدهم تحت الحافلة؟ تبدو أفكار غريبر طوباوية في بعض الأحيان، فتدفع بعضاً منهم إلى التفكير في ما قد ينطوي عليه تنفيذها من فوضى، ومن ذلك فكرته عن تفجير المباني الإدارية الكثيرة التي تعد معالم للرأسمالية، وتزدحم بها مدننا، وإقامة جامعات مجانية بدلاً منها، أو مراكز اجتماعية، أو ملاجئ للمحتاجين. ولكن كيف تدار هذه الفضاءات؟ ومن سيقوم بتمويلها وتنظيفها؟ وهل ستحرس نفسها؟”.

ارتجال ديمقراطي

على رغم احترام داني دورلنغ لغريبر، فمن الواضح أن عقله أو خياله غير قادر على تجاوز الشروط التي تغلب على تنظيم العالم، فلا يرى بديلاً لوجود عصا تنظم حياة القطيع الإنساني.

تكتب جينيفر سالاي مستعرضة حقيقة العالم المخبأة [“نيويورك تايمز” – الرابع من ديسمبر (كانون الأول) 2024] فتقول إن “عنوان الكتاب الآسر مأخوذ من مقالة ’يوتوبيا القواعد‘ لغريبر المنشور أصلاً عام 2015، وكتب فيه أن ’حقيقة العالم النهائية المخبأة هي أن العالم شيء نصنعه، ويسهل أن نصنعه على نحو مختلف‘”.

غير أن سالاي لا تختلف كثيراً عن داني دورلنغ فسرعان ما تكتب أن “هذه مقولة كلاسيكية لغريبر، فهي درامية ومبهجة وجذابة بالغريزة، لكنك لا تملك حينما تتمهل للتفكير فيها إلا أن ترى أنها غير صحيحة كل الصحة. فحتى من يوافقون على أن العالم هو ما نصنعه قد يتساءلون عما إذا كان الرجوع عن صنعه يبلغ حقاً هذه الدرجة من اليسر، في ضوء ما تتسم به السلطة من عناد، فالقيام بالأمور على نحو مختلف لا يتم أبداً بمثل هذه السهولة حتى لو بدا القول بالسهولة مغرياً”.

 

ثم تعقب سالاي بقولها إن غريبر كان “أشد اهتماماً بقدرة التصريح الجريء بالأفكار المخالفة للحدس على أن تفتح آفاقاً جديدة من الإمكانات”، فكأنها تقول إنه كان أكثر اهتماماً بخلخلة طرق التفكير السائدة – مثل طريقتها هي ودورلنغ في التفكير – منه بطرح خطة عمل واضحة أو سبل لتنفيذ أفكاره الطوباوية الأناركية.

“لقد أصر غريبر أن المشكلة لا تتمثل في الطبيعة الإنسانية ولكن في المؤسسات الهيراركية غير الإنسانية، فكتب أن ’جميع السلوكيات المناهضة للمجتمع التي تجعلنا نتصور ضرورة وجود جيوش وشرطة وسجون وحكومات للسيطرة على حياتنا إنما تنجم فعلياً عن الظلم والتفاوت الممنهج الناجمة أصلاً عن وجود الجيوش والشرطة والسجون والحكومات‘. وكانت لغريبر رؤية متفائلة للقدرة البشرية الكامنة غير المقيدة بقيود، وأكد إمكان (الارتجال الديمقراطي) الذي من شأنه أن يحدث خارج سيطرة الدول، إذ يضطر مختلف أنواع البشر من مختلف أنواع التقاليد والتجارب إلى اكتناه سبل للتعامل مع بعضهم بعضاً”.

تكتب ريبيكا سولنيت في تمهيدها أن غريبر كان يقول إن من يؤمن حق الإيمان بحقيقة العالم الخفية – أي أننا صانعو العالم القادرون على إعادة صنعة بطريقة أفضل – سيرى أن “العالم مقام وفق افتراضات وقيم معينة، وأن بالإمكان تغييره، وليس أقل سبل تغييره هو تغيير تلك الافتراضات والقيم”.

ولم يكن غريبر منظراً يكتفي بطرح الأفكار أو حتى الأحلام وحسب، بل كان أكاديمياً أيضاً، وإن تسببت له أفكاره، فضلاً عن نشاطه السياسي، في توترات عكرت صفو حياته الأكاديمية منذ بدايتها، وذلك “على رغم عبقريته وأصالته أو بسببهما” كما تكتب سولنيت. وقد تحتم على الرجل أن يعايش هذه التوترات طويلاً، إذ امتدت تقريباً بطول حياته الأكاديمية كلها، فقد كتب في كتابه الأول أن “في الولايات المتحدة آلاف الأكاديميين الماركسيين بطريقة أو بأخرى، ولا يكاد يوجد من الباحثين عشرة قادرون على الجهر بأناركيتهم. يبدو أن الماركسية قريبة من الأكاديمية قرباً لن يتحقق مطلقاً للأناركية”.

ثم إن هذا الأكاديمي، الذي بدأ مسيرته بدراسة المجتمعات التقليدية في مدغشقر، ولم يتوقف قط عن ممارسة عمله الأنثروبولوجي، حرص دائماً أن يكون له عمل ملموس على الأرض بعيداً من الأكاديمية والتنظير، فشارك بقوة في مظاهرات “احتلال وول ستريت”، و”كثيرا ما كان يوعز إليه فضل صياغة شعارها ’نحن الـ99 في المئة‘، وكان يقول إن في وصف 99 في المئة تفاؤلاً بالقياس إلى وصف الكعكة القديم للطبقات العاملة والوسطى والعليا. فهو تأكيد لكون الغالبية العظمى منا يعملون، ويكافحون مالياً في الغالب أو يترنحون، وأن الغالبية منا لديها مشتركات كثيرة، ولديها أسباب كثيرة لمعارضة فاحشي الثراء”.

رعاة البقر

وتعرض مقالات الكتاب الـ18 نطاق اهتمامات غريبر الواسع من قبيل التفاوت والرأسمالية والبيروقراطية والإبداعية، بل إن له تعليقات تمتد لتشمل هوليود التي يرى أنها كانت في قديم الزمان مكاناً للترقي الاجتماعي المحتمل، ثم تدهور ذلك المكان حتى أصبح نادياً مغلقاً مقصوراً على ذوي الوساطات. وقال أيضا إن هوليوود في وقت ما من ستينيات القرن الـ20 وضعت الشرطي محل راعي البقر فـ”في اللحظة التي برز فيها الشرطي، اختفت فعلياً أفلام رعاة البقر”.

وتمتد اهتمامات غريبر في الكتاب إلى الاقتصاد، فأحد الفصول عبارة عن حوار مع الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي، يجدد فيه غريبر دعوته إلى العمل من أجل إيجاد دولة لا تعتمد على الضرائب الشخصية، ومن أجل مقاومة السلطة القائمة على القسر والعنف.

 

بل إن في الكتاب تعليقاً مفاجئاً من غريبر عن عبدالله أوغلان كان نشره قبل أشهر قليلة من وفاته، ويتوقف عنده داني دورلنغ طويلاً في استعراضه:

“لقد ذهب غريبر إلى أنه ’قد يكون من المثير أن نسأل أنفسنا كم ينبغي أن ينقضي من الوقت أو ما الذي ينبغي أن يحدث لكي يتعامل العالم الثقافي مع أفكار أوغلان بمثل ما يتعامل مع فالتر بنيامين أو جورج باطاي أو سيمون ديبفوار أو فرانز فانون على سبيل المثال لا الحصر للباحثين المشتبكين مع السياسة، ممن ليسوا زعماء أحزاب أو أكاديميين أو حتى منظرين مهرجين من أمثال سلافوي جيجيك‘”.

ثم يعلق دورلنغ بقوله إن “هناك احتمالاً بأن تغير كلمات أوغلان العالم أو نظرتنا إلى العالم، لكن الأرجح أن النسيان سيطويها. ويحتمل بالمثل أن تغير كلمات غريبر العالم، لكنها إن فعلت ذلك فقد لا يأتي التغيير على النحو الذي كان يتوقعه. فقد تكون حقيقة العالم المخبأة هي أن الأناركية الحديثة تقوم على سذاجة خاصة يمثل هذا الكتاب دليلاً إليها”.

وبعيداً من هذه السخرية المريرة، تكتب ريبيكا سولنيت في تمهيد الكتاب أن غريبر كان يرى أن “علينا أن ندرك أن الأفكار (أدوات نحوزها، فنحوز بها بعض السلطة). وأراد غريبر أن يضع هذه الأدوات في أيدي الجميع، أو يذكرهم بأنها في أيديهم فعلاً. ولذلك كان يعمل بجد ونجاح على الكتابة بأسلوب دائم البساطة ودائم الوضوح، ويسير القراءة قدر الإمكان، في ضوء ما تسمح به المادة التي يكتبها”. وفي ذلك يقول غريبر إن (هذا هو ما أطلق عليه اللطف مع القارئ، وهو امتداد لموقفي السياسي، بمعنى من المعاني)”.

ثمة أسباب وفيرة للتشاؤم حيال وضع العالم ومستقبله، وثمة أسباب أيضاً للتفاؤل الحذر، ولمن يرغب في طريق ثالث بين التفاؤل والتشاؤم فقد تكفيه السطور التي ينهي بها دورلنغ مقالته:

“من الممكن لهذا الكتاب، ولكتب غريبر الكثيرة الأخرى أن يستوعبها تفكير أوسع وفهم أشمل للأناركية، فالكتاب قد لا يمثل حقيقة العالم النهائية الخفية وإن زعم ذلك، لكنه خطوة على الطريق إلى عمل سياسي أكثر فعالية”.

العنوان: The Ultimate Hidden Truth of the World

تأليف: David Graeber 

الناشر: ‎ Farrar, Straus and Giroux

نقلاً عن : اندبندنت عربية