أحد التمرينات الدراسية التي نقوم بها أحياناً في فصل “أعوام بلير” الذي أشارك في تعليمه للطلبة في جامعة كينغز كوليدج في جامعة لندن، يتركز حول إعادة النظر في كل الإخفاقات التي منيت بها رئاسة توني بلير للحكومة البريطانية. في آخر مرة قمنا بذلك التمرين تصدر إصلاح نظام الرعاية الاجتماعية قائمة الإخفاقات ولم تُذكر من بينها حرب العراق.
لو كتب لنا القيام بتلك التمرينات من جديد في الفصل الدراسي المقبل، لا بد من أن تحتل قضية أخرى مكانة بارزة – قراره عام 2004، والقاضي بالسماح الفوري بحرية الحركة لمواطني ثماني دول انضمت حينها للتو إلى الاتحاد الأوروبي.
إن الوثائق الحكومية التي نشرها مركز الأرشيفات الوطنية (البريطاني) قبل أيام تظهر القرار من زاوية جديدة. لقد كان قراراً بالغ الأهمية، وقد عُرض كثيراً في فصولنا الدراسية. إن غالب الوزراء السابقين والمسؤولين والمستشارين الخاصين الذين يأتون لتقديم روايتهم عن حكومة حزب العمال الجديد يقرون بأن موجة الهجرة، وبخاصة من بولندا، في الأعوام التالية لم تكن متوقعة. لقد أسهمت هذه الموجة في تدعيم الاقتصاد البريطاني، ولكنها أعطت دفعاً أيضاً لإجراء استفتاء حول الاتحاد الأوروبي.
الرأي السائد حالياً يقول إنه لو فرضت الحكومة القيود على حرية حركة الوافدين من الدول الأعضاء الجدد للاتحاد الأوروبي منذ البداية، كما فعلت كل من فرنسا وألمانيا لكانت بريطانيا لا تزال اليوم عضواً في الاتحاد الأوروبي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن الوثائق الجديدة التي نشرت قبل أيام تكشف عن أن القرار كان محل خلاف أكثر مما تصورنا. كنا نميل للاعتقاد أن النقاشات حول إمكانية تقييد حرية التنقل [للدول الأوروبية التي نالت العضوية للتو] كانت قليلة، ويرجع هذا في الأساس إلى ما أخبرنا به إيد بولز أننا “لم نكن نعتقد أنهم سيأتون”. وكان بولز آنذاك كبير مستشاري وزير الخزانة في حينه غوردن براون [شغل لاحقاً منصب رئيس الحكومة]، وكانت هذه وجهة نظر وزارة الخزانة. وقد تماشى هذا مع السياسة الليبرالية التي انتهجها بلير، مما حال دون فرض أية قيود موقتة من قبل المملكة المتحدة.
ومع ذلك تكشف الوثائق الأخيرة أن وزير الخارجية السابق جاك سترو، ونائب رئيس الوزراء جون بريسكوت، كانا يؤيدان فرض قيود. فقد حث سترو على تأجيل الأمر [السماح بحرية الحركة] لمدة ستة أشهر، قائلاً إنه “إذا لم نتحضر للأمر الآن” فقد تضطر الحكومة إلى تعليق حق العمل لمواطني الاتحاد الأوروبي الجدد “في ظروف غير مواتية أبداً”.
وأيده سترو قائلاً إنه “قلق للغاية في شأن الضغوط الإضافية التي قد ترتبها حركة الوفود الكبيرة على نظام الاسكان الاجتماعي في بريطانيا”.
يبدو أن القرار كان موضع نقاش جاد، إذ عارضه اثنان من أبرز وزراء حكومة بلير. لكن وزير الداخلية ديفيد بلانكيت، والمعروف أنه ليس ليبرالياً في موضوع الهجرة، كان معترضاً على فرض القيود، قائلاً إن الاقتصاد يحتاج إلى “مرونة وإنتاجية اليد العاملة المهاجرة”. وعليه، مع توافق رئيس الوزراء ووزير الخزانة، فقد حصل وزير الداخلية على ما أراده.
وكلما تكشّف مزيد من المعلومات عن حيثيات عمل حكومة حزب العمال الأخيرة، ارتفعت مكانة سترو في تقديري. كان وزيراً مميزاً يتمتع بحكمة استثنائية. لقد عاصر الوقت الذي سبق العمل العسكري على العراق، وكان داعماً لتلك الحرب، لكنه سأل رئيس الوزراء بلير عما إذا كان متأكداً تماماً من قرار المضي قدماً. وها هو مرة جديدة، يستشعر الأخطار السياسية ويطرح الأسئلة الصحيحة.
كانت إحدى المشكلات التي واجهها الوزراء هي المعلومات غير الدقيقة حول العمال المهاجرين. اعتقدت وزارة الداخلية أنها تستطيع تتبع الوافدين الجدد من خلال نظام لتسجيل العمالة الوافدة، لكن أوراق الأرشيف الوطني تكشف عن أن النظام أنتج أرقاماً غير دقيقة، لأنه لم يُطبق بصورة جيدة واستبعد الذين عملوا لحساباتهم الخاصة. استغرق الأمر أكثر من عام لتدرك الحكومة أن أعداد الوافدين تجاوزت بكثير التقدير السنوي البالغ 13 ألفاً الذي قدمته وزارة الداخلية.
الوثائق الحكومية التي رفعت عنها السرية جعلت من تساؤلات “ماذا لو” والمتعلقة بحكومة بلير، تمريناً دراسياً أكثر واقعية: فلو كتب الانتصار لكل من مواقف الوزير سترو ونائب رئيس الوزراء بريسكوت، هل كان ممكناً لبريطانيا أن تتجنب الخروج من الاتحاد الأوروبي؟ في السابق، بدا هذا السؤال مثيراً للاهتمام إلى حد ما، لكنه لم يكن سيناريو معقولاً بدرجة كافية. أما اليوم، فيبدو من المحتمل تماماً أن التاريخ كان ليتخذ مساراً مختلفاً.
بالطبع، وكما هي الحال مع معظم سيناريوهات التاريخ البديل، فإن هذا المسار الزمني البديل يضيع سريعاً وسط عدد من الأمور المجهولة: هل كان الضغط من أجل مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي ليستمر في التصاعد بعد فوز بفارق ضئيل لمؤيدي البقاء في الاتحاد في الاستفتاء؟ وهل كان نايجل فاراج سيظل مصدر قلق للأحزاب البريطانية الكبرى؟
ولكن هناك درسان يمكن استخلاصهما: الأول هو حاجة الحكومة المستمرة إلى معلومات دقيقة حول سوق العمل، وهي مشكلة لا تزال قائمة حتى اليوم. والأمر الآخر هو أنه كان ينبغي على بلير أن يصغي أكثر إلى سترو وبريسكوت.
نقلاً عن : اندبندنت عربية