أمام شبكة فضاء لا تعرف حدوداً بين الدول باتت اللغات واقعاً لا تحجمه الأسلاك الشائكة الفاصلة بين البلدان، ففي عالم مفتوح يبدو الجيل الجديد من الشباب أكثر وعياً وانجذاباً إلى تعلم اللغات باعتبارها مهارة ناعمة تمهد الطريق نحو النجاح الوظيفي وتوسع دائرة الفرص في مجالات الحياة.

وفي الجزائر، يرتبط تعلم اللغات بخصوصية تاريخية موصولة بماضٍ استعماري دام 130 عاماً، احتكر اللسان المحلي لمصلحته وكبّله باللغة الفرنسية واستمر لأعوام حتى مع استقلال البلاد، كما يذهب إليه مؤرخون وسياسيون أيضاً، بيد أن محاولات التحرر من هذا الماضي بدأ مع رغبة شبابية في عيش “حاضر حيوي” يواكب عالمي التكنولوجيا والابتكار، إضافة إلى الواقع الذي فرضته منصات التواصل الاجتماعي من “علاقات رقمية” أدت إلى فضول التحدث بلغات جديدة مع أشخاص في مناطق مختلفة من العالم بداعي التعرف أو السفر أو العمل.

شغف لغوي

هذا الشغف والاندفاع اللغوي قابلهما نمو متسارع للمدارس الحرة لتعليم اللغات، فوجد المتعلم الجزائري نفسه أمام خيارات عدة وإغراءات تدعوه إلى تعلم لغات أجنبية مختلفة كالإنجليزية والتركية والإسبانية والإيطالية، وحتى تلك البعيدة جغرافياً كالصينية والروسية والكورية واليابانية.

لكن على الصعيد الرسمي، فإن انفتاح الجزائر على الثقافات الأخرى يبقى مدروساً ويخضع لعامل التقارب مع المجتمعات التي تشبه البلد في الأقل في هويته وانتمائه وقيمه مع وضع اعتبار لجزئية التاريخ، وفق ما يرى اختصاصيون تحدثوا إلى “اندبندنت عربية”.

فبعد نجاحها في إدراج اللغة الإنجليزية في الطور الإعدادي، وتحقيق التلاميذ لنتائج تقول وزارة التربية والتعليم الجزائرية إنها “مرضية” منذ الشروع في اعتماد هذه اللغة في المؤسسات التربوية، بات الدور على اللغة الإيطالية التي حجزت قبل أعوام مكاناً مهماً لها في الأوساط الشعبية واستمالة كثير من المواطنين على اختلاف مكانتهم الاجتماعية وفئاتهم العمرية لتعلمها.

وعلى خطى الترسيم، وقعت الجزائر وروما مذكرة تفاهم تهدف إلى تدريس اللغة الإيطالية في المدارس الجزائرية، تكريساً للتوجه العام نحو بناء جيل متفتح على لغات وثقافة الشعوب الأخرى، إذ أشرف على مراسم توقيع هذا الاتفاق وزير التربية محمد صغير سعداوي ونظيره الإيطالي جوزياي فالديتارا.

 

 

الهدف من تدريس الإيطالية، وفق سعداوي، “صناعة أجيال منفتحة على الشعوب الصديقة التي نتقاسم معها كثيراً من المبادئ الإنسانية كالتحرر والسلام العالمي، وتطوير تدريس اللغة الإيطالية في المؤسسات الجزائرية”.

من جهته، أشار فالديتارا إلى أن مذكرة التفاهم الموقعة هدفها تعزيز التحاور بين المدرستين الجزائرية والإيطالية وتطوير التعاون بين البلدين في المجالين الاقتصادي والثقافي.

ولم يتضح بعد إذا ما كان تدريس اللغة الإيطالية سيكون في الأطوار الإعدادية أو سيتم اعتمادها كلغة أجنبية ثالثة في شعبة اللغات ضمن المرحلة الثانوية على غرار اللغة الإسبانية واللغة الألمانية اللتين يتم تدريسهما منذ أعوام.

وقبل إبرام الاتفاق بين البلدين، عمل المعهد الثقافي الإيطالي أحد أهم الفروع الإدارية التابعة لسفارة روما لدى الجزائر على نشر ثقافة البلد الأوروبي وتعريفها لدى الجارة الواقعة على الشاطئ الجنوبي من البحر المتوسط، إضافة إلى تعزيز فرص التعاون وتبادل الخبرات والتجارب بين البلدين كما يعمل أيضاً على المشاريع الثقافية.

منفذ التاريخ ومخطط “ماتي”

ولعقود، ألقت الروابط التاريخية بين الجزائر وروما بظلالها على العلاقات الثنائية، وشكلت منفذاً رئيساً في بناء شراكة فاعلة في مختلف المجالات، إذ تبقى الجزائر وفية لكل “أصدقاء ثورتها التحريرية” وتحفظ جميلهم في الدفاع عن حريتها واستقلالها أمثال مواقف السياسي الإيطالي أنريكو ماتي (1906-1962) الذي دعم نضالها ضد الاستعمار الفرنسي.

وظلت صورة ماتي ومواقفه النبيلة تجاه ثورة التحرير الجزائرية راسخة في الخيال الجمعي للجزائريين، مما شجع البلدين على الاعتماد على مواقفه كمنطلق لشراكة اقتصادية قوية، وأتاح للإيطاليين الظفر بصفقة إنشاء “أنبوب الغاز أنريكو ماتي” عام 1977 بين شركتي “سوناطراك” الجزائرية و”إيني” الإيطالية، الذي كان مُؤسسه – أي الأنبوب – السياسي والمتخصص في مجال البترول أيضاً ماتي عام 1953.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بفضل صفقة “أنبوب الغاز أنريكو ماتي”، صارت إيطاليا من بين أهم وجهات الغاز الطبيعي الجزائري وشريكاً أوروبياً موثوقاً كما تصفه الجزائر، وبات الأنبوب يزود البلد الأوروبي بالغاز من حقل “حاسي رمل” جنوب البلاد بعد مروره على كل من تونس وقناة صقلية ومضيق مسين.

في المقابل، توسعت الشراكة الثنائية بين البلدين للقطاع الزراعي، إذ تم توقيع عقد ضخم بين وزارة الفلاحة الجزائرية مع مجموعة “بي أف” الإيطالية لإنجاز مشروع لإنتاج الحبوب والبقوليات على مساحة 36 ألف هكتار بولاية تيميمون (جنوب الجزائر) بقيمة إجمالية 420 مليون يورو (455 مليون دولار)، إذ سيخصص المشروع لإنتاج القمح والعدس والفاصولياء المجففة والحمص، إضافة إلى تشييد وحدات تحويلية لتصنيع العجائن الغذائية، وصوامع للتخزين وهياكل حيوية أخرى.

حضور وبصمة إيطالية

إضافة إلى ذلك، فإن البصمة الإيطالية تبقى حاضرة في الثقافة الجزائرية منذ عهود قديمة. وعلى سبيل المثال فإن الجزائر لم تفوت فرصة احتضان ألعاب البحر الأبيض المتوسط عام 2022 لإبراز بصمة الإيطاليين في الثقافة والتاريخ الجزائريين، فاستعرض منظمو الحدث المتوسطي صورة لعالم الرياضيات الشهير ليوناردو فيبوناتشي.

وجسد استحضار هذه الشخصية الإيطالية التي عاشت أعوام طفولتها في مدينة بجاية الساحلية (شرق الجزائر) وتركت أثرها في المجال العلمي، مدى الرابط التاريخي الذي يجمع البلدين. ونجح العالم في نقل الأرقام العربية المستعملة اليوم والعلامات الجبرية إلى أوروبا عام 1200، وأصدر كتاباً بعنوان “ليبر أباشي”، المتخصص في الحساب والمحاسبة.

آنذاك، حرر العالم الإيطالي جزءاً من كتابه من اليمين إلى اليسار (أي على نهج الكتابة العربية)، واستطاع من خلاله تعريف الأوروبيين بأنظمة الحساب والكتابة العربية، وكان هذا النظام يفوق بمراحل النظام الروماني المعتمد آنذاك في أوروبا، كما تذكر مراجع تاريخية.

 

 

كل هذه المعطيات الاقتصادية والتاريخية وحتى التقارب السياسي تجاه القضايا الإقليمية والدولية، مهد الطريق نحو تعزيز وجود اللغة الإيطالية كخيار أكاديمي، لا سيما مع دخول الجزائر في مخطط “ماتاي” للحكومة الإيطالية الذي يُعد مشروع تعاون واسع مع عدد من البلدان الأفريقية، ويستهدف دعم البحث الأكاديمي وتدريس اللغات والآداب والثقافات والتاريخ والذي من خلاله وقعت الجزائر وإيطاليا على اتفاقات شراكة في مجال التعليم العالي والبحث العلمي، والعمل سوياً من أجل التحضير لجامعة من الجيل الرابع في البلدين.

ويقول جزائريون إن ما يجمعهم مع إيطاليا يتجاوز العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ويأخذ التقارب طابعاً إنسانياً، إذ يشاع أن المواطن الجزائري يُشبه نظيره الإيطالي في الارتباط بالعائلة وأسلوب الحياة وانتمائه لوطنه وتمسكه بعاداته وتقاليده، ربما لكون البلدين من حوض البحر الأبيض المتوسط.

ويمثل التقارب بين إيطاليا والجزائر خليطاً هوياتي يمتد لمئات السنين، فكانت دول شمال أفريقيا قبلة لكثير من الإيطاليين الآتين من جزيرة سردينيا في القرنين الـ15 والـ16، ووجدوا فيها ملاذاً خصباً لممارسة التجارة والزراعة، مما دفع كثيرين إلى الاستقرار في هذه البلدان المطلة على البحر الأبيض المتوسط، كما أن الشباب الجزائري له اندفاع كبير للسفر نحو الوجهة الإيطالية واكتشاف جمال وسحر مدنها.

نقلاً عن : اندبندنت عربية