خصصت تونس في غضون شهر مجلسين وزاريين بإشراف رئيس حكومتها كمال المدوري للنظر في وضعية قطاع المحروقات في البلاد المهتز، والذي تعرف مؤشراته تراجعاً لافتاً ومحيراً على مستوى تراجع الإنتاج والاستثمار، بما يهدد مستقبلاً السيادة الطاقية للبلاد.
وسجل الميزان التجاري الطاقي لتونس في الأشهر الأخيرة عجزاً لافتاً بلغ أكثر من 9 مليارات دينار (3 مليارات دولار)، وسط انخفاض مهم لإنتاج النفط والغاز الطبيعي، مما عزز اعتمادها على الخارج، وخصوصاً من الجارتين الجزائر وليبيا اللتين صارتا تزودان البلاد بحاجاتها الطاقية باستمرار.
ويقر المسؤولون في تونس بتراجع جاذبية البلاد في مجال المحروقات والطاقة الأحفورية، وأن عدداً من الشركات الأجنبية المستكشفة عن حقول النفط غادرت البلاد في ظل غياب محفزات جدية تدفعها إلى البقاء، ومواصلة استكشاف الأراضي التونسية التي تؤكد بعض الدراسات جدواها.
تحرك عاجل
تسعى تونس إلى إجراء تعديل جوهري على مجلة محروقاتها وتطويرها من أجل استعادة ثقة المستثمرين في قطاع الطاقة بعدما أقرت بأنها لم تعد موقعاً جاذباً للاستثمار في هذا القطاع الاستراتيجي، ومواجهة عديد من الإشكالات والصعوبات منذ العقد الأخير بسبب انخفاض الإنتاج من جهة، وتراجع جاذبيتها وعزوف الشركات العالمية على القدوم إليها.
وضعية دفعت بالسلطات التونسية في التحرك بصفة عاجلة من أجل البحث عن الحلول الجذرية، لا سيما الحفاظ على السيادة الطاقية للبلاد والتقليص من تبعيتها لأسعار النفط العالمية المتقلبة المؤثرة بصورة كبيرة في توازنات الموازنة التي ترتبك حال تسجيل ارتفاع في سعر برميل النفط.
وفي السابع من فبراير (شباط) الجاري نظرت الحكومة في تنقيح مجلة المحروقات التي باتت قديمة مقارنة بالتطورات العالمية الحاصلة في المجال، إذ أكد رئيس الحكومة كمال المدوري أن التنقيح الجذري لمجلة المحروقات يندرج ضمن مقومات تحقيق الثورة التشريعية والإصلاحات المؤسساتية المعلن عنها من الحكومة.
وشدد في الخصوص على أهمية قطاع المحروقات كقطاع اقتصادي واجتماعي ذي أهمية استراتيجية، وعلى ضرورة مواكبة المتغيرات والتطورات في مجال المحروقات، ووضع تشريعات توفق بين متطلبات تعزيز السيادة الطاقية على هذه الثروات الوطنية وحفز الاستثمار لتطوير الاستكشاف والاستغلال.
وتقر الحكومة التونسية صراحة بتراجع الإنتاج ورخص الاستكشاف وغياب سياسة ترويجية للوجهة التونسية، وضعف القدرة على استيعاب التطورات ومواكبتها واحتداد التبعية الطاقية، مما يستوجب بلورة رؤية استراتيجية لفرص ومكامن وتحديات هذا القطاع تعزز السيادة الطاقية وتحقق الأمن الطاقي، وتنوع سلة المنتجات الطاقية من خلال جذب وحفز الاستثمارات النوعية وفق أسس ومبادئ الحوكمة والشفافية.
مؤشرات ضعيفة
انخفض إنتاج تونس من النفط الخام مع أواخر أكتوبر (تشرين الأول) 2024 بنسبة 14 في المئة ليصل إلى 1.2 مليون طن مكافئ نفط بعدما كان في حدود 1.3 مليون طن مكافئ نفط خلال الفترة نفسها من عام 2023.
وارتفع عجز الميزان التجاري الطاقي لتونس بنسبة 17 في المئة ليبلغ ما يقارب 9 مليارات دينار (3 مليار دولار) في أكتوبر 2024، مقابل 7.7 مليارات دينار (2.4 مليار دولار) سجلها في أكتوبر 2023.
وأضاف المرصد الوطني للطاقة أن نسبة تغطية الواردات بالصادرات لم تتجاوز 24 في المئة في أكتوبر 2024.
وانخفضت نسبة الاستقلالية الطاقية لتونس (نسبة تغطية الموارد المتاحة للطلب الجملي)، إلى أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، لتسقر في حدود 41 في المئة مقابل 49 في المئة قبل عام.
مضمون التنقيح
وحصلت “اندبندنت عربية” على التوجهات والخطوط الكبرى لتنقيح مجلة المحروقات التونسية التي يعود إصدارها إلى عام 1999، والتي يجرى العمل عليها حالياً، والتي تتضمن إمكان إدماج الشركات الناشئة للاستثمار في قطاع الطاقة من منطلق قدرتها على رفع الموارد المالية هامة، مما يستوجب عدم إقصائها من الاستثمار في المحروقات ووجوب تغيير النظرة إليها.
ومن ضمن التنقيحات المقترحة، الاعتماد على طلبات العروض عند إعلان رغبة تونس في استغلال قطعة أرض شاغرة لاستكشاف النفط أو في مرحلة إسناد رخص الاستغلال.
وتعتزم السلطات التونسية من خلال تنقيح مجلة المحروقات مراجعة الضرائب الموظفة على القطاع في اتجاه التخفيض فيها نسبياً، في خطوة لمزيد تحسين جاذبية القطاع.
وتظهر المعلومات المتوافرة أن الضرائب الموظفة على القطاع في تونس كانت مخصصة للآبار المنتجة، لا سيما أن المجلة عند إرسائها كان جل الآبار النفطية منتجة وبكميات كبيرة، إذ وصلت تونس في ثمانينيات القرن الماضي إلى إنتاج 100 ألف برميل يومياً.
لكن سرعان ما تغيرت الأمور بصورة كبيرة إثر التراجع اللافت للإنتاج ومجال الاستكشاف والتنقيب، مما يستوجب إعادة النظر في الضرائب والمعاليم المفروضة.
استغلال أعالي البحار
من ضمن توجهات تعديل مجلة المحروقات التونسية العمل على استغلال أعالي البحار في أقصى الشمال، لا سيما أن الاستكشافات انحصرت في العقود الماضية على الجنوب التونسي إلى درجة استنزاف الحقول في هذه المناطق، بخاصة حقل البرمة الذي يعد من أكبر الحقول في العالم، لكن بعد عقود عدة وصل إلى مرحلة نضوب كبيرة، إذ إن إنتاجه اليومي لم يتعد 6 آلاف برميل يومياً.
ولم تستكشف بعض مناطق الوسط التونسي، وأعالي البحار في الشمال، إذ قد توفر إمكانات جديدة لتونس لإعادة التموقع في مجال الاستكشاف عن المحروقات، لكن ذلك يتطلب دراسات معمقة واستثمارات مالية هائلة، فضلاً عن إمكان إدراج فصول جديدة في المشروع تشجع على استكشاف أعالي البحار التونسية.
مسألة مستعجلة
من جانبه يعتقد المتخصص في الشأن الطاقي غازي بن جميع أن تحوير تونس لمجلة المحروقات أمر ملح، وعلى السلطات التونسية الإسراع بتمرير المجلة في صيغتها الجديدة في أقرب وقت ممكن. وقال لـ”اندبندنت عربية” إن العجلة في التنقيح تستمد من منطلق إصلاح عدد مهم من الأخطاء التي تضمنتها نسخة عام 1999 التي أبقت على فصول تعود إلى الحقبة الاستعمارية الفرنسية، والتي لم تتغير في العلاقة بعقود الاستغلال.
وعبر عن دهشته من أن عقود استغلال الحقول نفطية في تونس جارية إلى الآن وفق عقود قديمة تعود فترة الاستعمار الفرنسي لتونس عام 1948، لافتاً إلى أنه من الضروري أن يأخذ التنقيح المقترح هذه المسألة بعين الاعتبار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وشدد غازي بن جميع على ضرورة أن يفرد مشروع تنقيح مجلة المحروقات غير التقليدية (الغاز الصخري) باباً خاصاً في المجلة الجديدة من حيث التنصيص على النوع من المحروقات وطرق استغلاله وإسناد رخص الاستغلال.
وشدد المتحدث على أهمية توضيح الجوانب البيئية الخاصة باستخراج المحروقات غير التقليدية في حال موافقة تونس على الاستثمار فيها.
وفي غضون ذلك يقترح المتخصص في الشأن الطاقي عند تنقيح مجلة المحروقات إبراز مناطق الاستغلال المزمع عرضها على المستثمرين بطريقة مدققة ومضبوطة، وتتوفر على كل المعطيات من أجل تحسين جلب الاستثمار في المجال من جهة وربح الوقت من جهة أخرى.
استثمارات ثقيلة
في المقابل يعتقد المتخصص في الشأن الطاقي والمدير العام السابق للمحروقات بوزارة الصناعة التونسية رشيد بن دالي أن معدل الاستثمار في مجال المحروقات في تونس للتوصل إلى بئر نفطية يصل إلى نحو 60 مليون دينار (20 مليون دولار)، وفي حال التوجه إلى الاستكشاف في عرض البحر فإن الاستثمار يتجاوز 150 مليون دينار (50 مليون دولار). وأوضح أن مشروع تنقيح مجلة المحروقات يجب أن يؤسس جدياً لتعزيز جاذبية تونس في مجال الطاقة.
ويرى رشيد بن دالي أن مجلة المحروقات التونسية هي مجلة تعنى بالاستثمار في قطاع المحروقات، وتنظم كيفية الدخول إلى تونس من أجل عمليات الاستثمار في مجال المحروقات.
ومن بين أهم الإشكالات والمعوقات التي أفقدت قطاع المحروقات في تونس جاذبيته، بحسب بن دالي، غموض بعض النصوص القانونية المكبلة للاستثمار والاستكشاف مع طول الإجراءات الإدارية.
ويواجه قطاع المحروقات في تونس تحديات وعوائق أثرت سلباً في مجالات الاستثمار والاستكشاف والتنقيب عن النفط والغاز والتقلص الطبيعي لإنتاج الحقول البترولية، علاوة على طول إجراءات إسناد الرخص نظراً إلى تداخل أطراف عدة والتراجع التدريجي في استثمارات الاستكشاف والبحث والتنقيب عن النفط.
نقلاً عن : اندبندنت عربية