مع اقتراب طائرتنا من أجواء جبل طارق، نبه قائد رحلة “الخطوط الجوية البريطانية” الركاب – في ما يشبه التحذير – إلى وجود رياح وصفها بأنها “نسيم” جنوبي غربي. لكن في الواقع كان ذلك تحذيراً من رياح عاتية من شأنها أن تؤدي إلى تغيير مسار الرحلة، وإلى سماع عبارة غير مرغوب فيها “تحويل المسار إلى ملقة”. فالهبوط في إسبانيا يعني إضافة ساعات طويلة إلى الرحلة.
لكن عندما أجرى قائد الطائرة محاولته الثانية في اتجاه المدرج القصير لمطار جبل طارق وقام بهبوط مزعج مع دفع عكسي قوي، حظي بتصفيق حار من الركاب. والتفت حينها إلى أحدهم – وكان من سكان جبل طارق – وسألته إن كان قد تم التفكير بتوسيع المدرج من قبل، فأجاب بتنهيدة في النهاية “إن كل شيء مرتبط بمسألة السيادة على الأراضي”.
يذكرني ذلك بما كتبه الرحالة وعالم الآثار فرانسيس كارتر في القرن الـ18 عن صخرة جبل طارق، عندما وصفها قائلاً “إن مظهرها لا يحمل أية سمة من الجمال، فهي جرداء قاحلة تكاد تخلو من أية شجرة أو شجيرة فوق المدينة… وعند النظر إلى تلك التلال القاحلة، يصعب على المرء أن يتخيل وجود أية حياة عليها”.
ومع ذلك، يبدي سكان جبل طارق المتنوعين عرقياً ودينياً، الذين يجمعهم جواز السفر البريطاني، تعلقاً قوياً بوطنهم، وهم ينتظرون منذ خمسة أعوام نتيجة المفاوضات على معاهدة جديدة تتعلق بالإقليم، لم يُوقع عليها بعد.
هذا الإقليم ما زال تحت الحكم البريطاني، لكن المياه المحيطة به تشهد نزاعاً مستمراً. وفي حين توسع معظم الدول مطالبها من المياه قبالة سواحلها إلى مسافة 12 ميلاً (19.3 كيلومتراً)، تكتفي المملكة المتحدة بالمطالبة بثلاثة أميال فحسب. وقد وُضعت الحدود المائية لثلاثة أميال لأن الامتداد الذي يبلغ 12 ميلاً عبر الخليج يصل تقريباً إلى ساحل إسبانيا. كذلك يشكل المجال الجوي لجبل طارق قضية شائكة أخرى. فعلى رغم أن إسبانيا عضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، فإنها لا تسمح للطائرات العسكرية البريطانية بالتحليق في مجالها الجوي، مما يفرض على الطائرات التي تقلع من جبل طارق أن تأخذ منعطفاً حاداً للبقاء داخل المجال الجوي للخليج. ووسط هذه القضايا المعقدة، يبقى الشريط الضيق الذي يربط جبل طارق بإسبانيا، بما في ذلك المدرج نقطة خلاف مستمر.
يُذكر هنا أنه منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أصبحت قضية حرية التنقل بين إسبانيا وجبل طارق أكثر تعقيداً. واستغرق التفاوض على معاهدة جديدة بين جبل طارق وإسبانيا والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي خمسة أعوام حتى الآن، وبحسب الوزير الأول لجبل طارق فقد أصبح الاتفاق الآن في مراحله النهائية. وعلى غرار “إطار وندسور” Windsor Framework (المتعلق بحل النزاع على ترتيبات ما بعد “بريكست” المرتبطة بإيرلندا الشمالية)، تهدف هذه المعاهدة إلى معالجة التحديات التي فرضها بروتوكول الحدود (إعادة تعريف حركة الأشخاص والبضائع)، نتيجة مغادرة المملكة المتحدة للكتلة الأوروبية.
وفي تعبير عن مدى الإحباط من استفتاء “بريكست” الذي صوت نحو 96 في المئة من سكان جبل طارق لمصلحة البقاء في الاتحاد الأوروبي، قال لي الوزير الأول للإقليم فابيان بيكاردو بتهكم “بريكست هو الهدية التي تسبب لنا المتاعب باستمرار”.
يُشار إلى أن آخر إغلاق للحدود كان قد فرضه الديكتاتور الإسباني فرانسيسكو فرانكو في الفترة الممتدة ما بين عامي 1969 و1982 لا يزال حاضراً في الذاكرة الجماعية. وأُعيد فتح الحدود بالكامل خلال عام 1985 استعداداً لانضمام إسبانيا إلى المجموعة الأوروبية. وخلال تلك الفترة نفد حتى الأوكسجين من مستشفيات جبل طارق. ولضمان استمرار عمل جبل طارق فهو في حاجة إلى ترتيب يشبه اتفاق شنغن، يسمح لـ15000 عامل يومي بعبور الحدود من إسبانيا دون قيود، مما يزيد عدد الأشخاص الموجودين في الإقليم يومياً إلى نحو 50000.
لمزيد من التوضيح، فإن هؤلاء الأفراد الذين يتولون وظائف في مستشفيات ومدارس وقطاعات مثل الضيافة والبناء في جبل طارق، يحتاجون لأن يعبروا الحدود من إسبانيا دون أية عمليات تفتيش. ومن أبرز الأمثلة على الفوضى التي يمكن أن تحدث في غياب معاهدة، ما حصل خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2023، عندما بدأت الشرطة الإسبانية فرض عمليات تفتيش على الحدود من دون موافقة من السلطات السياسية. وأدى هذا القرار إلى تراكم صفوف انتظار امتدت لأميال، مما تسبب بتعطيل يوم عمل بكامله. وبالنسبة إلى جبل طارق، هناك خط أحمر واضح، لا يمكن أن توجد شرطة إسبانية على الحدود. كما يحتاج كلا الجانبين لاتحاد جمركي، من أجل تسهيل التجارة وحركة الانتقال بينهما.
وفي الأرقام، يبلغ إجمال الصادرات من إسبانيا إلى جبل طارق نحو مليار يورو (مليار و40 مليون دولار أميركي)، وبما أن الإقليم هو ثاني أكبر جهة توظيف في المنطقة بعد حكومة الأندلس، فإن المعاهدة يجب أن تتوافق من حيث المبدأ مع مصالح إسبانيا.
لكن القلق ما زال يساور الجانبين من مسألة التهريب. فإسبانيا تثير مسألة بيع الكحول والسجائر الرخيصة في جبل طارق (الضرائب المنخفضة في الإقليم تجعله وجهة مقصودة للشراء). ومن جانبها، تشير سلطات جبل طارق إلى أن معدل الجريمة منخفض على أراضيها، بينما توجد بعض العصابات الإجرامية المعروفة في منطقة لا لينيا الإسبانية المجاورة. وفي الوقت نفسه، تستخدم المعابر الحدودية أحياناً كوسيلة ضغط من جانب إسبانيا لتذكير جبل طارق برفضها الاعتراف بحكم ذاتي فيه، وغالباً ما تشير إليه على أنه “مستعمرة بريطانية”.
وخلال الآونة الأخيرة، نشب نزاع عندما اتهمت إحدى الصحف الإسبانية الحاكم البريطاني لجبل طارق السير بن باثورست وهو شخصية عسكرية مرموقة، بعبور الحدود لقضاء عطلة عيد الميلاد مع أسرته، من دون الحصول على التصريح اللازم. وجاء الرد من مكتبه بأن جميع الوثائق المطلوبة جرى تقديمها، وأن جواز سفره خُتم وفق الأصول.
إسبانيا تواصل محاولاتها لتقويض وضع جبل طارق كلما سنحت لها الفرصة. فقد طعنت في حق فريق جبل طارق لكرة القدم في الانضمام إلى “الاتحاد الأوروبي لكرة القدم” (UEFA)، وطالبت الأمم المتحدة بإزالة الإقليم من قائمة الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي. وفي خطوة أخيرة، عاد وزير جبل طارق والمحامي نايجل فيثام من بروكسل، بعدما قدم طعناً في مسألة إدراج جبل طارق ضمن القائمة الرمادية (معايير عالمية تقيم مدى التقيد بالقوانين التي تمنع الجرائم المالية)، على رغم أن الإقليم يستوفي جميع المعايير الفنية اللازمة.
جئت إلى جبل طارق بمزيج من الانطباعات الغامضة والمفاهيم الخاطئة. كنت أعلم أنه ميناء عسكري استراتيجي، وأنه من المؤكد أن هناك غواصة نووية أميركية في مياهه، مما أثار استياء الحكومة الإسبانية التي كثيراً ما اشتكت من الأمر. أذكر أيضاً أنه استخدم جبل طارق كقاعدة لتزويد السفن بالوقود أثناء حرب جزر فوكلاند (بين بريطانيا والأرجنتين)، كما أنه المكان الذي بدأ فيه الأمير تشارلز والأميرة ديانا شهر عسلهما. وحاولت زيارته خلال عطلة لي في إسبانيا خلال مطلع ثمانينيات القرن الماضي، لكنني تخليت عن الفكرة بعدما واجهت صفوف انتظار طويلة على الحدود.
أعرف أيضاً عن القردة (وهي مجموعة من فصيلة “المكاك البربري” مرتبطة رمزياً بسيادة بريطانيا على جبل طارق). فقد أصر رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشل على إحصائها وحمايتها لتبديد الأسطورة القائلة بأن جبل طارق لن يبقى تحت السيطرة البريطانية إذا ما غادرت القردة هذه “الصخرة”. واليوم، تظل مسؤولية الحفاظ على سلامة هذه القردة من واجبات الحاكم الراهن لجبل طارق.
المدينة التي تعد حامية عسكرية لا تزال تحافظ على طابعها الأصلي، خصوصاً مع اندماج الصخرة في تصميم كثير من المباني العامة. حتى مبنى “مؤسسة البث في جبل طارق” Gibraltar Broadcasting Corporation (GBC Media) يبدو وكأنه مخبأ محصن. ومن أبرز المعالم السياحية هنا النفق الذي كان الجنرال دوايت أيزنهاور يعمل فيه خلال الحرب العالمية الثانية (على رغم أنه كان يستمتع بمقدار أكبر من الراحة في مقر إقامة الحاكم).
منذ لحظة وصولي، فوجئت أيضاً بالاقتصاد المتنامي هنا، الذي يعتمد على قطاعات مثل الألعاب الإلكترونية (المقامرة والمراهنات عبر الإنترنت)، والتأمين، والشحن البحري. ويحافظ جبل طارق على علاقات تجارية وثيقة مع المملكة المتحدة، بحيث بلغت قيمة الصادرات البريطانية إلى الإقليم خلال عام 2024 نحو 4.6 مليار جنيه استرليني (5.7 مليار دولار)، بينما وصلت صادرات جبل طارق إلى المملكة المتحدة إلى 2.5 مليار جنيه استرليني، إضافة إلى ذلك يتمتع الإقليم بقوة عاملة مؤهلة ومتعلمة، إذ تتولى حكومة جبل طارق تغطية رسوم التعليم الجامعي لطلابها داخل الجامعات البريطانية. وبالنظر إلى المساحة الصغيرة التي لا تتجاوز 6.8 كيلومتر مربع، يلاحظ أن عدد المحامين في الإقليم يعد من بين الأعلى نسبة إلى المساحة، وربما لا ينافسه في ذلك سوى مقاطعة ويمبلدون في إنجلترا.
أما معدل الجريمة في جبل طارق فهو منخفض للغاية، إلى درجة أن الأخبار المحلية تقتصر أحياناً على حوادث بسيطة مثل فقدان خوذة دراجة نارية أو شجار انتهى بجرح في الأذن. وعند وقوع حادثة سطو، تقوم الشرطة التي تتمتع بحضور مكثف، بمراجعة أسماء المفرج عنهم حديثاً من السجون. ففي مجتمع صغير ومترابط كهذا حيث يعرف معظم السكان بعضهم بعضاً، من النادر أن تمر جريمة من دون أن يلحظها أحد.
ويتمتع سكان جبل طارق بشعور راسخ بالهوية، تشكل على مدى قرون من التاريخ، ويعود إلى “معاهدة أوترخت” Treaty of Utrecht الموقعة خلال عام 1713، والتي تنازلت بموجبها إسبانيا عن جبل طارق للتاج البريطاني، مانحة إياه ملكية كاملة للمدينة ومينائها، ودفاعاتها وتحصيناتها.
لكن إسبانيا لم تتوقف منذ ذلك الحين عن الاعتراض على المعاهدة، وكان التحدي الأبرز أثناء الحصار الكبير عام 1779، عندما فرضت قواتها طوقاً مشدداً حول جبل طارق، قاطعة جميع الاتصالات والإمدادات عنه. وأثارت النزاعات في شأن الأراضي مشاعر قوية آنذاك، تماماً كما هي الحال اليوم. وخلال ذلك الوقت، دعمت إسبانيا استقلال الولايات المتحدة، على أمل أن تنال في المقابل دعماً أميركياً لمحاولتها استعادة جبل طارق. ويُروى أن الملك الإسباني كان يسأل كل صباح طوال فترة الحصار الذي دام ثلاثة أعوام “هل استعدناه؟”.
مشاعر الاستياء من “بريكست” ما زالت ملموسة بقوة في جبل طارق. فأثناء الحصار الكبير مُنع دخول المنتجات الطازجة إلى المنطقة، مما جعل السكان يواجهون خطر المجاعة. أما اليوم، فيسخر الأهالي من الوضع بالقول إن المغادرة البريطانية كان السبب الوحيد الذي حرمهم من المنتجات البريطانية الطازجة منذ ذلك الحين. وفي انتقاد للوعود التي قطعها مؤيدو المغادرة، صرح الوزير الأول بيكاردو “ما أود قوله لمايكل غوف (الوزير البارز في حكومات حزب المحافظين) أنه أخطأ في تقييم دور الخبراء كما أخطأ في “بريكست”. لذا، لن أقبل أية نصيحة منه في شأن اقتصاد جبل طارق”.
وفي المقابل، أبدى بيكاردو تقديراً أكبر للحكومة “العمالية” الراهنة، مشيداً بتعهد وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي (لالتزامه إشراك جبل طارق في القرارات التي تؤثر في الأقليم) عندما قال “لن يتخذ أي قرار يخصكم من دون مشاركتكم”. ومع ذلك، لا تزال سمعة وزير الخارجية “العمالي” السابق جاك سترو والسياسي بيتر هاين سلبية ومثيرة للجدل في جبل طارق، إذ ينظر إليهما نظرة مشابهة لتلك الموجهة إلى شخصية غاي فوكس (المرتبطة بالخيانة في التاريخ البريطاني)، وذلك بسبب اقتراحهما خلال عام 2002 بأن تكون هناك سيادة مشتركة في الإقليم بين المملكة المتحدة وإسبانيا (وهو اقتراح لاقى رفضاً واسعاً بين سكان جبل طارق).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إذاً، ما الذي يعوق المعاهدة الجديدة مع إسبانيا؟ فابيان بيكاردو يلتزم الصمت متذرعاً بضرورة التكتم، ويكتفي بالقول إن الوقت قد حان لتوحيد الجهود بين جميع الأطراف – المملكة المتحدة وإسبانيا والاتحاد الأوروبي، وجبل طارق – من أجل اتخاذ خطوة حاسمة نحو الأمام.
مصدر في الاتحاد الأوروبي أوضح لي أن العقبة الأساس تكمن في مسألة المطار، إذ تصر إسبانيا على أنه لا يقع ضمن حدود جبل طارق وفق ما ورد في “معاهدة أوترخت”. وإذا ما مضت مدريد في مطالبتها به، فقد يؤدي ذلك فعلياً إلى عزل جبل طارق.
وفي بيان مشترك صدر خلال أبريل (نيسان) من العام الماضي خلال تولي ديفيد كاميرون منصب وزير الخارجية البريطانية، تمت الإشارة إلى التوصل إلى “اتفاق سياسي عام يشمل المطار والسلع، وحركة التنقل”. لكن منذ ذلك الحين، همد الحديث عن الموضوع ولم يطرأ عليه أي تقدم ملموس.
ويقارن بيكاردو الذي تولى السلطة عام 2011، المفاوضات الجارية في شأن جبل طارق بمسار عملية السلام في إيرلندا الشمالية، ويقول “آمل في أن نكون جميعاً ناضجين بما يكفي للاعتراف بأننا – حتى وإن لم نتمكن من حسم الأمور إلا في اللحظة الأخيرة – كنا نعلم منذ البداية أن النجاح لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال التزامنا الجماعي بالمبدأ الذي تمسك به رئيسا الوزراء جون ميجور وتوني بلير أثناء مفاوضات السلام في إيرلندا الشمالية، والقائل بأن أحداً لا يمكن أن يخسر. لقد نجحت تلك العملية لأن جميع الأطراف خرجت في النهاية بكرامتها”.
هذه “الصخرة” التي هي من أبرز المعالم التاريخية باعتبارها أحد أعمدة هرقل في العصور القديمة، والتي تقع عند نقطة التقاء بين بحرين (الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي) وقارتين (أفريقيا وأوروبا) – تلوح قبالتها أضواء المغرب من جهة، وساحل إسبانيا الذي يبعد 16 ميلاً فقط من الجهة الأخرى – تمثل أيضاً موطناً لاقتصاد رائد حديث. وتطمح إلى توسيع شبكة الرحلات الجوية، واستصلاح مزيد من الأراضي من البحر لبناء مساكن إضافية لشبابها. وخلال الوقت نفسه، تعمل وزيرة الصحة فيها جيما أرياس فاسكيز على تحسين المستشفيات المحلية. لكن، إلى حين أن يتوصل إلى التوقيع على المعاهدة بصورة رسمية، يتعين على الحاكم أن يبقى يقظاً في مراقبة القردة.
نقلاً عن : اندبندنت عربية