منذ البداية تمثل السعي لتقديم صورة قيادة خيّرة وحديثة: عائلة “عادية” ستقوم، تحت حكم بشار الأسد، بإصلاح سوريا. وعلى هذا الأساس جرى تلميع صورة عائلة الأسد. فقدمت، في السياق طبعاً، السيدة الأولى أسماء الأسد، “وردة الصحراء” الراقية والإنسانية (وفق ما وصفتها مجلة “فوغ” Vogue)، إلى جانب زوجها الرئيس، الطبيب المقيم سابقاً في لندن والذي سبق وقدم نفسه على أنه “المتحمس بشكل غريب” [لعمله].
أفراد الجيل الثاني في هذه العائلة الأسدية لا يمثلون وجه النظام الوحشي الذي أسسه والد بشار الأسد، وفق ما جرى الإصرار عليه. والبعض في الغرب اقتنع بذلك. وقد أخفت هذه الصورة الملمعة وراءها أسرة ستتصدر أعتى الديكتاتوريات وأشدها دموية في التاريخ الحديث.
سقط أخيراً حكمهم الذي دام 24 عاماً. وبحسب التقارير، فرت العائلة الأسدية من سوريا يوم الأحد المنصرم بعد أن منحها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اللجوء في روسيا. وتجمعت في العاصمة السورية دمشق حشود كبيرة للاحتفال بنهاية النظام الذي أشرف على “مسالخ بشرية”، وقتل أكثر من نصف مليون شخص في حربه الأهلية، وشرد الملايين غيرهم. ويفكر المواطنون السوريون الآن بما سيأتي بعد هذا النظام وبما سيحل بعائلة الأسد وإرثها الإجرامي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفيما تعيش سوريا بظل حالة صعبة ومضطربة، تشير التقارير إلى أن بشار الأسد وزوجته أسماء وأولادهما الثلاثة، حافظ وزين وكريم، يختبئون في موسكو وينعمون بحياة فخمة ومرفهة. وقد كشِف هذا الأسبوع أنهم يملكون على الأقل 20 شقة فاخرة في المدينة التي سيباشرون فيها حياة جديدة في المنفى، تقدر قيمتها بـ 40 مليون دولار (31 مليون جنيه استرليني).
ووفق بعض التقارير تقع تلك الشقق والملكيات في بعض أفخم مناطق موسكو، مثل مجمع ناطحة السحاب “سيتي أوف كابيتالز” (City of Capitals مدينة العواصم)، الذي “يسكن فيه نخبة أغنياء روسيا ويضم شركات عالمية”.
وهكذا تبقى هذه العائلة محمية بفضل علاقة الأسد الوطيدة بروسيا، التي مدته بالدعم العسكري والسياسي كي يبقى قابضاً على السلطة، وأيضاً بفضل ثروتها التي تقدر بنحو ملياري دولار “المخبأة من خلال عدد كبير من الحسابات المصرفية، والشركات الوهمية، والملاذات الضريبية والملكيات العقارية”. لذا قد تكون هذه العائلة انهزمت في سوريا، إلا أن نهايتها لن تكون سهلة على الأرجح. إذ إن عائلة الأسد، إلى جانب آل الأخرس، عائلة أسماء، لديها شبكة واسعة من النفوذ والتأثير تمتد إلى ما هو أبعد بكثير من حدود سوريا.
وكان حكم آل الأسد في سوريا بدأ عام 1971، عندما قبض والد بشار، حافظ الأسد، على السلطة عبر انقلاب عسكري. وحكم حافظ بقبضة حديدية طوال 29 عاماً. وعندما استلم بشار الحكم عام 2000 كان العديد من أفراد الأسرة، مثل شقيقه الأصغر ماهر الأسد الذي خدم كضابط قيادي في الجيش السوري، جزءاً من نظامه الاستبدادي. كذلك احتفظت والدة بشار، أنيسة مخلوف – أرملة الرئيس الراحل حافظ الأسد – بنفوذ سلطوي.
إذ إن “القرارات تتخذ بتوافق جماعي داخل الدائرة العائلية الضيقة لآل الأسد، لكن الكلمة الأخيرة تبقى لأنيسة”، وفق وائل الحافظ، عضو المعارضة السورية في المنفى، بحسب ما نقلت عنه المدونة النسوية “لو مارتينيه” (Les Martiennes) (كما ورد في تقرير لفرانس24 بعام 2011).
كذلك يفترض أن يكون أفراد عائلة مخلوف – أقارب آل الأسد، المكروهون بدورهم – قد غادروا سوريا أيضاً هذا الأسبوع. وهؤلاء كانوا لاعبين أساسيين في النظام، حيث كلفوا بتولي الاقتصاد. ومع بداية الحرب الأهلية عام 2011، عد رامي مخلوف واحداً من أكبر أغنياء سوريا وأحد كبار أصحاب النفوذ فيها.
بيد أن شبكة نفوذ آل الأسد تبقى أوسع بكثير، إذ إن العديد من أقارب العائلة في الحقيقة يعيشون في بلدان غربية، منها فرنسا وحتى بريطانيا.
والقليل منهم معروف مكان إقامتهم. فمعظم الأنسباء، القريبين والبعيدين، يتجنبون الظهور العلني، لكن بعضهم تصدر الأخبار في محطات عديدة خلال الأعوام المنصرمة. ففي عام 2019، أفادت “الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة” في بريطانيا بأن أنيسة شوكت – ابنة شقيقة بشار، بشرى الأسد، التي قيل إنها انتقلت للعيش بأمان في دبي إثر اندلاع أحداث الربيع العربي (2010-2012) – أجبرت على كشف معلومات حساباتها المصرفية بعد أن أظهرت التحقيقات تلقيها مئات ألوف الجنيهات (الاسترلينية) خلال دراستها في لندن على مدى أربعة أعوام.
كذلك سمح للزوجة الرابعة لعم بشار، رفعت الأسد – المعروف أيضاً بلقب “سفاح حماه” لدوره بالمجزرة الواقعة في تلك المدينة عام 1982، والذي كان يحاكم في سويسرا بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في وقت سابق من هذا العام – بالبقاء بالمملكة المتحدة إثر اندلاع الحرب الأهلية في سوريا عام 2012، على رغم حرمانها وولديها من الجنسية البريطانية.
على أن وجودهم في بريطانيا يتضمن بعض المنطق. فبشار كان يعمل طبيب عيون في لندن قبل وراثته الرئاسة السورية من أبيه. وأسماء (زوجته)، ولدت في بريطانيا ونشأت في أكتون، غرب لندن. وقد لعبت ثقافتها البريطانية تلك دوراً كبيراً في حملة العلاقات العامة القوية عندما أصبح بشار رئيساً عام 2000 – عام زواجهما – وقاما معاً بإدارة اللعبة بذكاء.
فأسماء، المصرفية في مجال الاستثمار والملمة بالإعلام، تلقت تعليماً خاصاً بجامعة “كوينز كوليدج” في ماريلبون، وبعدها تخرجت بشهادة في الأدب الفرنسي وعلوم الكمبيوتر في “كينغز كوليدج” بمدينة لندن. والمهم أيضاً في هذا السياق، أنها كانت براقة وجذابة. وقد جاءت أمور مثل ذوقها الرفيع وأسلوبها الغربي، اللذان جعلا شخصيتها تبدو ملهمة، إضافة إلى المهارات الترويجية التي بذلتها وزوجها، والتي تضمنت الاستعانة بشركة “براون لويد جايمس للعلاقات العامة – التي يملك جزءاً منها مدير فريق “البيتلز” السابق بيتر براون – لتمنح صورتهما معاً بُعداً مقنعاً.
وفي هذا السياق، كما هو معلوم حتى مجلة “فوغ” أعجبت بها. إذ قدمتها المجلة الشهيرة ضمن عددها عن “السلطة” عام 2011، وامتدحت أعمالها الخيرية المزعومة ومظهرها، مشيرة بحفاوة إلى نظام الأسد على أنه “ديموقراطي بضراوة”، فيما كان الربيع العربي في الشرق الأوسط يبلغ أوجه. إلا أن “فوغ” قامت بسحب عددها هذا من الأسواق بعد شهرين فقط – إذ جرى الكشف حينها عما تحويه “وردة الصحراء” السورية تلك، من أشواك جارحة.
إلا أن ذلك لم يؤثر كثيراً. لكن جذورها فعلت. فوالد أسماء، فواز الأخرس، كان طبيب قلب بارز في مستشفى كرومويل، وكان لوالدتها، سحر، خلفية أكاديمية. والأب والأم مولودان في سوريا، وهما حافظا على علاقتهما الوطيدة ليس فقط مع جذورهما، بل أيضاً مع النخبة السياسية في بلدهما. وفي عام 2012، عد فواز الأخرس “نقطة الوصل في العلاقات السورية – البريطانية”. فكان من الضيوف المداومين على مائدة الأمير فيليب (زوج الملكة إليزابيث)، وقد واجه انتقادات بسبب دوره الصريح في تقديم الاستشارة لبشار بكيفية تخفيف حدة التغطية السلبية لأحداث الانتفاضة (السورية).
وكان فواز “يتبادل أحاديث ودية مع جيرانه قبل أن يصبح [مغروراً] ومتحفظاً بعد زواج ابنته من الديكتاتور السوري”، بحسب صحيفة “ميل أونلاين”. وروى محمد الكريم – صاحب أقدم مطعم سوري في لندن، “أبو زاد” (Abu Zaad) – للصحيفة المذكورة، قائلاً: “كان والد (أسماء) ووالدتها يزوران متجر قريبي، لكن هذا توقف بعد زواج أسماء. وهي تلقت الكثير من الأموال. في الأمس شاهدتم كل تلك الثياب التي تملكها وأكياس “لوي فيتون” – لقد كانت بالغة الثراء”.
ويوم الإثنين الماضي أفيد عن مغادرة والدي أسماء منزلهما في أكتون (غرب لندن) الذي تبلغ قيمته مليون جنيه استرليني، وتوجههما إلى موسكو قبل عشرة أيام. ويفترض أن يكون بشار الأسد وزوجته أسماء هناك في العاصمة الروسية برفقة أولادهما الثلاثة، على رغم عدم تأكيد الخبر حتى الآن. فحافظ وزين وكريم قضوا حياتهم في قلب نظام وحشي، وتحت أنظار ومتابعة الشعب السوري. وهم عاشوا طبعاً حياة رفاه وبذخ، وجرى توجيههم بدقة لتقديم “صورة العائلة” الأسدية بعيداً من الدمار والقسوة.
في الأيام الأولى للحرب الأهلية، حين قتل آلاف الأطفال وعائلاتهم، لجأت أسماء إلى “فيسبوك” لنشر صورة مثالية لعائلتها. وكتبت معلقة على تلك الصورة: “حافظ، 14 سنة، مثل أمه يحب التكنولوجيا وعالم الكمبيوتر، وغدا بطول والده. إنه يتعلم الروسية. كريم، 11 سنة، نشيط كوالدته وهو نجم الرياضة في البيت. يتعلم اللغة الصينية. زين، 12 سنة، تتعلم اللغة الإسبانية. تتمتع بشخصية قوية وواثقة وحنونة، مثل والديها”.
وهذا التقديم اعتمد بدقة وبطريقة مدروسة في مناسبات عدة أخرى. “أنا مواطن سوري، مثل أي شخص آخر”، قدم ابنهما البكر حافظ نفسه لصحافيين برازيليين عام 2017 حين شارك في مسابقة رياضيات مرموقة. وقد كتبت “فورين بوليسي” آنذاك أن “المعلقين المؤيدين للنظام احتفوا بعضوية حافظ في الفريق السوري وعدوها إشارة إلى أنه أيضاً إمكانية قيادية هائلة” – على رغم “أدائه السيئ للغاية في تلك المسابقة، حيث حل بالمرتبة الـ528 من أصل 615 مشاركاً”.
وبحسب “تايمز” البريطانية أفيد أخيراً عن إدلاء حافظ بكلمة ختامية بعد دفاعه عن أطروحته في الرياضيات “بجامعة موسكو الحكومية” الشهر الماضي، حيث عبر في كلمته عن امتنانه “لشهداء وطنه”.
على أن هذا الشاب الذي يبلغ الآن الـ23 من عمره، وبعد نهاية حكم آل الأسد، لن يصل إلى السلطة مثل والده. أو على الأقل ليس بنفس الطريقة. لكن فيما لم يعد لهذه العائلة حضور مادي في سوريا – بالوقت الراهن – فإن قوتها ونفوذها يبقيان بعيدين من الاندثار التام. والسؤال الآن يتمثل بما إذا كانت الدولة التي دمرها آل الأسد قابلة على النهوض بعد عقود من العنف الدموي. والأهم، إن كانت قادرة على ذلك، كيف ستنهض؟
نقلاً عن : اندبندنت عربية