من الواضح أن حركة الأسواق الأميركية بنهاية العام تشير إلى استمرار الارتفاع حتى إن بعض المستثمرين باتوا يظنون أن هذا الارتفاع مستمر بلا نهاية. فكل توقعات الانهيار والتصحيح لم تحدث، على رغم تباين مؤشرات الاقتصاد الكلي وتغير السياسات. ويبدو أن ذلك المنحى مستمر إلى حين، بغض النظر عما ستتخذه إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترمب من سياسات فور توليها السلطة في 20 يناير (كانون الثاني) المقبل.
أما لماذا تلك الثقة المفرطة؟ فأمر مفهوم يعتمد على حجم الاقتصاد الأميركي كأكبر اقتصاد في العالم، ودور ذلك الاقتصاد في الاقتصاد العالمي ككل من ثم حرص الجميع حول العالم على إقراض الولايات المتحدة لتنفق بأكثر مما تحصل من عائدات في اقتصادها. إذا تقدر بعض التحليلات أن الولايات المتحدة تقترض من العالم يومياً ما يصل إلى 5 مليارات دولار، تستخدم منها نحو 3 مليارات دولار لخدمة الدين العام.
هذا التوجه من الثقة في سندات الخزانة الأميركية وفي جودة الأسهم والأوراق المالية الأخرى في السوق الأميركية هو الذي يسهل على الولايات المتحدة الاستمرار بهذه الصورة. ويصف البعض ذلك بأنه “ثقة في الاستثنائية الأميركية”.
على طريقة “أم المعارك” كتب رئيس “روكفللر إنترناشيونال” روشير شارما مقالاً في صفحة الرأي بصحيفة “فايننشال تايمز” هذا الأسبوع بعنوان “كيف ستنفجر أم الفقاعات؟”. ومع أنه يشير بداية إلى أن فقاعة الفقاعات تلك قد لا تنفجر قريباً، لكنه ينصح الجميع بالتحوط.
الاستثنائية الأميركية
لا يكاد يوجد معلق اقتصادي أو محلل لا يتوقع أن تستمر الأسواق الأميركية في أدائها القوي بأفضل من بقية أسواق العالم في العام المقبل 2025. خصوصاً أن ذلك الحماس من الجميع في شأن استمرار الصعود إنما يعني أن الفقاعة أصبحت في مرحلة متقدمة بالفعل. ويرى شارما أن ذلك “اليقين” في “وول ستريت” انتقل للإعلام الذي غالباً ما يركز على اتجاهات السوق، وهي قرب نهايتها. فالحديث عن “التفوق الأميركي” هو مادة نقاشات التلفزيون والإذاعة والـ”بودكاست” وأعمدة الصحف وأغلفة المجلات.
تقول التجارب، إن الإعلام غالباً ما يكون على خطأ في توقع التوجهات المستقبلية. فإن أصحاب وجهة نظر استمرار الصعود يقولون، إن أميركا يمكن أن تظل في وضع مهيمن بفض استمرار المكاسب والعائدات الجيدة التي تحققها شركاتها. يقول شارما، “إلا أن نمو عائدات الشركات لم يكن ليصبح استثنائياً هكذا من دون الأرباح غير الطبيعية لشركات التكنولوجيا الكبرى والإنفاق الحكومي الهائل. كما أن النمو الأرباح يدعمها بقوة وبصورة مفتعلة أكبر عجز إنفاق يسجل في مثل هذه المرحلة من الدورة الاقتصادية”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مع ذلك، يرى غالب الاقتصاديين أنه مع جودة وسلامة موازنة الأسر والشركات الأميركية فإن الرواج الاقتصادي سيستمر. حتى القليل منهم الذي يقلقه تبعات سياسة فرض الرسوم والتعرفة الجمركية المتوقعة من إدارة ترمب إنما يقلقون على الاقتصاد العالمي وليس الاقتصاد الأميركي، إذ يرون أن ضرر تلك السياسات سيكون أكبر على الاقتصادات الأخرى منه على الاقتصاد الأميركي.
وكما يقال فإن “لكل جواد كبوة”، وفي رأي روشير شارما فإن كبوة الاقتصاد الأميركي هو ذلك الشره والإدمان على الاقتراض الحكومي. وطبقاً لحساباته في مقاله فإن إضافة دولار واحد للناتج المحلي الإجمالي الأميركي حالياً يحتاج إلى دولارين من الدين الحكومي الإضافي، وهي زيادة بنسبة 50 في المئة عما كان عليه الوضع قبل نحو خمسة أعوام.
الأفضلية غير المستدامة
لو أن بلداً آخر في العالم ينفق بهذه الطريقة لهرب منه المستثمرون أفواجاً، لكن الجميع يرى حتى الآن أن بإمكان أميركا أن تفعل ما شاءت لأنها الاقتصاد الأكبر في العالم وإصداراتها هي بعملة الاحتياط العالمية. لكن الأرجح أنه في وقت ما من العام المقبل سيتردد المستثمرون ويطالبون بنسب فائدة أعلى على مشترياتهم من الدين الأميركي أو بمزيد من الانضباط المالي خصوصاً مع زيادة العجز بنسبة أكبر وزيادة حجم مزادات الخزانة في إصدار السندات. وتعني تلك المطالب تقليل اعتماد الحكومة على التوسع في الإنفاق العام ولو موقتاً مما سيضر بفرص النمو الاقتصادي وأرباح الشركات.
وطالما ظلت قناعة المستثمرين الاستثنائية الأميركية فإن الفقاعة ستستمر في الغليان بما يزيد من خطورة انفجارها. ومع أن الأفضلية الأميركية الحالية على اقتصادات العالم الأخرى تجعل من الانفجار أقل ضرراً إذا حدث، فإن تلك الأفضلية غير مستدامة كما يرى شارما. فإقبال المستثمرين على السوق الأميركية مرهون بأن تظل أفضل من أسواق العالم الأخرى، لكن تحسناً في اقتصاد فرنسا أو ألمانيا أو ربما حتى الصين سيجعل الأموال تتحول بعيداً من أميركا.
إذا حدث ذلك بصورة منظمة ومن دون مفاجآت كارثية، سيتبخر الضغط من الفقاعة بصورة أقل ضرراً من دون أن يسبب أزمة هائلة، أميركياً أو عالمياً. لكن إذا تزامن ذلك مع ضعف نمو الاقتصاد الأميركي وزيادة الاختلالات في مؤشرات الاقتصاد الكلي فإن انفجار الفقاعة سيكون له تبعات كبيرة.
نقلاً عن : اندبندنت عربية