في الثاني عشر من أكتوبر 1987، استفاق مايكل فيش، المعلق على أحوال الطقس، في الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل على صوت تحطم شجرة في حديقته الخلفية. كان ذلك اليوم، بعد 13 ساعة من تقديمه نشرة الطقس الشهيرة التي أصبحت أكثر النشرات إثارة للجدل في المملكة المتحدة. في تلك النشرة، أفاد فيش بأن “امرأة اتصلت بـ’هيئة الإذاعة البريطانية‘ وأخبرت بأنها سمعت عن إعصار قادم. ولكن لا داعي للقلق، لن يأتي إعصار إلى بلادنا”.
إلا أن الرياح العاتية التي تلت تلك النشرة لم تقتصر على اقتلاع شجرة فيش، بل أدت إلى اقتلاع 15 مليون شجرة أخرى في جنوب إنجلترا، ودمرت ممتلكات بمليارات الجنيهات، وتسببت في وفاة 18 شخصًا. وفي اليوم التالي، جاءت صحيفة “ديلي ميل” بعنوان صادم: “لماذا لم نُحذَّر؟”
تحذير من صعوبة التنبؤ بالطقس
شكلت هذه الواقعة تحذيرًا ليس فقط حول صعوبة التنبؤ بالطقس، بل حول الأثر القاتل للأخطاء في هذا المجال. ومنذ ذلك الحين، تم إدخال العديد من التحسينات على تقنيات التنبؤ بالأحوال الجوية، وأبرزها تحسين تقنيات الحوسبة لاستخدامها في نماذج المحاكاة للطقس. ورغم ذلك، فإن النماذج المستخدمة لم تتغير كثيرًا.
اليوم، يبدو أن هذه النماذج على وشك التغيير بشكل جذري. فقد حققت مجموعة من الاختراقات العلمية التي مهدت لصناعة نماذج جديدة للطقس يمكنها تقديم توقعات دقيقة بشكل غير مسبوق، باستخدام جزء بسيط من قوة الحوسبة التي كانت تستخدم في السابق، وفي وقت قياسي.
بداية التغيير: 2020
في عام 2020، قدمت ورقة بحثية تغييرًا جذريًا في طريقة “التوقع العددي للطقس” (NWP)، وهي الطريقة التقليدية التي يعتمد عليها مختصو الطقس منذ عقود. تلك الطريقة تعتمد على معادلات رياضية معقدة وديناميكيات السوائل والرياح، معتمدة على بيانات الرصد الجوي والأقمار الاصطناعية. ورغم تعقيدها، فإن هذه الطريقة قد تكون بطيئة وتحتاج إلى قوة حوسبة ضخمة، وقد تكون نتائجها خاطئة في بعض الأحيان.
الذكاء الاصطناعي في مواجهة التنبؤات التقليدية
وفي محاولة لتجاوز القيود التي تفرضها الطريقة التقليدية، بدأ فريق من الباحثين في “جامعة واشنطن” باستخدام الذكاء الاصطناعي لتقديم تنبؤات سريعة وفعّالة. وقد أثبتت نماذج الذكاء الاصطناعي التي تم تدريبها على عقود من التنبؤات الجوية قدرتها على تقديم توقعات دقيقة بشكل شبه فوري.
بحسب الباحث جوناثان وين الذي قاد الفريق، “تعليم الآلات الذكية يمكنها رصد الأنماط الجوية المتطورة وإعطاء التوقعات بناءً على أمثلة مأخوذة من الأربعين عامًا الماضية”.
نتائج مذهلة في 2023: الذكاء الاصطناعي يتفوق
على الرغم من أن نموذج الذكاء الاصطناعي الذي صممه الفريق في 2020 لم يكن بنفس دقة النماذج التقليدية، إلا أنه كان يستخدم قوة حوسبة أقل بمقدار سبعة آلاف مرة. ومع حلول عام 2023، أصبح نموذج “غراف كاست” الذي يعمل تحت مظلة “ديب مايند” من جوجل قادرًا على تقديم توقعات للطقس تمتد على عشرة أيام خلال دقيقة واحدة فقط، مقارنة بالوقت الطويل الذي كانت تحتاجه النماذج التقليدية.
كما أظهرت دراسة علمية نشرتها مجلة “ساينس” أن “غراف كاست” تفوق على أفضل الأنظمة التقليدية بنسبة 90%.
الثورات القادمة في مجال الذكاء الاصطناعي وتوقعات الطقس
في عام 2025، قدم باحثون من جامعة كامبريدج نموذجًا جديدًا باسم “آردفارك”، الذي يستطيع التفوق على النظام التقليدي الذي يستخدمه “الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي” في الولايات المتحدة. النموذج يحقق هذا التفوق باستخدام جزء بسيط من البيانات المطلوبة للنظام التقليدي.
يُعد هذا النموذج “ثورة في توقعات الطقس”، ويتيح للمستخدمين إنتاج تقارير شخصية عن الأحوال الجوية باستخدام هواتفهم المحمولة. بالإضافة إلى ذلك، فإن “آردفارك” لا يتميز فقط بالسرعة، بل أيضًا بالقدرة على جعل التنبؤات الجوية أكثر ديمقراطية، مما يسهل الوصول إليها حتى في الدول النامية.
التطبيقات المستقبلية
تتمثل التطبيقات المستقبلية لهذه التكنولوجيا في تحسين إنتاج الطاقة من مزارع الرياح البحرية، وكذلك توفير توقعات دقيقة لهطول الأمطار للمزارعين في المناطق المتضررة من الجفاف. وتثبت هذه التقنيات الحديثة أنها قادرة على توقع تقلبات الطقس المتطرفة، بما في ذلك الأعاصير وحرائق الغابات.
في المقابل، تواجه هذه النماذج بعض العوائق. على سبيل المثال، يعجز الذكاء الاصطناعي أحيانًا عن التمييز بين المطر والثلج عند استخدام بيانات سطحية فقط.
الثورة القادمة: تكنولوجيا أكثر دقة وأكثر شمولاً
ومع كل هذه الإنجازات، فقد بدأ دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي مع النماذج التقليدية في العديد من المنظمات مثل “مكتب الأحوال الجوية” في المملكة المتحدة و”المركز الأوروبي للتنبؤات الجوية”. هذه التقنيات الجديدة ستساعد في تجنب تكرار الأخطاء المأساوية مثل تلك التي حدثت في عام 1987.
بحسب كريستين دايل، المسؤولة عن الذكاء الاصطناعي في “مكتب الأحوال الجوية”، “هذه التكنولوجيا ستثبت فعاليتها في التعامل مع التقلبات المناخية المتزايدة، وتأتي في الوقت المناسب.”