خلال الشهرين اللذين تليا إطلاق شركة صينية مغمورة تدعى “ديب سيك” نموذج ذكاء اصطناعي قوي مفتوح المصدر، شرعت تلك الخطوة في تغيير السوق العالمي لتكنولوجيا الآلات الذكية، وقد تباهى برنامج “ديب سيك- في 3” DeepSeek-V3 وفق تسمية أطلقت على ذلك النموذج اللغوي الكبير المفتوح المصدر open large language model ، واختصاراً “إل إل إم” LLM، بأنه يتمتع بأداء يمكنه من منافسة النماذج اللغوية الكبرى التي تصنعها المختبرات الأميركية الأكثر تقدماً، على غرار “تشات جي بي تي” الذي تصنعه “أوبن إيه آي” OpenAI ، و”كلود” Claude من “أنثروبيك” Anthropic ، و”إل لاما” Llama من شركة “ميتا” Meta.
وفي المقابل لا تصل كلفة البرنامج الصيني إلى بضع كسور عشرية مما يُنفق على النماذج التي ينافسها، وسينجم عن ذلك وضع ذكاء اصطناعي يتمتع بمستوى عالٍ من التقدم بيد المطورين والمستخدمين في أرجاء العالم، وبكلفة متدنية تماماً.
وفي يناير (كانون ثاني) 2025 كشفت الشركة الصينية عن نموذجها الثاني المسمى “ديب سيك- آر 1” DeepSeek-R1 الذي أظهر قدرات مماثلة لتلك الموجودة في النموذج المتقدم “أو 1” o1 model الذي صنعته “أوبن إيه آي”، لكن كلفة النموذج الصيني لا تناهز خمسة في المئة من نظيره الأميركي، ونتيجة لذلك يُشكل “ديب سيك” تهديداً للهيمنة الأميركية على الذكاء الاصطناعي، ممهداً الطريق أمام الصين لتعزيز مكانتها العالمية على رغم محاولات واشنطن تقييد وصول بكين إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي المتطورة.
ويُبرز الصعود السريع لـ “ديب سيك” مدى أهمية المنافسة في سباق الذكاء الاصطناعي العالمي، فإضافة إلى العوائد الاقتصادية الهائلة لهذه التقنية فإن الدولة التي تتحكم بالنماذج اللغوية الكبرى التي تشكل أساس تطبيقات وخدمات المستقبل ستحظى بتأثير واسع النطاق، ليس فقط على القيم والمعايير المضمنة في هذه النماذج، بل أيضاً على منظومة أشباه الموصلات التي تُعد حجر الأساس في الحوسبة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي.
وثمة حقيقة تتمثل بأن الصين والولايات المتحدة تعتقدان بأن تلك التقنيات قد تعطي امتيازات عسكرية متفوقة، مما يعزز الحاجة إلى تحقيق الريادة والحفاظ عليها على المدى الطويل.
وعلى رغم التركيز على الأداء القوي لـ”ديب سيك- في 3″ وانخفاض كلفته فقد يكون المراقبون غافلين عن عامل أكثر أهمية، وهو أن أحد الأسباب الرئيسة وراء الانتشار السريع لنماذج “ديب سيك” هو كونها مفتوحة المصدر، مما يعني أن أي شخص يمكنه تنزيلها وتشغيلها ودرسها وتعديلها والبناء عليها، مع دفع كلفة الحوسبة الخام فقط [يعني ذلك أن المستخدم يحصل على الشيفرة الأساس لتلك النماذج من الذكاء الاصطناعي التي تعطيها قواها الرئيسة على غرار التعرف إلى الأنماط وملاحظة الروابط، وهي القدرات التي تستخدمها تلك النماذج في التعامل مع النصوص والصور والأصوات وغيرها كي تولد منها محتوى جديداً، ولذا توصف تلك النماذج بأنها تمثل الذكاء الاصطناعي التوليدي Generative AI] وفي المقابل فإن معظم النماذج الأميركية المنافسة تعتمد على الملكية الحصرية مما يحد من استخدامها ويرفع كلفتها على المستخدمين.
وقد بدأ بالفعل بعض كبار الشخصيات في مجتمع الذكاء الاصطناعي الأميركي بالإقرار بمشكلات هذا النهج المغلق، ففي أواخر يناير (كانون الثاني) الماضي صرح الرئيس التنفيذي لـ OpenAI سام ألتمان بأن الشركة ربما كانت “على الجانب الخطأ من التاريخ” بعدم تبنيها لنماذج الذكاء الاصطناعي مفتوحة المصدر، وفي فبراير (شباط) الماضي توقع الرئيس التنفيذي السابق لشركة “غوغل” إريك شميدت أن المستقبل سيشهد اندماج النماذج المفتوحة والمغلقة في التطبيقات اليومية. [يوصف أي برنامج أو نظام رقمي بأنه مفتوح المصدر حينما تكون شيفرته الأساس Source Code مكشوفة ومعلنة، مع مكوناتها من الأوامر والمعادلات الرياضية وغيرها، مع التصريح للمستخدم باستخدامها وتعديلها وإعادة صياغتها من دون الرجوع إلى صانعها، ويتيح ذلك تطويع البرامج المفتوحة المصدر وفق رغبة المستخدم الذي يتاح له استخدامها بحرية وفق ما يراه من طرق ومسارات وتفاعلات، وتكون البرامج المغلقة على عكس ذلك ولا يمكن التحكم بها إلا بما يوافق عليه صانعها، ولقاء كُلف كبيرة في الغالب].
ومن الواضح أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على الاعتماد حصرياً على نماذج الذكاء الاصطناعي المغلقة التي تطورها الشركات الكبرى لمنافسة الصين، لذا يتعين على الحكومة الأميركية أن تقدم دعماً أكبر للنماذج مفتوحة المصدر حتى في الوقت الذي تسعى إلى تقييد وصول الصين إلى التقنيات المتقدمة مثل أشباه الموصلات وبيانات التدريب.
وإذا أرادت واشنطن الحفاظ على تفوقها فعليها أن تطلق برنامجاً شاملًا لتطوير ونشر أفضل النماذج اللغوية الكبرى في الذكاء الاصطناعي مفتوحة المصدر، ومع ذلك يجب عليها أيضاً ضمان أن الشركات الأميركية لا تزال صاحبة اليد العليا في بناء أنظمة الذكاء الاصطناعي الأكثر تقدماً والمعروفة أحياناً باسم “الأنظمة الطليعية” في الذكاء الاصطناعي frontier AI، ويُرجح بقاء الأخيرة في يد شركات خاصة لديها رساميل عالية.
في الوقت نفسه ينبغي لواشنطن أن تنتهج أجندة سياسية أوسع تعزز مكانة الذكاء الاصطناعي الأميركي مفتوح المصدر على الساحة الدولية وتمكّن الولايات المتحدة من بناء البنية التحتية الأساس اللازمة للحفاظ على ريادتها في هذا المجال، وهذا يعني عدم الاكتفاء بدعم تطوير النماذج مفتوحة المصدر داخل الولايات المتحدة بل ضمان سهولة وصول المساهمين والمستخدمين في هذا المجال إليها، ولا سيما من الأوساط الصناعية والأكاديمية والقطاع العام في الدول المتحالفة مع واشنطن، فمن دون هذه الخطوات يمهد “ديب سيك” الطريق لمستقبل ليس ببعيد قد تتمكن فيه الصين، من خلال نماذجها القوية والرخيصة والمفتوحة المصدر، من التفوق على الولايات المتحدة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي والحوسبة، وإذا تحقق ذلك فقد تصبح واحدة من أهم تقنيات القرن الـ 21 خاضعة لسيطرة دولة معادية للحرية والديمقراطية.
تفوق المصدر المفتوح
على رغم أن الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر فقد حظي باهتمام أقل مقارنة بالأنظمة الطليعية داخل دوائر صنع السياسات الأميركية، لكنه بقي لفترة طويلة أحد الأسس التي يستند إليها التقدم في ذلك المجال، وبالطبع فعقب الصعود المدوي لبرنامج “تشات جي بي تي” عام 2022 عملت أطراف عدة في مجتمع الذكاء الاصطناعي على عقد مقارنة بين ما يحصل اليوم مع النماذج اللغوية الكبرى وبين مكون أساس في الحواسيب التقليدية يدين بالكثير للبرمجيات الرقمية المفتوحة المصدر، وليس ذلك المُكون سوى أنظمة تشغيل الكومبيوتر، وللتذكير تتولى أنظمة التشغيل ترجمة البرامج التي تتعامل بسهولة مع متطلبات البشر إلى تعليمات تنفذها الآلات ومكوناتها المختلفة.
وعلى نحو مماثل تعمل “إل إل إم” كجسر يربط بين لغة البشر وبين المعلومات التي تتعامل معها الآلات الذكية، ومع نماذج الذكاء الاصطناعي المفتوح المصدر تمتد تلك المقارنة لتشمل ملمحاً آخراً في الحواسيب التقليدية، فكما حافظ نظام تشغيل الكمبيوتر “لينوكس” المفتوح المصدر على وجوده جنباً إلى جنب مع أنظمة تشغيل احتكارية على غرار “ويندوز” من “مايكروسوفت”، مما أتاح للمستخدمين والمطورين حرية تنزيله واستخدامه وتعديله، فقد ظهرت النماذج اللغوية الكبرى المفتوحة المصدر مثل “إل لاما” الذي تصنعه “ميتا”، إضافة إلى نظيراتها الاحتكارية مثل “تشات جي بي تي”، مما يَعد “بجعل الأنظمة الذكية متاحة للجميع لتمكينهم من تطوير الجيل المقبل من البرمجيات، ومع بروز تلك الأنظمة اللغوية الكبرى القوية والمفتوحة المصدر أطلق الباحثون وصفاً على الحقبة الحاضرة من الذكاء الاصطناعي بأنها “لحظة لينوكس” في تلك التكنولوجيا.
وبصورة عامة استفادت مشاريع البرمجيات المفتوحة المصدر، مثل “لينوكس”، من قدرتها على التطور المستمر بفضل إسهامات المبرمجين في جميع أنحاء العالم، وهذا التنوع في المدخلات سمح بتسريع وتيرة التطوير وتحسين مستوى الأمان، إذ يمكن لأفضل المهندسين في العالم اختبار الأنظمة وتحسينها بصورة متزامنة، وعلاوة على ذلك، وبما أن المشاريع مفتوحة المصدر كانت تاريخياً تدار بصورة أساس من قبل كيانات أميركية وأوروبية، فقد أسهمت لعقود في تعزيز الابتكار التكنولوجي الغربي وريادته في مجالات عدة، بما في ذلك أنظمة التشغيل ومتصفحات الويب وقواعد البيانات والتشفير وحتى لغات البرمجة.
ومثلاً بفضل تبني مبادئ الأنظمة المفتوحة المصدر، عمل باحثون كثر على تسريع تطور الذكاء الاصطناعي عبر مشاركة الابتكارات الجديدة ونشرها بصورة شبه يومية، وينطبق ذلك ليس فقط على الأكاديميين الذين تحفزهم الرغبة في نشر أبحاثهم على نطاق واسع، بل أيضاً على شركات الذكاء الاصطناعي التي تعتمد على المشاركة في مجتمع المصدر المفتوح كوسيلة فعالة للتوظيف وحل المشكلات وتعزيز سمعتها، وفي الواقع قادت كبرى الشركات الصناعية بعضاً من أهم الإسهامات في مجال الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر، بما في ذلك برنامجي “تنسور فلو” TensorFlow من “غوغل” و”باي تورش” PyTorch من “ميتا” اللذين يعتبران منصات البرمجة الأكثر شيوعاً واستخداماً في أعمال الذكاء الاصطناعي، وكذلك الحال بالنسبة إلى برنامج “ترانسفورمر” Transformer لهندسة البرمجيات الرقمية الذي تستند إليه معظم الـ “إل إل إم” الحديثة، وقد طُور أساساً على يد “غوغل”.
وينطبق الوصف عينه على نماذج للذكاء الاصطناعي مثل “آلفا فولد” AlphaFold الذي يمثل نظاماً ذكياً صنعه “ديب مايند” DeepMind [القسم المتخصص ببحوث الذكاء الاصطناعي في “غوغل”] بغية المساعدة في توقع أنماط التراكيب البروتينية الأساس [التي تكونها الجينات مباشرة]، مع ملاحظة أنه تمتع بدرجة من الدقة ضمنت لمطوريه الحصول على “جائزة نوبل” عام 2024، وعلى مدى عقود حفزت تلك الروحية المنفتحة على جعل الذكاء الاصطناعي حقلاً مثيراً ومتحركاً وسريع التطور، إضافة إلى أنها شكلت أحد الأسباب الرئيسة للإمكانات التكنولوجية والاقتصادية الهائلة التي تمتلكها النماذج اللغوية الكبرى المفتوحة المصدر.
لكن كان هناك دائماً توتر جوهري بين الأنظمة مفتوحة المصدر والأخطار الأمنية المحتملة، كما هو الحال في الحوسبة مفتوحة المصدر، إذ حذّر النقاد من أن الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر يمكن أن يُساء استخدامه من قبل جهات خبيثة، وبسبب هذه المخاوف، إضافة إلى الاعتبارات التجارية وضغوط المنافسة، بدأت كثير من شركات الذكاء الاصطناعي الكبرى في تقديم أنظمتها المتقدمة عبر روبوتات الدردشة أو بوابات الويب الأخرى بدلاً من نشرها علناً، وفي الواقع ينتمي أحد النماذج اللغوية الكبرى الأميركية، “إل لاما” الذي تصنعه شركة “ميتا”، إلى نظام المصدر المفتوح. وبالفعل بدأت المخاوف في الظهور حيال “إل لاما”، ففي نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 أفادت وكالة “رويترز” بأن الحكومة الصينية عدلت نموذج “إل لاما” كي يخدم أهدافاً عسكرية، ومع ذلك أعاد إطلاق نموذج “ديب سيك- في 3” ثم النسخة الأقوى منه “ديب سيك- آر 1″، تسليط الضوء على الفوائد الواضحة والمتفوقة المتضمنة في الذكاء الاصطناعي المفتوح المصدر، ووضعت مجدداً في بؤرة الاهتمام، وتبين أن شركة “ديب سيك” اصطدمت بضوابط التصدير [التي فرضتها أميركا على أشباه الموصلات والتقنيات المتقدمة المتعلقة بالذكاء الاصطناعي]، مما قيد إمكان وصولها إلى الرقائق الإلكترونية الفائقة التطور، وقد عوضت الشركة الصينية عن ذلك بإطلاق العنان لقدراتها إلى حدودها القصوى، واستطاعت تحقيق تطورات في المعادلات الرياضية [الخوارزميات] التي تتحكم بعمل نموذجها في الذكاء الاصطناعي، وكذلك الحال بالنسبة إلى كفاءة استخدام قدرات المعدات والمكونات التي تُكونه كآلة، وبفضل تلك المعطيات استطاعت نماذج “ديب سيك” المفتوحة المصدر أن تنافس الفئة العليا من النماذج الأميركية التي تعمل تحت حماية الملكية الخاصة للمنتجات، وعلى رغم الجدل الدائر حول حجم القدرة الحاسوبية التي استخدمتها “ديب سيك” في صنع نماذجها، إلا أنه من المؤكد تقريباً أنها أقل بكثير مما هو متاح للنماذج الأميركية المنافسة للنماذج الصينية.
في الواقع تتميز نماذج “ديب سيك” بانخفاض كلفة تشغيلها وتوافرها الواسع في مجال المصدر المفتوح لدرجة أنها بدأت بالفعل في تشغيل كثير من التطبيقات الجديدة التي لم تكن مجدية اقتصادياً قبل إطلاقها، وبينما لا يعني ذلك بالضرورة أن نماذج اللغة الكبيرة مفتوحة المصدر مثل نماذج “ديب سيك” ستستحوذ على السوق بالكامل، فإنه لا يمكن تجاهل الاستجابة السريعة والكبيرة التي حظيت بها، فمنذ بداية العام تصدّر تطبيق “ديب سيك” متجر تطبيقات “أبل”، متجاوزاً “تشات جي بي تي”، كما أصبح “ديب سيك- آر 1” النموذج الأكثر تفضيلاً في تاريخ منصة “هاغنغ فايس” Hugging Face المتخصصة في مشاركة نماذج الذكاء الاصطناعي، وقد جرى تبني ذلك النموذج الصيني عينه في شركات أميركية صاعدة رائدة.
ذكاء اصطناعي بمواصفات صينية
أحد الآثار الجانبية المؤسفة للنمو الهائل الذي حققته “ديب سيك” هو أنه قد يمنح الصين القدرة على تضمين القيم الأيديولوجية للحزب الشيوعي الصيني في نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي واسعة الانتشار، ففي عام 2023 أصدرت بكين قواعد تفرض على النماذج اللغوية الكبرى أن تتوافق مع “القيم العميقة للاشتراكية” وتجنب نشر “معلومات إشكالية” أو محتويات “غير مشروعة”، وفي عام 2024 أوضحت “إدارة الفضاء السيبراني في الصين” والتي تعتبر الجهة التنظيمية التي تتحكم بالإنترنت في الصين، أنها بدأت بالتدقيق في نماذج الـ “إل إل إم” الصينية للتثبت من مدى التزامها بالقواعد، مع حظر إصدار النماذج التي تفشل في ذلك.
وليس من الصعب تلمس تأثير تلك الرقابة، فإذا طرحت على “ديب سيك- في 3” سؤالاً عن مذبحة “ساحة تياننمين” عام 1989، يأتيك الرد “أنا آسف، لا أستطيع الإجابة عن هذا السؤال”، وإذا سألته عن عناوين حساسة أخرى فقد يتوقف روبوت الدردشة عن استكمال إجابته في منتصفها، ثم يرد قائلاً “عذرًا، هذا خارج نطاقي الحالي، لننتقل إلى موضوع آخر”، وبدلًا من تقديم معلومات مفيدة عن قضايا مثل السكان الصينيين من الـ “أويغور” والكنائس غير المرخصة في الصين، يقدم روبوت الدردشة نصاً مسطحاً عن قوة حكم الحزب الواحد في الصين، على غرار “نحن نؤمن بصرامة بأنه تحت قيادة الحزب ستستمر سياسات الصين في التحسن وتقديم إسهامات إيجابية في تعزيز الاستقرار والانسجام الاجتماعي”.
وقد أظهرت اختبارات عدة أن ذلك النموذج الصيني قد يصل إلى حد إعطاء أجوبة يجانبها الصواب عن أسئلة عامة من نوع “ما هي أهم الحوادث التاريخية في القرن الـ 20؟”، وعلى رغم الأداء العالي الجودة للنماذج اللغوية الكبرى التي تصنعها “ديب سيك” في مهمات عدة لكنها مبرمجة بصورة واضحة كي تعبر عن أهداف بكين الأيديولوجية، وتتجاهل المعلومات السلبية عن الصين.
ولا يجب الاستهانة بهذا النوع من السيطرة، فقد أثار النفوذ الصيني على تطبيق “تيك توك” بالفعل مخاوف كبيرة تتعلق بالأمن القومي، وربما تحمل النماذج اللغوية الكبرى الصينية من الأخطار على القيم الليبرالية والتدفق الحر للمعلومات ما يفوق تلك المتعلقة بتطبيق “تيك توك”، وقد غدت تلك النماذج الآن في وضع يؤهلها أن تشكل أساساً لمنظومة الذكاء الاصطناعي ضمن أصقاع عدة من العالم، أو جزءاً من ذلك في الأقل، وبالتالي فقد تنشر تلك النماذج بروباغاندا صينية، إضافة إلى تعريضها المستخدمين لأخطار الأمن السيبراني، ومثلاً أرسل تطبيق “ديب سيك” الواسع الشعبية بيانات مستخدميه الأميركيين إلى الصين بصورة مباشرة، وكذلك برهن باحثون بالفعل على إمكان أن يعمل مطورو النماذج الصينية اللغوية الكبرى على تضمينه “عملاء نائمين” sleeper agents، بمعنى مجموعة من السلوكيات الخطرة المزروعة ضمن النموذج بهدف أن تظهر إلى العلن ضمن سياقات معينة ومحددة، وقد باتت تلك المعطيات تشكل خطراً مباشراً منذ أن صارت نماذج “ديب سيك” الأكثر رواجاً وتحميلاً في العالم.
واستدراكاً فربما لا يشكل روبوت الدردشة الصيني سوى بداية حقبة جديدة من الهيمنة الصينية على نماذج الـ “إل إل إم” المفتوحة المصدر، وإذا لم تسارع الولايات المتحدة وشركاؤها إلى تطوير نماذجهم اللغوية الكبرى المفتوحة المصدر وتوفيرها كبديل مؤثر لتلك النماذج المنخفضة الكلفة، فقد يصل الخطر إلى أهم تفوق أحرزه الغرب في الذكاء الاصطناعي، أي الرقائق الإلكترونية.
ربما تُستعمل النماذج اللغوية الكبرى التي تصنعها “ديب سيك” في إرساء سلسلة إمدادات صينية للذكاء الاصطناعي
وبغية فهم العلاقة بين مستقبل صناعة رقائق الذكاء الاصطناعي وبين الأنظمة المفتوحة المصدر في تلك التكنولوجيا، فمن الضروري إدراك الآليات والديناميكيات التي تقف وراء هيمنة الولايات المتحدة الحالية على صناعة الرقائق الإلكترونية الأعلى تطوراً، واليوم تسيطر شركة “إنفيديا” الأميركية وحدها على تصميم رقائق الذكاء الاصطناعي من خلال وحدات معالجة الرسوميات ” graphics processing units، واختصاراً “جي بي يو” GPUs، الرائدة عالمياً والتي تشغل الغالبية العظمى من عمليات الذكاء الاصطناعي، وتهيمن “إنفيديا” الآن على مساحة محورية في منظومة برمجيات الذكاء الاصطناعي بفضل تطبيق كمبيوتر يدعى “سي يو دي إيه”CUDA، تصنعه “إنفيديا” تحت ملكيتها الخاصة، وهو برنامج احتكاري معقد يصعب تكراره ويقوم بترجمة البرامج عالية المستوى التي يكتبها مطورو الذكاء الاصطناعي إلى أوامر محسنة خصيصاً لوحدات معالجة الرسوميات التابعة لها، وبفضل هذه السيطرة رسخت “إنفيديا” موقعها المهيمن في سوق الحوسبة الذكية، حتى إن نماذج “ديب سيك” الأصلية جرى تدريبها في الأصل على رقائق “إنفيديا” التي يُزعم أن الحصول عليها قد جرى بصورة تتوافق مع ضوابط التصدير الأميركية.
ولعله من المغري الاستنتاج بأن الولايات المتحدة قد تلجم التهديد الصيني في الذكاء الاصطناعي عبر فرض مزيد من القيود على رقائق “إنفيديا”، لكن ما إن تُدرب نماذج “إل إل إم” على غرار تلك التي تصنعها “ديب سيك”، يغدو من السهولة بمكان تشغيلها عبر استعمال برمجيات أقل تطوراً، وبالفعل ضمنت “ديب سيك” حتى الآن أن نماذجها ستُشغل على رقائق من فئة “آسيند” Ascend تصنعها شركة “هواوي” التي تعمل مستندة إلى تقنية “وحدة التعامل العصبي” Neural Processing Unit.
[يقصد بتعبير عصب الإشارة إلى تقنية في هندسة الرقائق تجعلها تتعامل مع البيانات بأسلوب يشبه انتقال البيانات والمعلومات في أعصاب الدماغ البشري]، وينتج ذلك النوع من الرقائق في مصانع شركة “إس أم آي سي” SMIC التي تعتبر المنتج الوطني الصيني للرقائق الإلكترونية، وإذا نجحت نماذج “إل إل إم” الصينية في الحصول على حصة كبيرة من السوق، ربما بمعونة من منح الدولة، فقد تتوصل الصين إما إلى طلب تشغيل النماذج اللغوية الكبرى الصينة على رقائق محلية الصنع، أو تقديم حوافز لذلك النوع من التشغيل (يبدو أن شركات صينية تسعى بالفعل إلى فعل ذلك عبر أسعار هجومية فائقة الانخفاض).
وفي ظل هذا السيناريو ومع غياب منافسين واضحين قادرين على تقديم أداء مشابه بكُلف منخفضة للغاية، سيبدأ المستخدمون حول العالم على الأرجح بدفع أموالهم في مقابل رقائق “هواوي”، وسيؤدي هذا التدفق الهائل لرأس المال إلى تعزيز نمو “إس أم آي سي” و”هواوي”، مما يلحق الضرر بشركات مثل “إنفيديا” و”إنتل” و”سامسونغ” و”تي إس أم سي” TSMC التي تشكل الأساس في هيمنة الغرب على صناعة الرقائق الإلكترونية، وإذا اتبعت بكين نهجاً هجومياً فقد يفضي ذلك التغيير إلى وضع تضحي فيه صناعة رقائق الذكاء الاصطناعي على شفا مشهد يشبه ذلك الحاصل في صناعة بطاريات الليثيوم وعدد آخر من الصناعات التي قُلص فيها الغرب إلى لاعب قليل الحيلة، وتتضمن تلك الإستراتيجية الهجومية المحتملة استخدام مزيج من تدفق الأموال الآتية من السوق مع حوافز مدعومة من الدولة بغية الحصول على حصة قيادية في السوق العالمي لرقائق الذكاء الاصطناعي.
وبعبارة أخرى إذا أُخليت الساحة من المنافسين فسيمضي تأثير نماذج “إل إل إم” من “ديب سيك” إلى ما هو أبعد من الكسب السريع لموقع مهيمن في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وقد يغدو من المستطاع استخدام تلك النماذج لبناء سلسلة توريد يقودها الصينيون، مما يؤدي إلى تقويض ريادة الغرب في تصميم وتصنيع الرقائق، ويمنح بكين نفوذاً واسعاً على جزء كبير من تدفق المعلومات القادمة من منتجات الذكاء الاصطناعي، ليس فقط في الصين، ولكن في العالم أجمع.
نحو استراتيجية أميركية جديدة
وبهدف مجابهة الخطر الصيني الجديد تحتاج الولايات المتحدة إلى بذل جهد أكبر لدعم نماذجها اللغوية الكبرى المفتوحة المصدر، وقبل كل شيء يجب أن تنهض الحكومة بأمر تسريع التقدم التقني في نماذج “إل إل إم” الأميركية المفتوحة المصدر وكذلك نشرها وتوزيعها عالمياً عبر جامعات وشركات ومختبرات وطنية، مع إعطاء أفضلية لتلك النماذج التي تعزز الوضع التنافسي للتكنولوجيا الغربية في الذكاء الاصطناعي.
وعلى رغم أن الاستثمار في شركات واعدة للذكاء الاصطناعي المفتوح المصدر على غرار “توغازر إيه آي” Together AI و “هاغنغ فأيس” Hugging Face و”ميسترال” Mistral ارتفع من 900 مليون دولار إلى 2.9 مليار دولار بين عامي 2022 و2023، فإن هذا التمويل لا يمثل سوى جزء صغير من 31 مليار دولار ضختها شركات رأس المال الاستثماري الأميركية في القطاع الأوسع للذكاء الاصطناعي خلال الفترة نفسها.
ولإطلاق العنان لقطاع الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر فينبغي على واشنطن إنشاء حوافز للاستثمار في أنظمة الذكاء الاصطناعي مفتوحة المصدر المتوافقة مع الرقائق الغربية، على سبيل المثال، من خلال فرض تفضيل واضح في برامج المنح والقروض للمشاريع التي تشمل الإفصاح المفتوح عن نتائج أبحاث الذكاء الاصطناعي، كما ينبغي توسيع برامج مثل “المورد الوطني لأبحاث الذكاء الاصطناعي” الذي يهدف إلى توفير وصول الباحثين الأميركيين في مجال الذكاء الاصطناعي إلى الرقائق ومجموعات البيانات، مع الاستفادة من موارد الحوسبة لدى وزارة الطاقة ووزارة الدفاع والمختبرات البحثية الوطنية.
وسعياً إلى تحقيق تلك الغايات ينبغي على الحكومة الأميركية أيضاً التفكير بالشراكة مع مبادرات مثل “ستار غيت” Stargate التي تُجسد التعاون بين شركات “آرم” و”مايكروسوفت” و”إنفيديا” و”أوراكل” و”أوبن إيه آي” و”سوفت بنك” و”إم جي إكس”، والتي ترمي إلى استثمار 500 مليار دولار خلال الأعوام الأربعة المقبلة بغية إرساء بنية تحتية جديدة للذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة.
وكذلك ينبغي على واشنطن النظر في تعزيز المنظومة التكنولوجية الأميركية وصولاً إلى تحسين دعم الذكاء الاصطناعي المفتوح المصدر المصنوع في الغرب، ومثلاً فإن تطوير منظومة حوسبة عابرة للمنصات تعمل بسلاسة متحررة من الشروط، من شأنه أن يتيح للمطورين الاستفادة بسهولة من الأفضل في الرقائق الغربية على غرار “إنفيديا” والرقائق المستندة إلى “وحدات التعامل مع الرسوميات” GPUs التي تنتجها شركة “أيه أم دي” AMD [وهي مشابهة لنظيرتها لدى ‘إنفيديا’]، وسلسلة الرقائق من فئة “إم” M-series من شركة “أبل”، و”تنسور بروسسينغ يونتس” Tensor Processing Units من “غوغل”، وفي حال تحققت تلك المنظومة فستفضي إلى تكوين منظومة متكاملة للحوسبة يصعب على الصين أن تواجهها، وكذلك ستؤدي إلى رفع الطلب على الرقائق الغربية، وفي نهاية المطاف وللتصدي باكراً لخطر الهيمنة الصينية، يجب على الولايات المتحدة جعل تقنياتها أكثر جاذبية، إذ يواصل المطورون والمستخدمون تفضيل سهولة الاستخدام والقوة التي توافرها المنظومة الغربية بالمقارنة مع نظيرتها الصينية.
وإضافة إلى نشر مزيد من نماذج اللغات الكبيرة مفتوحة المصدر، فيجب على الولايات المتحدة أن تقود الموجة التالية من الابتكار في الذكاء الاصطناعي، وعلى سبيل المثال فعلى رغم أن بنية الرقائق الإلكترونية من نوع “ترانسفورمر” Transformer التي صنعتها “غوغل” هي الأساس لمعظم النماذج اللغوية الكبرى المستخدمة اليوم، فإن مقاربات جديدة لبناء نماذج الذكاء الاصطناعي، مثل نماذج “ستراتكشرد ستايت سبايس” من شركة “كارتزيا” Cartesia أو النماذج اللغوية الكبرى القابلة للانتشار التي تصنعها شركة “إنسبشين” Inception، وكلاهما نشأ في مختبرات أكاديمية أميركية، تبشر بتجاوزها.
ويتحتم على واشنطن تمويل تطوير الجيل الثاني من النماذج، وكذلك الحال بالنسبة إلى مبادرات مثل “مايكروإلكترونيكس كومنز” Microelectronics Commons [يحمل الاسم تلميحاً إلى مبادرة ‘كرييتف كومنز’ المفتوحة المصدر لنشر المعرفة]، وهي شبكة من مراكز التكنولوجيا الإقليمية الممولة بموجب قانون الرقائق والعلوم CHIPS and Science Act، إضافة إلى ضرورة دعم الجهود الرامية إلى تصميم معدات مخصصة لتشغيل الهندسات الجديدة في النماذج عليها.
وفي الإطار نفسه يفترض بالمؤسسات الحكومية في البحوث والاستحواذ أن تعطي الأولوية لاختبار وتقييم وتوسيع منتجات معينة تأتي من شركات مثل “غروك” و”سامبا نوفا” و”سربراس” و”توغازر إيه آي” و”ليكويد إيه آي” و”كارتزيا” و”سكانا إيه آي” و”إنسبشين” وغيرها، ممن تراهن بقوة على صنع برمجيات جديدة ومقاربات مبتكرة في صنع المعدات من شأنها أن تُكون الأساس الذي تستند إليه أنظمة الذكاء الاصطناعي الأكثر تقدماً في المستقبل.
وينبغي بواشنطن السعي إلى ضمان ألا تلقي خيارات سياستها في الذكاء الاصطناعي بأعباء مرهقة على قدرة الشركات الأميركية في التنافس مع نظيراتها الصينية في نماذج “إل إل إم” المفتوحة المصدر، وبدلاً من التوسع في فرض ضوابط تصدير على النماذج اللغوية الكبرى المفتوحة المصدر، يجب على واشنطن تقديم حوافز إلى الشركات كي تجعل نماذجها متوافقة مع الرقائق الغربية في مقابل تثبيط مساعي استعمال ما تنتجه الصين منها، وكذلك يجب على “اللجنة الفيدرالية للتجارة” الإقرار بالدور المحوري الذي تنهض به إسهامات الشركات التكنولوجيا الكبرى في الذكاء الاصطناعي المفتوح المصدر، على غرار “تنسور فلو” من “غوغل” و”باي تورش” من “ميتا”، في التنافس مع الاستثمارات الصينية المدعومة من الدولة، ويجب أن توضح تلك اللجنة علانية بأن تلك الإسهامات تعزز الدور القيادي للولايات المتحدة في الذكاء الاصطناعي المفتوح، وبالتالي فإنها تشكل جزءاً من عملية اتخاذ القرار في القرارات المتعلقة بمكافحة الاحتكار.
وكذلك يجب على الولايات المتحدة بذل مزيد من الجهود لمجابهة الجهود التي تبذلها الشركات الصينية لخفض أسعار المنتجات الأميركية للذكاء الاصطناعي، ففي أواخر عام 2024 خفضت شركة “علي بابا” كُلف نموذجها المسمى “كيوين- في إل” بأكثر من 85 في المئة، وعلى رغم أن هذه الخطوة قد تكون نتيجة تحسينات تقنية، فمن المحتمل أيضاً أن الحكومة الصينية قد قدمت دعماً تمويلياً لتلك الشركة بهدف إضعاف منافسيها الغربيين، وبمقدور واشنطن أيضاً التفكير في تطبيق إجراءات مكافحة أساليب الإغراق في الأسعار ضد الأنظمة الأجنبية في الذكاء الاصطناعي، إذا تبينت بوضوح أنها تباع بأسعار بُولغ في خفضها لضرب المنافس الأميركي. [تتضمن أساليب الإغراق في الأسعار خفضها إلى مستوى لا تحقق فيه أرباحاً، بل حتى أقل من ذلك، بهدف إرباك القدرة التنافسية للخصوم].
كما يجب على الحكومة الأميركية منافسة الصين بقوة في البلدان الأخرى، إذ قد تجعل بكين دعمها للبنية التحتية والمساعدات الأخرى مشروطة باستخدام نماذج الذكاء الاصطناعي الصينية، وعلاوة على ذلك، وبالنظر إلى وجود مؤشرات على أن “ديب سيك” ربما استخدم بيانات من نموذج’ تشات جي بي تي’ من دون أذن مسبق بذلك، وبالتالي يجب على واشنطن التفكير في تطبيق ‘قانون المُنتج الأجنبي المباشر’ على مُخرجات نماذج الذكاء الاصطناعي، وقد يؤدي ذلك إلى تقييد استعمال الشركات الصينية لمخرجات أنتجتها مختبرات أميركية ريادية، بالطريقة نفسها التي نجحت في تقليص وصول الصين إلى معدات تصنيع أشباه الموصلات الغربية.
وستكون كل هذه الإجراءات أكثر فاعلية إذا اتبعتها دول أخرى، وستحتاج واشنطن إلى العمل مع شركاء في آسيا وأوروبا وأماكن أخرى لتوحيد السياسات تجاه هذه القضايا المعقدة بهدف إنشاء مجموعة كبيرة من الدول بما يكفي لإبطاء انتشار نماذج الذكاء الاصطناعي المتأثرة بالصين، وعلى رغم أن السوق الصينية ضخمة فإنها لا تزال أقل حجماً مقارنة بالسوق العالمية خارج حدودها، وهذا هو المجال الذي يهم وهو الذي يجب أن تضع الولايات المتحدة له إستراتيجية واضحة لضمان هيمنة المنظومة الغربية في الحوسبة والذكاء الاصطناعي، ضمن المستقبل المنظور.
وعلى رغم أن قيود التصدير الأميركية حدت من وصول الصين إلى الرقائق الأكثر تطوراً، لكن بكين ترى بوضوح أن الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر، المبني على تقنيات أقل تقدماً، يمثل مساراً إستراتيجياً لاكتساب حصة في السوق.
وعلاوة على ذلك فمن المرجح أن تستمر النماذج الصينية في التحسن ليس فقط عبر وسائل مشروعة مثل الابتكار الخوارزمي والتحسينات الهندسية وإنتاج الشرائح المحلية، ولكن أيضاً من خلال وسائل غير مشروعة مثل التدريب غير المصرح به على مخرجات النماذج الأميركية المغلقة والتحايل على قيود التصدير المفروضة على الرقائق الغربية، وتشير هذه الإستراتيجيات إلى أن تحسين الشركات الصينية لقدرة نماذجها على الأداء بكلفة أقل يكاد يكون أمراً حتمياً، ويعزز هذا الاستنتاج حقيقة أن إطلاق نموذج “ديب سيك- في 3” أُتبع بعد أسابيع قليلة بظهور “ديب سيك- آر1” الأكثر تطوراً وقوة.
ومن الناحية المثالية ينبغي لواشنطن أن تسعى إلى ضمان توفر بدائل أميركية متفوقة بمجرد أن تطلق الكيانات الصينية أحدث نماذجها، مما يوفر للمستخدمين خياراً بديلاً عن تبني أنظمة الذكاء الاصطناعي الصينية ويساعد في الحفاظ على ريادة الولايات المتحدة في هذا المجال لأطول فترة ممكنة، وفي هذا السياق يسعى إطار عمل وزارة التجارة الأميركية إلى نشر الذكاء الاصطناعي الذي أعلنته إدارة بايدن في يناير 2025، إلى تحقيق ذلك [توفر بدائل أميركية قابلة للانتشار في مواجهة نظائرها الصينية] من خلال ضبط وتنظيم وتحديد السرعة أو الطريقة التي تنتشر بها تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي من الولايات المتحدة وحلفائها إلى بقية دول العالم، فعلى سبيل المثال يستخدم هذا الإطار معايير مثل أداء النماذج ومتطلبات الحوسبة لتوجيه قيود التصدير، بهدف تمكين الجهات الأميركية من إصدار نماذج تضاهي أفضل النماذج مفتوحة المصدر المتاحة في أي وقت، من دون أن تتفوق عليها بصورة ملحوظة، وعلى رغم التحديات التي تواجه تنفيذ مثل هذه الإستراتيجية، فإن هذا النهج يوفر أساساً لإدارة قدرات الذكاء الاصطناعي، وهو ما ينبغي على الإدارة الحالية العمل على تحسينه، فعلى سبيل المثال يمكن للحكومة الأميركية استخدام مواردها الحوسبية لاستضافة نماذج أميركية متقدمة للباحثين المحليين قبل أن يجري إصدارها علناً.
قُدْ أو اخسَرْ
إن “لحظة لينوكس” في الذكاء الاصطناعي تضع إدارة ترمب أمام خيار حاسم، وباستطاعة الإدارة أن تسارع إلى تنفيذ إستراتيجية شاملة في إرساء قيادة للذكاء الاصطناعي المفتوح المصدر وسبل المحافظة عليها، ويعني ذلك تعزيز الابتكار واجتذاب المواهب العالمية، وضمان التوافق بين تطور الذكاء الاصطناعي والقيم الديمقراطية، إضافة إلى العمل في الوقت نفسه على تأمين الموقع المتقدم للولايات المتحدة في تكنولوجيا الحوسبة، وفي خيار آخر تستطيع إدارة ترمب الاستمرار في الوضع القائم، مع المخاطرة بأن تُسلم أميركا للصين السيطرة على مخرجات أنظمة الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى تفوق حيوي في صناعة معدات الحوسبة، وسيتأتى ذلك التفوق من أن النماذج الصينية الصنع والمفتوحة المصدر ستعدل توجه السوق العالمي باتجاه هندسات الرقائق الإلكترونية الصينية ومنصات أعمال الحوسبة الصينية.
وينبغي على واشنطن أن تشق طريقها بحذر خلال هذا التحول الحاسم، ويجب عليها أن توازن بعناية بين أخطار الإطلاق العلني لنماذج متزايدة القدرة في الذكاء الاصطناعي، وبين تخليها عن قيادة النماذج اللغوية الكبرى المفتوحة المصدر، مع ما يشكله ذلك من خطأ إستراتيجي. ووفق محاججة وردت في يناير 2025 على لسان نائب المدير والرئيس في “مايكروسوفت” براد سميث، فإن الذكاء الاصطناعي المفتوح المصدر يمنح هذا البلد فرصة كي يبرهن على القوى الخاصة التي تحوزها المنظومة التكنولوجية الأميركية، وبالتالي يجب على الولايات المتحدة إعادة إرساء قيادتها التاريخية عبر تطوير نماذج مفتوحة المصدر بالتزامن مع المحافظة على تنافسية منظومتها التكنولوجية والاستمرار في الاستثمار بالمصادر الحيوية الحاسمة، سواء في الرقائق أو المواهب البشرية، وإذا أخذنا بعين الاعتبارات جسامة الرهانات الموضوعة على المحك، فإن الحلول في المرتبة الثانية لا يشكل خياراً.
جاريد دونمون شغل منصف المدير التقني للذكاء الاصطناعي في “وحدة الابتكار الدفاعي” التابعة للـ “بنتاغون” خلال الولاية الأولى لإدارة ترمب وأثناء إدارة بايدن.
مترجم عن “فورين أفيرز” مارس (آذار)/ إبريل (نيسان) 2025
نقلاً عن : اندبندنت عربية